المقال
البرَاجمَاتِية مَركِبُ التغريِب الخَفِي !
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
لا يخفى على المُطلِع في زماننا غلبَة القوى الفكرية على القوى العسكرية ,
وانتصار القلم والفكر على العِدة والعتاد.
فأسهل طريقة لسيطرة بلد على آخر لمدة أطول وآثار أعمق هي (السيطرة الفكرية)
.
وهذا ما نراه واقعاً ابتداءَ من العولمة انتهاءَ بموجات التغريب التي اعترت
مؤسساتنا التعليمية خاصة وثقافتنا الاجتماعية عامة بدون أن نشعر!
الآن بدأ المجتمع يسير لا شعورياً نحو تطبيق الفلسفة البراجماتية الأمريكية
المنشأ الرأسمالية الاتجاه.
فالمجتمع الأمريكي تنبثق ثقافته من الفلسفة البراجماتية ويستند عليها في
جميع أموره (السياسية – الدينية – الاقتصادية – الاجتماعية) فهو مجتمع
(براجماتي) جُلَ مُرادِه النفعية العملية فقط !
الهدف من هذه السياسة تحويل المواطن إلى (آداة منتجة للدولة) فلو تلحظ أن
الأمريكي منذ أن يصل إلى المرحلة الثانوية يبدأ التخصص في مجال عمله ويدعم
ذلك بدراسته الجامعية ثم تتمحور حياته كلها في هذا العمل بساعات طوال !
فمن تخصص بالميكانيكا أو الهندسة تجده عادة لا يفقه بغيرها !
فهو طوال النهار إلى ساعات متأخرة منه في عمله ثم يعود إلى البيت منهكاً
يتناول عشاءه وينام ويستيقظ إلى عمله وهكذا تمضي أيامه عمل في عمل في عمل
وإجازة نهاية الأسبوع يقضيها ما بين (الشواطئ وملهيات الحياة الدنيا).
أين وقت العائلة؟ الدين والعبادة؟ لا يوجد!
كما غُرست في قلوبهم قيم دينية عوجاء وهي أن الإيمان أصله القلب وهذا كافٍ!
فترى الكنائس هجرت إلا من القليل من كبار السن!
أماكن العبادات عندهم بتنوعها لا يُتعبد بها , الكل يلهث وراء المادة.
حتى أن من يسكنها من العرب اكتسبوا هذه الثقافة فهو ينتسب للإسلام اسماً
فقط مردداً أؤمن بالله ورسوله في قلبي وهذا هو المهم !
ولو سألت مواطناً أمريكياً ما هدفك في الحياة؟ لأجابك مباشرة :
الحصول على عملِ جيد لكسب المال!
أصبح عامة الشعب الأمريكي مُغيب عن العالم الخارجي فهو يدور في نفس الحلقة
النفعية التي رسمتها له سياسة الدولة دون أن يشعُر
فلو سألت أمريكياً عن السعودية لأجابك:
صحراء قاحلة , خيمة كبيرة ومجموعة من الجِمال يلازمها و يرعاها رجلَ أشعثٌ
أغبر !
لا تقتصِر هذه الفلسفة على أمريكا ففط بل عامة الدول الغربية هذا هو توجهها
القائم الآن , لكن استشهدت بأمريكا كونها مُولِد البراجماتية ومحضِنها
الأول.
المجتمع السعودي للأسف بدأ بخطواته الأولى نحو البراجماتية التغريبية !
فصارت ( ربة البيت) سمة منبوذة ! بل مشكلة يجب وضع الحلول المدروسة لها !
وما إن تتم الفتاة دراستها النظامية حتى تنهال عليها الأسئلة:
(ما توظفتِ؟ طيب ما دورتي وظيفة؟ يا بنت الحلال أي وظيفة لو راتبها ألفين
بس لا تجلسين بالبيت)
عجبا عجباَ وكأن المرأة خُلِقت لتعمل وتكدح وتُنفِق على نفسها وأسرتها !
بل يشتدَ عجبِي عندما تكون هذه مطالب امرأة متزوجة ! فتراها تسعى جهدها
بحثاً عن وظيفة هنا أو هناك مُتناسية وظيفتها الأساسية تربية أبنائها ! .
( لست ضد عمل المرأة أبداً لكن ليس بالصورة التي نُعايشها الآن)
أخرجوا النساء من بيوتهن لميادين العمل بطريقتين:
الأولى: بعملِ مقبول دينياَ واجتماعياَ بعدد ساعات مُناسبة. (معلمة
– مُحاضِرة – دكتورة جامعية – إدارية في بيئة عمل نسائية)
الثانية: إقحام المرأة في ميادين جديدة بدواعي حاجة المرأة للعمل
وحاجة العمل للمرأة , فرأينا من تعمل بمصانع (أدوات الإضاءة والمكيفات كذلك
الأعمال الفندقية بل حالبات الأبقار!!) وهذا ما يتماشى مع أهداف التغريب
والبراجماتية.
بالنسبة للطريقة الأولى فقد صعُب على رجال التغريب أن يروا السواد الأعظم
من النساء يعملن في بيئة نسائية محافظة فعمِدوا إلى حيلة (إطالة المدة
الزمنية التي تقضيها المرأة في العمل) فأصبح من المستحيلات أن يتم تعيين
المعلمة في نفس مدينتها (رغم نقص الكوادر التعليمية فيها ) فزَج بها في
ربوع المملكة الحبيبة , فلم يهدأ لهم بال حتى أخرجوها من منزلها قُبيل
الفجر إلى وقت العصر !
فسمعنا بقرى لم يصلها الماء والكهرباء بل لم تصلها الخدمات الصحية بعد ,
لكن حرص المُخلصين على إيصال التعليم لهم والضحية هذه المرأة المغلوب على
أمرها !
ومن آثار البراجماتية الخفيِة زيادة عدد ساعات العمل للنساء, فامتدت ساعات
الدراسة الجامعية إلى وقت العصر وما بعد العصر
فصار من الطبيعي أن تقول الفتاة: لم أرجع إلى البيت إلا عند الخامسة عصراً
!
وعلى مدى عقود مضت كان الدوام الرسمي في الجامعات والكليات ينتهي ظهراً
بمخرجات تعليمية ذات كفاءةٍ عالية لا تُقارن بهشاشة المُخرج التعليمي
الحالي !
صُور تطبيق البراجماتية على المرأة أكثر لأنها مركز المجتمع ونواته الأولى
,وعَظُم خًبثها لأن الهدف منها ليس (النفعية) بل بث الفكر التغريبي للمجتمع
.
والرجال؟
طالهُم هذا الفكر المادي فأصبح الرجل يسعى لتأمين مصدر دخل آخر لعائلته
(الغير محتاجة) , والقبول بزيادة عدد ساعات العمل من أجل (قرشين زيادة!)
كذلك لو عُرِض على رجلٍ الزواج من امرأتين بنفس المواصفات خُلُقياً
وخًلقيِاً لكن تتفوق إحداهن على الأخرى بوظيفة تُدر عليها دخلاً شهرياً ,
لفضَل الموظفة على ربة البيت !
هذا الطغيان المادي يخدًم توجهات البراجماتية التغريبية:
من آراء جيمس الدينية وهو (أشهر فلاسفة البراجماتيزم)
1- أن الذي يكون صميم الدين ليس الطقوس ولا الفرائض ولا المعتقدات
بل العاطفة والشعور الديني.
فاللهث وراء المال ومتِاعُ الحياة الدنيا يُضِعف الإيمان في قلب المرء دون
أن يشعُر !
و عدد ساعات العمل الطوال:
تجعل الإنسان يقتصر في صلاته على الفرائض فقط , فلا يستطيع صلاة الوتر بسبب
جسده المُنهك !
وتمعنه تدريجياً من الصيام لضعف طاقة جسمه !
و لن يجد وقتاً لقراءة القرآن فهو ما بين معاملة يتابعها وتقرير يكتُبه
وملفات ينجزها !
هذه أمثلة على أهم العبادات , فما بالك بحضور المحاضرات ومجالس الذكر
والأعمال التطوعية وغير من الأعمال الدينية التي تقوي إيمان القلب وتشًد
العزم على الطاعة !
2- زعم جيمس أن التمسك الدائم بالمعتقدات أمر خاطئ ، فالإيمان
الراسخ عنده يحجب عن الإنسان المعرفة الصحيحة !! ويلزم اختبار صحة العقائد
من وقت لآخر ، واستبعاد ما يتضح للمرء عدم صحته منها أو عدم صلاحيته ومعيار
صحتها هو (إخضاعها لمحك التجربة فهي التي تميز الحق من الباطل وليس حكم
الله تعالى)
فإذا أردنا أن نطبق المنهج البراجماتي على إحدى العقائد ، كاعتقادنا أن
الله تعالى هو الرازق على سبيل المثال ، فلا ينبغي على مذهب جيمس
البراجماتي أن نظل متمسكين دائماً بهذه العقيدة ، وإنما يتعين علينا
اختبارها تجريبيا ، فإذا تبين لأحدنا أن الله تعالى قدر عليه رزقه ، ولم
يعطه ما سأل من رزق في أي صورة من صوره ، فعليه أن يتخلى فوراً عن هذه
العقيدة !! لأن التجربة أثبتت عدم جدواها.
وهكذا يكون المؤمن على طريق البراجماتية إنه كمن يعبد الله على حرف !
( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة
انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ). *
وما سعيُ الإنسان خلف المال والبحث عن مصادر دخل أخرى تشغله عن بيته وأسرته
و أولاده إلا لضعف اليقين بأن الله وحده هو الغني الرازق.
ختاماً:
التغريب والبراجماتية هما وجهان لعملة واحدة يخدمان ذات الهدف.
فأينما وُجدت البراجماتية وُجد التغريب وأينما وُجد التغريب لاحت معالم
البراجماتية.
رِهـام النـاهض
17 ذو الحجة 1434
· (نقد المذاهب المعاصرة : 1 / 119 - 122 )
للدكتور إبراهيم مصطفى إبراهيم