المادة
أية يونان ( يونس عليه السلام
حِينَئِذٍ قَالَ قَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ: «يَا مُعَلِّمُ نُرِيدُ أَنْ نَرَى مِنْكَ آيَةً». فَقَالَ لَهُمْ: «جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ. لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ هَكَذَا يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي قَلْبِ الأَرْضِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ. ( متى 12 : 38-40 ) .
فكما هو واضح هي جملة قالها السيد المسيح عليه السلام عندما طلب منه اليهود آيه تأييدا لما يقول . و قد علق العلامة أحمد ديدات على الجملة السابقة في كتابه ( ماذا كانت أية يونان ؟ ) و الذي نشره عام 1976 باللغة الأنجليزية ، فقال : إن السيد المسيح عليه السلام يريد أن يقول لهم أن حاله في باطن الأرض سيكون كحال يونان في بطن الحوت أي سيظل في باطن الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليالي و سيكون على قيد الحياة كما كان يونان كذلك في باطن الحوت !
و يبدو أن هذا الرأي لم يعجب علماء اللاهوت النصارى الذين يؤكدون أن السيد المسيح عليه السلام كان في عداد الأموات منذ وقت انزاله من على الصليب حتى قيامته حسب معتقداتهم . و خرج منهم العديد و العديد من العلماء للرد على هذا الرأي بل و تفنيده و اظهاره مظهر من يفتي بغير علم . و من أشهر أراء الرد على ديدات خرج جون جلكرايست و الذي أصدر كتابا بعنوان ( صلب المسيح و قيامته ) و قال فيه ما هو ملخصه أن المسيح كان يقصد الفترة الزمنية التي قضاها يونان في باطن الحوت فقط و لا يقصد حالة الحياة أو الموت فهذا شيء لا نقاش فيه ، و كان ذلك أيضا رأي عالم اللاهوت الأمريكي فلويد كلارك الذي أكد على ذلك في مناظرته مع العلامة ديدات بل و دعاه الى المزيد من الدراسة في الكتاب المقدس حيث أنه ينقصه المزيد من المعرفة !
و أعتقد أن حاله حال كل المبشرين النصارى المحترفين ؛ فهم عادة يجتهدون في أن يوهمون الناس أنهم لا يعرفون الكثير من أمور الدين ، و لا يفهمون كلام الله ، و أنه تلزمهم الدراسة و يعوزهم المزيد من الفهم و التعمق ، و من الأفضل لهم أن " يؤمنوا " بهذا الكلام دون فهم أو مناقشة !!
و هو طبعا رأي مرفوض ؛ فالمسألة ليست من الغيبيات كالملائكة مثلا الذين نؤمن بهم و بوجودهم دون أن نراهم بل هي آية . فحينما يقدم السيد المسيح عليه السلام أية للناس فهو يقدمها واضحة و صريحة ، و ما يُفهم من حديثه الوارد بإنجيل متى أن المعجزة ستكون مثل معجزة يونان ، و العظمة هنا أنها للمسيح الذي هو أعظم من يونان بحسب رواية متى فهو يقول : رِجَالُ نِينَوَى سَيَقُومُونَ فِي الدِّينِ مَعَ هَذَا الْجِيلِ وَيَدِينُونَهُ لأَنَّهُمْ تَابُوا بِمُنَادَاةِ يُونَانَ وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ هَهُنَا! ( متى 12 : 41 ) ، فالكل يعتبرون أن قيامة المسيح من بين الأموات هي التي تجعلها أعظم مما حدث ليونان ، و يتغاضون عن أن العظمة إذ أنها حدثت لشخص المسيح ذاته عليه السلام .
و بالنسبة الى مسألة ( ثلاثة ايام و ثلاث ليالي ) و الذي عرضها العلامة ديدات بطريقة تبين استحالة بقاء المسيح في القبر لهذة المدة نرى أن المدافعون عن الكتاب المقدس يفسرونها بطرق مختلفة فنجد على سبيل المثال جلكرايست يقول أنها اختلاف في حساب الزمن بين العصر الحديث و الحساب المتبع عند اليهود أنذاك ، فيقول : " إن الذين يتكلمون اللغة الإنجليزية في القرن العشرين لا يـتكلمون بتاتاً بطريقة " النهار والليل ". فإذا أراد شخص أن يتغيب أسبوعين مثلاً فإنه يقول ( أسبوعين أو أربعة عشر يوماً ) . ولم أسمع أي شخص يتكلم الإنجليزية يقول إنه سيتغيب ( أربعة عشر يوماً وأربع عشرة ليلة ) . ولكن هذا كان أسلوب الحديث باللغة العبرية وقتها. وبناءً على ذلك يجب أن نكون على حذر من البداية ، فإذا كنا لا نستعمل هذا الأسلوب من التعبير، فلا يمكن أن نستنتج أن المعنى في الزمن الغابر يكون هو نفس المعنى الذي نقصده اليوم. يجب إذاً أن نبحث عن معنى نبوّة المسيح في ظل العصر الذي قيلت النبوّة فيه. ويجب أن نشير أيضاً إلى أن أسلوب التعبير كما كان مستعملاً في اللغة العبرية زمن المسيح. فقد كان عدد الأيام عندهم يساوي عدد الليالي. فمثلاً يقول: " وَكَانَ مُوسَى فِي الْجَبَلِ أَرْبَعِينَ نَهَاراً وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً " ( خروج18: 24 ). ويقول: " فَكَانَ يُونَانُ فِي جَوْفِ الْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ." ( يونان 17: 1 ) ويقول: " وَقَعَدُوا مَعَهُ عَلَى الأَرْضِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَسَبْعَ لَيَالٍ " ( أيوب 13: 2 ). " أ هـ
و هو تفسير معقول إلى حد ما ؛ إذ أن يؤيده جهلنا بطريقة حساب اليهود للزمن في الوقت الغابر ، لولا أن البروفيسور كلارك له رأي أخر فيقول : " أما بالنسبة لمسألة الثلاثة أيام و الثلاث ليالي فإنني أقول أن المسيحيين لم يحتفلوا بالجمعة الحزينة إلا بعد نيفا و ثلاثمائة سنة منذ عهد المسيح ، فبعد مجيء المسيح جدّت عادات كثيرة كان ذلك غريبا على العهد الجديد الذي يعلمنا أن هناك سبتان ؛ السبت الكبير و السبت اللاحق و قد دفن المسيح يوم الخميس و ليس الجمعة و رقد جثمانه بالقبر بعد يومين من السبت ." أ هـ
فمن الواضح طبعا أنه يغير الحقيقة على ما هي عليه برواية الإنجيل لكي يصحح عامل الزمن ، و ليس كتفسير جلكرايست الذي يقول بفارق حساب الزمن مما يؤدي بنا الى خطأ الإثنين في التفسير ؛ فلو كان احدهما صواب لأيده الأخر، فإن كل منهما يريد أن يدور في فلك الرواية و يؤيد بأي شكل و بأية صورة الرأي القائل بموت المسيح على الصليب ثم دفنه ميتا و قيامته من بين الأموات !
و هذا حال المدافعين عن الكتاب المقدس على الدوام ، لذا كان القصد من هذا النقاش هو بيان مدى الأختلاف بينهم في وسيلة الدفاع ، فكل منهم له يحور الموضوع حسب رأيه الخاص و إن كانوا قد اتفقوا في الهدف النهائي و لكن كون كل منهم يفسر الرواية حسب رؤيته الخاصة قد يذهب بالقارئ الى خطأ المفسرين و خطأ الرواية أيضا !
المصدر / صيد الفوائد