المقال

نحو ابتعاث آمن

297 | 28-11-2014




بسم الله الرحمن الرحيم


يُبنى التعليمُ في سائر بلاد العالم على سياسة الدولة ، فكل دولة تنتهج لها نهجا لتضع قدمها على سلم الصدارة ، وتذلل في سبيل ذلك كل صعبٍ وعَصِي ، ومنظومة التعليم تبعا لذلك تنشأ عن قيم: الولاء، والتميز، والريادة ،والإبداع والتي أضحت الرؤية والرسالة في كثير من المؤسسات تدندن بها وتنطلق منها.

ونحن في المملكة العربية السعودية لا نتكلف الصدارة فقد أوتينا إياها بدعوات أبينا إبراهيم عليه السلام :

(فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)
وبدعوته صلوات ربي وسلامه عليه :
(وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ)

فمكة، والمدينة، وبعثة محمد -صلى الله عليه وسلم - كافية لأن تخلق الولاء والانتماء لبلادنا المباركة ويشاركنا فيه مليار مسلم بل يزيدون .

فإذا سعينا لأن تتصدر مملكتنا على جميع الأصعدة فحق لنا بل ينبغي أن تقود بلاد الحرمين ركب الحضارة ، وقد أغدق الله عليها من كل الثمرات وجعلها قبلة المسلمين ومهوى الأفئدة .

والحضارة صنفان :
إنسانية ، ومادية ، والإسلام جاء بقيم الحضارة الإنسانية وأرسى دعائمها وبقدر ظهور الإسلام عقيدة، وعملا ،وسلوكا تبرز الحضارة الإنسانية في أبهى صورها وبقدر التفلت من هذه التعاليم والقيم الإسلامية يضعف بنيانها ويتحمل المسلمون تبعية هذا الضعف ومسؤوليته والإسلام منه براء ، ولعل هذا يفسر المقولة الشهيرة ( ياله من دين عظيم ، لو كان له رجال ) . وأمر الإسلام كذلك بعمارة الأرض وفق ما تمليه تعاليم الشريعة الإسلامية .

و القيادة والسيادة لا تكون إلا بدعم الحضارة المادية للحضارة الإنسانية ، لذا سعت وزارة التعليم العالي في السنوات الأخيرة لاستحداث برنامج الملك عبدالله خادم الحرمين الشريفين للابتعاث ، ولكنه وللأسف وفق كل المعطيات(الملحوظة) مع الأسف متخبط الرؤى ، فوضوي الإدارة ، وكأن الابتعاث والزج بالشباب والفتيات لبلاد الغرب مطلب لذاته وليس وسيلة لنهضة البلاد . فالتعليم العالي يُربط بسوق العمل والابتعاث آلاف مؤلفة تخرج وتعود لتزيد أرقام البطالة ، أو تسلك مسلكا وظيفيا مخالفا لما بعثت لأجله .

وإذا كان المبتعث أحد منسوبي وزارة التعليم العالي فسيخرج المعيد أو المحاضر أو تخرج المعيدة أو المحاضرة ، وهي تعلم أنه لا خيار لها سوى أن تخرج أو أن توأد أحلامهم العلمية كما وئدت من قبل لدى أقرانهم أو قريناتهن اللاتي رفضن الابتعاث لأسباب اجتماعية ،أو دينية ،أو أسرية فكان الحرمان نصيبهم ونصيبهن ونصيب البلاد التي حرمت كفاءات فذة لو أتيح لها المجال دون إلزامية الابتعاث .

والأدهى والأمر التغيير الحاصل في تركيبة المجتمع الأسرية والقيمية ؛ فقد ضبط علماؤنا الابتعاث للتعليم والدراسة لبلاد الغرب بضوابط :


( 1-الحاجة للعلم وأن يكون لا يوجد في بلاد المسلمين
2- العلم الشرعي الذي يحمي الطالب به نفسه من شبه وشهوات الغرب الخطافة )
وعمدت جامعة الإمام في ماضيها لدورات مكثفة تقيمها لمن سيخرج للدراسة في الخارج .لقد كان الهدف العلم لذاته لا الفكر ،ولا النمط ،ولا الزي الغربي كما هو ملاحظ من بعض من خرج ولم يعد كما كان ، ولا أعمم ولكنه ظاهر وموجود.

فالحصانة الفكرية والشرعية رفيقة للمبتعث وزاد يتزود به قبل الخروج ، بينما الآن وفي زمن تقارب فيه العالم بوسائل التواصل الحديثة وبات محملا معها بالغث والسمين ، حدث عكس المرجو زُج بالطلاب والطالبات دونما تهيئة فكرية ،أو إدارية، أو حتى ثقافية عن البلد والمكان والشعوب ، فكل الأمر اجتهادات شخصية من الطلبة المبتعثين ،وكل يحمل معه موروثاته الأسرية والدينية على تفاوت، ويبدأ العيش هناك على صعيدين: فثابت وناقل لصورة مشرفة عن الإسلام والمسلمين ، يتمثل الاتقان وقيم الإسلام فيكون حينها إما ناج بنفسه ،أو معرض للسجن -وما حميدان التركي عنا ببعيد - أو معرض للقتل كما كان من المبتعثة المنقبة شهيدة الحجاب ناهد المانع التي لازالت دماؤها تدين التعسف والالزام بغير حق والذي تمارسه الجامعات ضد طالباتها ، إما الخروج للخارج ،أو الخروج من السلك التعليمي ، أو الخروج وتقديم من هو أدنى !!

وأما الصنف الثاني فأترك للرافعي أن يصفه واقرأ كلماته بعيون اليوم ولن تجد فارقا يذكر


يقول الرافعي:
"جاء حضرة صاحب السعادة فلان لزيارة الباشا وهو رجل مصري ولد في بعض القرى ما نعلم أن الله تعالى ميزه بجوهر غير الجوهر، ولا طبع غير الطبع، ولا تركيب غير التركيب، ولا زاد في دمه نقطة زهو، ولا وضعه موضع الوسط بين فئتين من الخليفة غير أنه زار فرنسا، وطاف بإنجلترا، وساح في إيطاليا، وعاج على ألمانيا، ولون نفسه ألوانا، فهو مصري ملون، ومن ثم كان لا يرى في بلاده وقومه إلا الفروق بين ما هنا وبين ما هناك"

(رأيته يتكلف نسيان بعض الجمل العربية ليلوي لسانه بغيرها من الفرنسية لا تظرفا ولا تملحا ولا إظهارا لقدرة أو علم، ولكن استجابة للشعور الأجنبي الخفي المتمكن في نفسه، فكانت وطنية عقله تأبى إلا أن تكذب وطنية لسانه، وهو بأحدهما زائف على قومه، وبالأخرى زائف على غير قومه)[1]

إن الأمر المحزن أن القائمين على التعليم لم يظهر لهم أن الإنسان يفكر بعقل اللغة التي تسيطر عليه، وما اللسان إلا ترجمان عن العقل ، فمثلث الهوية :(اللغة ،والدين ،والتاريخ) غائب كليا عن التخطيط الاستراتيجي للتعليم العالي بدليل النظرة المادية الدونية للمنتسبين لهذه التخصصات ، وهل السعي المادي والطب والهندسة إلا علوم تخدم جسد الإنسان ، وهل الإنسان إلا بروحه وهويته واعتزازه بدينه ولغته وسلفه وتوثبه لبناء المستقل وفق ذلك . فلماذا هذا التهميش ؟!لا أقول نتيجة للابتعاث ففي الخارج سيكون ذلك على الأغلب الثمرة المرة . ولكن السؤال لماذا لا يوجد أي اعتبار لها في تعليمنا العالي وفي جامعاتنا المحلية ؟ ملتقى يُعقد المتحدث عربي، والحضور كذلك ،ولغة الملتقى الإنجليزية ؟ ولماذا تفتتح كليات ويكون التعليم فيها باللغة الإنجليزية؟ والمضحك تحت مسمى كليات خدمة المجتمع ! وهل سيوظف خريجوها في إنجلترا أم في المملكة العربية السعودية ؟وضع تحت العربية خطين ،وهذا الجرح استشرى في العالم العربي وليس جامعاتنا (أما على مستوى التعليم الجامعي، فمن السلبيات الكبرى أن جميع الأقطار العربيةباستثناء سوريا تستعمل اللغة الإنجليزية أو الفرنسية (في بلاد المغرب العربي وموريتانيا)كلغة للتدريس، خصوصا فيما يخص المواد العلمية. وهذا يدل على ضعف وقلة المصادر العلمية المكتوبة بالعربية والاستهتار بها. في أحدث دراسة لقياس جودة التعليم الجامعي نشرت في تموز عام 2012، حصلت ثلاث جامعات سعودية على المراكز الأولى على المستوى العربي (أولها جامعة الملك سعود في المركز الأول عربيا و237 عالميا([2]

إذا لم يغن عنا الحديث بلغة أجنبية شيئا لقد كنا في المئة الثالثة فتعليمنا العالي وإن لم يكن مختطفا إلا أن معالم سياسة التعليم التي حبرت في يوم ما من قبل ولاة أمورنا -حفظهم الله -بدأت تغيب عنه ؟ في حين بلاد الشرق الأقصى تتصدر و تفرض هويتها ولغتها النكرة على أبنائها ومناهجها بل والمبتعثون إليها، فكوريا على سبيل المثال تعد اللغة الكورية 80% من لغة التعليم وتفرضها على جميع الدارسين وإليك هذا الرابط لوزارة التعليم العالي حول التعليم في كوريا وهذا من المفارقات :


لقد كنت إبان عملي في جودة التعليم أعجب من التجربة الكورية، كنت أقرأ عنها وأظن أنها مشوبة بالخيال ، القرى والمدن تعج بالتعليم ، التعليم تربية للصغار ،و الأسرة ملزمة بالمشاركة لدفع الركب العلمي فهي شريك في بناء الطالب وليست مستهلكا فقط .

إذن ما الحل والعلوم المادية تصدر فيها الغرب ؟ الحل قريب من دارنا ، المليارات التي تصرف للابتعاث يمكن بنصفها أن تنشأ مدينة تعليمية في كل منطقة من مناطق المملكة، تكون الأقسام التعليمية فيها وفق الاحتياج الذي تفرضه الظروف البيئية لكل منطقة فالمناطق الزراعية ليست كالساحلية وليست كالصحراوية أو الجبلية ، وبذلك نضمن أن سوق العمل سيكون مرتبطا بالمنطقة ويحفظ أبناء البلد من التنقل والشتات الوظيفي ، وما تجربة المدينة التعليمية بقطر عنا ببعيد ، لقد استقطبت قطر في مدينتها التعليمية جامعات عالمية ، وفي فروع متعددة طب ، هندسة تصاميم ، كيمياء ،بل حتى العلوم الإدارية

فلماذا لا تنشأ بنية تحتية قوية مجهزة ، يشرف على بنائها فريق من ذوي التخصص وفق الاحتياجات العلمية الحديثة وعلى غرار الجامعات العالمية ، ويستقطب للتدريس النخب من علماء الدول الغربية ، ويفرغون لتدريس ذوي المؤهلات العليا من الماجستير والدكتوراة ، وفي غضون سنوات معدودة سيكون لدينا فريق وطني في شتى العلوم يتصدر هو لتدريس أبناء الوطن ويقنن للخروج للدراسة بدراية وعلم محسوب . ولماذا لا تنشأ أقسام نسائية تعنى بالمرأة وفق الشريعة الإسلامية تقف سدا منيعا ضد الهجمات التي توجه للمجتمع وتستغل فيها المرأة في كل صغيرة وكبيرة ، وتعرف فيها المرأة مالها وما عليها ،فيصعب اختراقها أو استغلالها؟ ، ومثل هذه الأقسام لا تربط بسوق عمل لأنها متطلب مجتمع ودولة قبل ذلك .

وأخيرا..إن مطالبتنا بتعليم عال على ركيزة علمية متينة ، وثوابت لا حياد عنها من الدين واللغة والتاريخ ، هو ضرورة تفرضها كل المعطيات التي نعيشها ، عدو متربص بالبلاد ، وقلوب مسلمين ترى في بلاد الحرمين القدوة ،وينبغي للقدوة أن يثبت أمام كل متغير يهز صورته ، وقبل ذلك شكر لله المنعم الذي أعطانا يوم حرم الكثير ،ولا يكون شكر النعمة بالابتعاد عن الدين، أو عن اللغة التي شرفها الله بحمل كلامه وإلا كنا كمن وصفهم الله:
(يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)

بقلم :
د. وضحى بنت مسفر القحطاني

أستاذ النقد الإسلامي الحديث
جامعة الدمام


-----------------------------

[1]- وحي القلم للرافعي ج2
[2] -ويكبيديا / التعليم في العالم العربي .

تصميم وتطويركنون