المقال
في موقف الحافلة
المحطة السابعة
في تمام الساعة الرابعة عصراً امتطيت الحافلة من إحدى المجمعات التجارية التي تقع على طريق ( 148 ش غ ) متجهة إلى الجامعة لحضور إحدى المحاضرات المسائية التي تبدأ في الساعة السادسة مساءً .
لقد اخترت الجلوس في أحد المقاعد القريبة من باب الحافلة لكي يتسنى لي النزول قبل الركاب الآخرين حينما تتوقف الحافلة في المحطة التي أريدها.
توقفت الحافلة في محطة قريبة من مسجد مدينة بلفيو، وصعد الباص رجل تدل ثيابه الرثة وشعاثة شعره على أنه ممن يفترشون الشوارع ليلاً حيث لا مأوى لهم. حولت ناظري عنه لكي لا يحرج بتعبيرات الرثاء التي ارتسمت على وجهي فأنا حينما أضطر للخروج ليلاً وأشاهد هؤلاء يفترشون الصفائح الكرتونية في الشوارع لكي يناموا عليها تتقطع نفسي حسرة عليهم وتنطلق الشتائم مني على الحكومة الأمريكية التي لا توفر لأبناء أمريكا ملاجئ تقيهم البرد القارص .
عدت أنظر إليه من جديد حينما وجدته يقف أمامي ويكاد حذاؤه بلامس حذائي . لقد كان يحدق بي بطريقة لم أعهدها من أبناء العم سام، لذلك حدست بأن نظراته ليست موجهة لي شخصياً ولكنه رجل ( أعمى ) ويريد أن يجلس على الكرسي الذي أجلس عليه ولذلك يريد أن يتأكد من أن المقعد خالٍ . ولقد تأكدت من صحة حدسي حينما لم أسمعه يوجه كلمة ( شكر ) لي عندما غادرت المقعد وأتحت له فرصة الجلوس عليه.
جلست على أحد المقاعد الخالية القريبة من مقعدي السابق وكم كانت دهشتي كبيرة حينما رأيته يفتح حقيبة تعادل في حجمها حقيبة طلاب المدارس ويخرج منها جريدة كي يقرأها.
المجرم.. الحاقد.. لم يكن أعمى ولكنه كان يحدق بي عمداً لكي يأمرني بمغادرة مقعدي. آه لو كنت أعلم.. لزجرته وقلت له ( الباص ما هو باصك ).
لقد كانت هناك ثلاثة مقاعد خالية قريبة من المقعد الذي كنت أجلس عليه، ولكنه اختار أن يجلس على المقعد الذي تجلس عليه امرأة محجبة، بالرغم من أننا نعيش في مجتمع لا تجيز قوانينه وأعرافه أن يطلب رجل من امرأة مغادرة مقعدها في وسائل النقل العامة لكي يجلس عليه هو ( يعني شين وقواية عين )!!
اشتعلت نيران الغضب في رأسي، فأخرجت كتاباً من حقيبتي، ورحت أتشاغل بقراءته محاولة إبعاد سلوك الراكب من ذاكرتي .
بعد عدة أيام تصادف أن امتطيت الحافلة في تمام الساعة الرابعة عصراً من نفس الطريق السابق. توقفت الحافلة قريباً من مسجد بلفيو وإذا بي افاجأ بنفس الرجل يصعد إليها. هنا ابتسمت وجمعت أسلحتي وتحفزت للمعركة بطريقة تشابه تحفز القط حينما يتهيأ للانقضاض على فريسته. لقد قررت بأن ألقنه درساً يجعله يتحاشى جميع النساء المحجبات في أمريكا.
وقف قبالي وأخذ يحدق بي كعادته مما أثار انتباه الركاب الجالسين على مقربة منا فأخذوا ينظرون إلينا باستغراب. نظرات الركاب جعلتني أقرر أن لا أتفوه بكلمة واحدة ( ما هو كفو أحاكيه ) .
أخذت أتابع المناظر المتحركة من خلال نافذة الباص متظاهرة بأنني لم أره. حينما أدرك أنني سوف لا أتزحزح عن مكاني اختار المقعد المقابل للمقعد الذي كنت أجلس عليه وجلس. لقد أثار سلوكه جملة من التساؤلات في ذهني من ضمنها:
إنه في كل مرة يصعد الحافلة من موقف مقابل لمسجد بلفيو.. فهل حركت أضغانه رؤيا بعض الشباب المسلمين بردائهم الإسلامي وطواقيهم البيضاء؟
هل أراد أن يعطيني رسالة ملخصها بأن هذه البلد ليس بلدك وليس لك الحرية في الجلوس في الباص حيث تشائين؟
هل يمثل هذا الرجل الشريحة الحاقدة على المسلمين والتي أتاحت لها أحداث سبتمبر الفرصة للمجاهرة بكراهيتها ومحاولة استفزاز المسلمين؟
في هذه المرة قررت أن أحتفظ بهذه الحادثة في أعماق ذاكرتي لكي استخدمها في وقت تتاح لي فيه الفرصة للتعبير عن معاناتي كمسلمة تعيش في أمريكا.
بعد ثلاثة أسابيع وفي أحد المحاضرات التي تناولت موضوع معاناة الأعراق الغير أمريكية من التفرقة العنصرية تحدثت عما حدث لي مع ذلك الراكب بهدف إحراج العنصر الأمريكي بسلوكيات أبناء جلدته. لقد تجاوب بعض الحاضرين ممن ينتسبون إلى أعراق غير أمريكية واستنكروا سلوك ذلك الراكب، بينما احمرت وجوه أبناء العم سام خجلاً ولم يجدوا تبريراً يقدمونه. أما الأستاذ وكان إفريقياً أمريكياً ( أفروأميركان ) فقد روى قصة حدثت له شخصياً توضح عنجهية السلالة البيضاء وضيق نظرها وتوهمها بأن ( الإنسان الأمريكي ) يفوق غيره من الأجناس الأخرى.. وهنا انتهزت فرصة الحديث عن التفرقة العنصرية فأوضحت بأن الإسلام قد وضع لها حلاً قبل أربعة عشر قرناً حينما اختار نبي الهدى صلى الله عليه وسلم ( بلال ) ليكون أول مؤذن في الإسلام.. ومن حسن الحظ كان الأستاذ قد قرأ الكتاب الذي أصدره ( مالكوم أكس ) عن الإسلام..
فاستشهد بعبارة منه توضح المساواة في الإسلام .
بعد انتهاء المحاضرة استنتجت بأنني قد اتبعت الطريقة المثلى لتصريف الغضب، فلقد كتمت غضبي في الحافلة وأعطيت الركاب صورة حية لخلق المسلم ( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) ثم عبرت عن غضبي واستيائي بين مجموعة من المثقفين وأوضحت بأن الديمقراطية تكاد تنعدم في مجتمع يدين بالتعددية ويحتضن تمثال الحرية.
تحرير: حورية الدعوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »