المادة

فيزياء اللغة في القرآن

269 | 27-05-2015


يا صاحبي ..
إلى أين أنت ذاهب !! لم يعد لنا في هذا الضجيج مؤنس إلا القرآن ..
حاول أن تخلو بنفسك قليلاً وأن تسترجع ذكرياتك مع هذا الزمان .. كم مرة طعنت من صديق كم مرة صدمت في رفيق؟
البشر هم البشر تحكمهم شبكة من العلاقات يوالون من أجل الدنيا و يعادون من أجل الدنيا رغم أنها لا تعدل عند الله جناح بعوضة !!

يا صاحبي ..
قطار الزمان يمر ، والمحطات تتلاحق ، وأنفاسنا تخمش صدورنا بأظفارها الزجاجية ، وفي طرفة عين سينتهي كل شيء !!
فماذا أعددت ليوم الحساب ؟
يا صاحبي ..
رفقا بنفسك ، عجلة الوقت تدور وأنت في شرنقة ذاتك لا تعمل إلا من أجل حفنة جنيهات ستتحول إلى رماد في قبرك ، لقد جاء من هو أفضل منك و ولى ، ولقد عاش من هو أسوأ منك و مضى ..
يا صاحبي ..
تعال معي نتجول في آفاق القرآن الذي هجرناه و هو أوفى الأصدقاء..
لقد تقدم العلم كثيرا لأنه ترك التعامل مع الأحداث بمنطق الفدان والمتر والساعة وصار يتعامل بالفمتو (1)، ولن يتقدم إيماننا إلا إذا تعاملنا مع القرآن بالفمتو .
إن الذي خلق الكون هو الذي أوحى القرآن ولا بد أن يتوازى مقياس العلم مع رؤيتنا للقرآن ،
لا يمكن للمفسر و لا للمسلم الذي يتدبر القرآن أن يتجول في آفاق القرآن إلا وهو مسلح بأسلحة اللغة والعلم والثقافة .
لقد صاغ القرآن اللغة في بنية هندسية مدهشة سنتعرف على ملامحها معاً مع مراعاة الآتي :
يجب على المفسر أن يكون على دراية بالمعنى القاموسي للكلمة ومستويات دلالتها المتعددة
لابد من معرفة البعد الزماني و المكاني للكلمة (اسم-فعل)
لابد من معرفة طاقة الدلالة لكل كلمة (اسم فاعل-اسم مفعول صيغة مبالغة
لابد من معرفة علاقة الكلمة بغيرها من المفردات في السياق
لابد من معرفة طاقة شكل الحركة (الكسرة أقوى الحركات ثم الضمة ثم الفتحة ثم السكون
لابد من معرفة الإيقاع النظمي والتقديم والتأخير
لابد من معرفة علاقة الكلمة بالمشهد أو السياق أو الخلفية في منظومة الآيات.
وأخيرا .. لابد من معرفة علاقة السياقات في القرآن كوحدة متكاملة ولقد التفت علماء السلف إلى هذا المنهج وأسموه تفسير القرآن بالقرآن.

أمثلة
في أحد مواقع اللادينين العرب على الإنترنت يتهم علماء الإعجاز العلمي بالدجل و التدليس - سيتضح بعد قليل أنهم هم الدجالون المدلسون - وأوردوا بعض الأمثلة على هذا الدجل المزعوم قائلين:
إن كلمة أدنى في قوله تعالى : ((غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) )) [ سورة الروم]
لا يمكن تفسيرها بأنها بمعنى أخفض أو أسفل لأنها لا تكون إلا بمعنى أقرب وذلك لكى يسلبوا من الآية إعجازها العلمي بأن منطقة البحر الميت أخفض منطقة على سطح الأرض واستدلوا ببعض قواميس اللغة على أن أدنى بمعنى أقرب وهذا اجتراء غير علمي وهو ما يسمى بالمنهج الانتقائي وهذا عين التدليس لأن أدنى في نفس القواميس تأتي بمعنى أخفض و أسفل .
لكن القرآن صاغ شيئا مدهشاً و هو البناء الهندسي المتكامل للمفردات فلا حاجة مع هؤلاء للقواميس ولنحتكم إلى القرآن نفسه لنجد أن أدنى جاءت في موضع آخر بمعنى أسفل أخفض و أقل قال تعالى في سورة البقرة:
(( أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ))

مثال آخر
هؤلاء المعترضون على قوله تعالى يا أخت هارون.. في الآية:
(( يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً )) [مريم : 28]
وقالوا إن مريم ليست أخت هارون مع أنه من الممكن أن يكون لها أخ اسمه هارون وقالوا إن القرآن لم يفرق بين مريم أخت موسى و مريم أم المسيح .
نقول لهؤلاء ومن قال إنها أخت بمعناها الحقيقي !
المشكلة أنكم تحاكمون القرآن من منطلق خاطيء وهو افتراض أن فهمكم صحيح تعالوا نحتكم إلى البناء الهندسي للقرآن لنرى أن كلمة أخت و كلمة أخ تأتيان أيضا بالمعنى المجازى .. قال تعالى (( وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )) [الزخرف : 48]
فهل الآيات أخوات حقيقة أم مجازا؟
وقال تعالى في سورة الأحقاف: (( وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم ٍ )) [الأحقاف : 21]
و المقصود ب ( أخا عاد ) هو هود مع أن هودًا لم يكن أخ لعاد ، بل حفيده و بينهما مئات السنين فهل هي أخوة حقيقة أم مجازاً ؟؟
ثم إن سياق الآية في سورة مريم - وهذا هو الأهم - ليس في معرض ذكر نسب مريم لم يقل القرآن إن مريم أخت هارون ، إن سياق الآيات هو التوبيخ لمريم لا ذكر النسب لأنها في اعتقاد اليهود حملت سفاحاً فما علاقة النسب الحقيقي بالسفاح ؟ إنه النسب المجازي للتقوى و الورع الذي عبر عنه بأخوة هارون .

مثال ثالث:
قال تعالى :
(( فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ))[التوبة : 55]
وقال تعالى في في آية أخرى في نفس السورة :
(( وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ )) [التوبة : 85]
فلماذا هذه الفروق اللفظية في الآيتين؟
مقياس الفمتو هو الإجابة لا مقياس الفدان !!
خلفية السياق أو المشهد في في الآية الأولى :
إن الآية الأولى في سياق الآيات التي قبلها والتي بعدها تتحدث عن غطرسة المنافقين وجبروتهم ومراوغاتهم.. فقال تعالى :
(( قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ )) [التوبة : 52]
ثم قال تعالى :
(( قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ )) [التوبة : 53]
ثم:
(( وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ )) [التوبة : 54]
و جاءت الآية 55 في السياق :
(( فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ )) [التوبة : 55]
وتلتها الآية 56 :
(( وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ )) [التوبة : 56]

خلفية المشهد في الآية الثانية :
تمثل الموت والسكون والذل ..
فقال تعالى :
(( وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ )) [التوبة : 84]
و تلتها في السياق الآية رقم 85 :
(( وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ )) [التوبة : 85]
لذلك استخدمت الآية في المشهد الأول في سياق غطرستهم وسائل تأكيد أقوى حتى لا ننخدع بهذه الغطرسة فاستخدم الفاء في كلمة : فلا
ثم زيادة التأكيد بلا: و لا أموالهم
ثم لام التعليل بحركة الكسرة في قوله : ليعذبهم .. و هي الأقوى من (أن) في الآية الثانية في قوله تعالى: أن يعذبهم بحركة الفتحة ثم السكون ، ليس هذا فقط بل إن كلمة( ليعذبهم) اجتمع فيها كسرة اللام ثم ضمة الميم ثم فتحة العين أي ثلاث حركات متعاقبة أما (أن يعذبهم) فإن سكون النون هدأ من قوة الحركات فهدأ من إيقاع المشهد الذي يتوقف قليلاً أمام ذل الموت.
ليس هذا فقط ، بل استخدم كلمة الحياة التي تدل على البهرجة لأنها في مقام الغطرسة وحذفها في مشهد الموت.
فكيف يحق لناهد متولى أو لأب زكريا أن يتكلموا في القرآن! من الذي منحهم الحق ؟ إنه الشيطان !!

مثال أخير:
قال تعالى في سورة فصلت :
(( فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ )) [فصلت : 38]
وقال سبحانه في سورة الأعراف:
(( إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ )) [الأعراف : 206]
لماذا وضع له بعد يسبحون في الأولى ولم يضعها في الثانية ؟
الحل في الفمتو.. و السياق
الآية الأولى تتحدث في سياق التسبيح التعبدي أي السجود
قال تعالى في الآية التى قبلها:
(( وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ )) [فصلت : 37]

والآية الثانية في سياق ذكر اللسان ..
قال تعالى في الآية التى قبلها:
(( وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ )) [الأعراف : 205]
و لذلك استخدم هنا أوقات النهي عن الصلاة الغدو بعد الفجر والآصال قبل المغرب.

وأما بخصوص قوله تعالى .. ((لا ينال عهدي الظالمين))
فإني أسألكم أولاً.. هل نقول أدركتُ رحمةَ الله أم أدركتني رحمةٌ الله ؟
إن الله هو الذي يختار أولياءه قال تعالى قبلها مباشرة : ((إني جاعلك للناس إماما))..
فكانت الآية :
(( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ))[البقرة : 124]
فالله هو الذي يختار، لكنكم تصرون على قلب الحقائق و تريدون الظالمين فاعلا كيف؟ هل ينصب الإنسان نفسه نبيا أو أماما أم الله؟ عهد الله هو الذي يختار

أرأيتم روعة واتساق كلام الله..
الحمد لله على نعمة القرآن.
فلتخرس ألسنة الذين لا يستطيعون أن ينطقوا جملة سليمة، ونكرر نحن على استعداد للحوار الثنائي أمام الملأ في أي مكان ، حواراً لا من طرف واحد فقط ، بل حواراً يفضح جهلهم فلا تستطيع المساحيق التي يدهنون بها الباطل أن تخفي وجوههم القبيحة.


------------------
(1) الفمتو هي وحدة قياس صغيرة جداً..
فمثلاً..
" الفمتو ثانية " تعادل واحد على مليون بليون من الثانية أي 10 قوة – 15 من الثانية ، وهو الزمن الذي يجب أن تصل إليه تقنيات التصوير بالليزر حتى يمكن رؤية الحالات الانتقالية للتفاعل الكيميائي بين الذرات .


تصميم وتطويركنون