المقال
إلى كل أم
540 |
30-01-2014
بسم الله الرحمن الرحيم
رمضان 1427 هـ
مكمن الخطر.. تربية الطفل !! !
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله صحبه أجمعين، أما بعد
فكلنا نشأ في بيئة جاهلية.. نعلم هذا ولا يستطيع أحد أن ينكره- خصوصا هذا الجيـل- ووسط أبوين يريان أن الدين خطر، وأن التدين مشكلة، والواجب البعد عن التدين الظاهر قدر الإمكان، على هذا ربي الشباب، من خلال مناهج الدراسة، ومن خلال أفكار المجتمع، وآماله وأحلامه وتصوراته..
إن الرجل منا يخرج ثمرة للمجتمع الذي عاش فيه، فهو مثل الشجرة؛ إن نبتت في تربة سيئة، كانت خاملة ضعيفة معرضة للآفات، وإن نبتت في تربة صالحة، ضربت بجذورها في الأرض وبفروعها في السماء، وآتت أكلها كل حين بإذن ربها.
وليس النبت ينبت في جنان كمثل النبت ينبت في الفلاة
فشأن المربي شأن المزارع الذي يقلع الشوك، ويخرج النباتات الدخيلة من بين الزرع، ليحسن نباته ويكمل ريعه.
فإن تيسر للإنسان مؤدِّب أو مرب حاذق، يتعهده بتطهير آفاته التي تلحق به من بيئته ومجتمعه، واختلاطه بالخلق من حوله، وما سرقته طباعه من آفات المتعاملين معه، وما خبثت به نفسه الأمارة بالسوء مما يوافق هواها، يقوم هذا المربي باقتلاع تلك الآفات أولاً بأول- فإن الآفات السيئة تتفشى وتنتشر وتتكاثر-, ثم يزرع مكانها الصالحات, ويملأ نفسه- التي تميل للذات والشهوات- بالخيرات والمشاغل الأخروية التي تزكي نفسه وتطهرها وتسمو بها..
إن وجد الإنسان هذا المربي الصالح؛ كانت سعادة الدنيا والآخرة.
أما إن فقد ولم يوجد هذا المربي المتابع الناصح الأمين القوي الرشيد.. فإن التخبط يلازم الإنسان ويحيط به، فيخبطه ويضيع هويته, ويصبح نموذجا سيئا للتضارب الأخلاقي في باطنه مع ظاهره.
فأصل فطرته يشده ويدعوه إلى الخير ويحثه عليه, ونفسه الأمارة -يساندها هواه وما اكتسبه من فساد بيئته وتنشئته- تجره للباطل جرا..
ففيه لمسات خير وومضات بر؛ ولكن الغالب من حاله الظاهر باطل يغلب على تصرفاته, وضياع وتيه في هموم وشهوات..
حتى يقيض الله له سبيل هداية؛ فيجد من يأخذ بيده, فيعود الرصيد الفطري للهداية إلى الارتفاع..
ثم إن وجد رجلاً من أهل السنة فقيها بالنفوس, عليماً بالآفات, طبيباً للقلوب؛ كانت نجاته بتخليصه من آفات الجاهلية ورواسبها التي لحقت به؛ فتعود نفسه للطهارة, وقلبه للصفاء, وينطلق في طريق السعادة الحقيقية بانشراح الصدر وطمأنينة القلب0
أما من تربى في طفولته !
أما إن تربى منذ طفولته على الخير ونما عليه, وتشبع منه، فلم يصبه من لوثات الجاهلية شيء؛ كان في غنى عما ذكرنا.
ولذلك توعدنا الله جل وعلا في شأن تربية الأولاد, قال ابن عباس: أي أدبوهم وعلموهم.
وقال مقاتل: أن يؤدب المسلم نفسه وأهله , فيأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر.
ووقاية العبد نفسه وأهله النار لا تتحصل إلا بترك المعاصي وفعل الطاعات, وأن يحفظ الله في أهله، فيؤاخذهم بما يؤاخذ به نفسه.
وقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطورة شأن التربية, وأنها المؤثر الأقوى في تكوين شخصية الأبناء، فقال في الحديث الذي رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة, فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه, كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء, هل تحسون فيها من جدعاء"
نعم إخوتاه..
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه
وما دان الفتى بحجى ولكن يعوده التدين أقربوه
إن تربية الأبناء- أيها الإخوة -من أجل وأعظم الواجبات.
وللأسف ! قَلَّ اليوم اهتمام المسلمين بها؛ فصار الأب يفهم أن دوره ومسؤوليته ينحصران في الإنفاق, والسعي على الرزق, فمن ذا الذي يهتم اليوم - إلا من رحم ربك- بتربية ابنه تربية دينية صحيحة، ويصبر على ذلك؟!
هذه واجبات وحقوق تُسأل عنها أيها الوالد يوم القيامة؛ أنك تركت ولدك في التيه يضله المضلون, ثم تسألون لماذا ينحرفون؟
قال صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته, الإمام راع ومسؤول عن رعيته, والرجل راع في أهله , ومسؤول عن رعيته , والمرأة راعية في بيت زوجها, ومسؤولة عن رعيتها , والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته, ويؤكد ابن القيم رضي الله عنه على هذه المسؤولية، فيقول:
"فمَن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى؛ فقد أساء غاية الإساءة, وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم, وترك تعليمهم فرائض الدين وسنته, فأضاعوهم صغاراً, فلم ينتفعوا بأنفسهم, ولم ينفعوا آباءهم كباراً، كما عاتب بعضهم ولده على العقوق, فأجابه:
(يا أبت إنك عققتني صغيراً، فعققتك كبيراً.. وأضعتني وليداً, فأضعتك شيخاً)
فهذه حقوق واجبة, ليست من باب الندب والاستحباب, قال الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله:
"أيها الكفيل, إذا ألقيت مسؤولية الطفل في مراتع وخيمة؛ أخشى أن يضاعف لك العذاب ضعفين: تعذب على تشويه تلك الجوهرة المكرمة عذاباً نكيراً، وتحوز من تلك الجناية العامة نصيباً مفروضاً."
فقد توعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم نبذل النصح, وقال الغزالي رحمه الله : (فالصبي أمانة عند والديه, وقلبه الطاهر جوهرة ساذجة خالية من كل نقش وصورة, وهو قابل لكل ما يـُـنقش, ومائل إلى كل ما يمال إليه؛ فإن عوِّد الشر وأُهمل إهمال البهائم؛ شقي وهلك, وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي له)
أين من يأخذ بيد ولده اليوم ليتعلم دينه؛ فيدخله معاهد تحفيظ القرآن الكريم, ويدله على مجالس أهل العلم, ويأتيه بالكتب والأشرطة, ويعظم عنده فرائض الله عليه؟! أين من يسخط ويشتد غضبه على ولده إن وجده يقصر في حقوق الله تعالى، ويثيبه إن وجده ملتزما مستقيما؟! أليست الصورة معكوسة؟!!
أن الأب يفرح بتفوق ابنه في الدنيا, ولا يحزن على تخلفه عن الدين.. وإلا فاصدقني القول: أليس فرحك بنجاح ولدك في الثانوية العامة- مثلاً- أشد من فرحك بإتمامه لحفظ القرآن الكريم؟!
ولو خيرت بينهما لاخترت الأولى (الدنيا)؟!
المأساة- أيها الإخوة- أننا نربي أولادنا لأنفسنا؛ لكي ينفعونا ويحملوا عنا.. لسنا نربيهم لله, ليكونوا مؤمنين موحدين على الجادة, أولياء لله , وهذا هو الإشكال00
ولذلك يكمن الخطر في أمرين:
أولهما:
الإخلاص لله في تربية الولد
ينبغي أن نتساءل: لماذا نحرص على أن نربي أولادنا تربية صالحة؟
= هل لينفعونا كباراً حين نكبر ونحتاج إليهم؟
= هل لنفتخر بهم أمام الناس ونتباهى بهم عند الآخرين؟
= هل لكيلا نعير بهم وتسوءنا سيرتهم؟
هذه نيات باطلة ومآس ظاهرة, لعلها السر الأكبر في فساد الأولاد؛ فإن النيات الفاسدة لا يصلح معها العمل, ؛ فيجب إن أردنا ذرية صالحة أن نصحح نياتنا: أننا إنما نربيهم لأن الله أمرنا بذلك.
إن استشعارهذه المسؤولية واجب علينا..
أن هذه التربية تكليف من الله عز وجل, وأنها فريضة نؤجر بفعلها ونأثم على تركها.. تعميق هذا المعنى في القلب( أنك تؤدي واجباً فرضاً حتماً لازماً يراقبك فيه الله وسيحاسبك) يجعلك تؤدي هذه المهمة كما يحب هو ويرضى، لا كما تبتغي وتهوى. وأيضا بهذه النية تستجلب إعانته وتثبيته وتوفيقه, فكم من حريص على تربية الأبناء شغوف بها وهو غير موفق؛ فتأتي النتائج العكسية.
والأمر الثاني
شكر نعمة الولد
نعم : إننا لم نشكر نعمة الله علينا أن وهبنا الأولاد- وهي النعمة التي لا يدري عِظمها إلا من حرمها- وكان من أوليَّات ذلك: أن نحسن تربيتهم ليكونوا عبيداً لله الذي خلقهم لنا ورزقنا إياهم, واستخلفنا في رعايتهم, فمن يكفر بنعمة الله فلا يشكرها؛ فإن الله شديد العقاب, فيبتليه من جنس النعمة فتصير عليه نقمة, فيرهقه الأولاد بمتطلباتهم فلا يقدر عليها, ويحزنوه بانحراف سلوكياتهم وفساد أخلاقهم؛ طغياناً وكفراً.
أما المؤمنون الشاكرون لأنعم الله جل وعلا, المحافظون على أولادهم من الضلال؛ فيرزقهم رزقا حسناً, فيبرهم أبناؤهم, ويكونون خيراً لهم في دينهم ودنياهم: قال ربي، وأحقُّ القولِ قولُ ربي: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا = فانظر - أيها الوالد- ماذا عساك أن تصنع حين يعاتبك الله تعالى على نعمة, فيقول: "ألم أجعل لك سمعاً وبصراً ومالاً؟ وسخرت لك الأنعام والحرث ؟ وتركتك ترأس وتربع؟ فكنت تظن أنك ملاقي يومك هذا؟ فيقول: لا, فيقول له: اليوم أنساك كما نسيتني" [مسلم ، وتربع: أي تغنم].
ينساك الله كما نسيت أولادك وضيعتهم , وتركتهم في براثن الجاهلية؛ فاغتالتهم شياطين الإنس والجن..
ألا فاستعد للقاء الله وحسابه {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:30]
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين
والحمد لله رب العالمين
المصدر / موقع الشيخ محمد حسين يعقوب