المادة
مع شيخي محمد صالح المنجّد
يوم الأمس كان يوماً مشهوداً في حياتي ؛ أتعلمون لماذا ؟ لقد زارني شيخي الحبيب الذي تربيت على يديه سنوات طوال ؛ ونهلت من معين علومه ؛ وسعدت بالتتلمذ عليه ردحاً من الزمن ليس باليسير ؛ وإن كنت لست بأفضل من تتلمذ عليه ؛ ولا أعد نفسي شيئاً أمام كثير من إخوتي تلاميذ الشيخ .
شغف به قلبي ؛ وذرفت عيناي الدمع كلما رأيته .. وتذكرت تقصري في حقه ..
إنه الشيخ / محمد صالح المنجد (1) .. أبو أنس .. أسأل الله تعالى أن يحفظه ؛ ويمتعه بالصحة والعافية ويزيده من فضله وعلمه ؛ إنه على كل شيء قدير .
عرفته إذ لم أتجاوز العشرين من عمري ؛ فكنت أتقصد الذهاب إليه لأنظر في وجهه فأزداد حباً له .. مع أني ... ماذا تتوقعون ؟! . .. فكروا .. واحزروا .. ؛ أنا أقول لكم ..
.. مع أنني لم أكن أعرف اسمه حينها ولا من هو ؛ نعم ! والله كذلك ؛ لكن الذي أعرفه أنه امرئ يشع من جبينه إخلاصٌ لله عجيب ( أحسبه كذلك ) .. لم يكن كالذين تعودنا على ارتقائهم المنابر بدفاترهم ؛ كنا نراهم في صغرنا وهم يأتون بعجائب الخطب ؛ من خطب أواخر العصر الأموي ؛ وبداية العباسي فيدعون للخليفة بطول البقاء ومديد العمر مع أنه قضى نحبه منذ أكثر من ألف عام ! فنخرج من المسجد ولم نستفد إلاّ ركعتي الجمعة .
رأيت الشيخ يرتقي المنبر _في أول مرة ألقاه فيها _ بخطىً ثابتة ؛ ويلقي خطبة لم أسمع مثلها منذ عشرين عاماً باستثناء سبع سنوات هي بداية حياتي إذ كنت فيها طفلاً ! ؛ كانت مدة الخطبة ساعة كاملة ؛ مرت وكأنها خمس دقائق ؛ وأذكر أنني ذهبت إليه بعدها وعرفته بنفسي فرحب بي وابتسم فكاد عقلي يزيغ من الفرح ! وقال لي بعد حديث طويل :
( أشوفك بكرة درس الفجر ؛ جيب معك مختصر صحيح البخاري... )
فعجبت لأني لم أكن أعلم أن هناك دروساً تعقد بعد صلاة الفجر .. فكُلُّ ما تعلمته ؛ هو أن الدروس في المدارس النظامية ؛ تعقد قسراً من السابعة صباحاً إلى قريب العصر . ستُ سنوات في المرحلة الابتدائية ؛ وثلاث في المتوسطة ( الكفاءة ) (2) ؛ هذا إذا لم يتكرم الطالب بالمكث سنة أخرى تطوعاً منه ؛ فيكون عالة على المدرسة ومعلميها عاماً كاملاً ! ؛ وثلاث في الثانوية .. ثم يتخرج الطالب غالباً لا يفقه مما درس شيئاً فضلاً عن القرآن الكريم الذي لا يفقه منه إلاّ ما يفقهه امرئ القيس منه !. وأمريكا الغبية ؛ مع كل هذا تطالب بتغيير المناهج ؛ فماذا سيصبح أبناؤنا بعدها ؛ وهم لا ينقصهم كسلٌ في تعلم كتاب الله .
لم أنم تلك الليلة خوف أن تفوتني صلاة الفجر ويفوتني معها درس الفجر والذي كان وقتئذ في (تفسير ابن كثير )؛ ومختصر صحيح البخاري المسمى (التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح للإمام الزَبيدي ) .. فغدوت وكلي رهبة من هذه التجربة الجديدة في حياتي ؛ فكان من الصدف العجيبة أن وجدت أحد تلاميذ الشيخ ؛ عابس الوجه مفنداً ؛ فنظر إليّ شزراً محتقراً شخصي الفقير إلى عفو الله ؛ والطبعةَ التي أحملها بين يدي لصحيح البخاري ؛ كونها تختلف عما بين أيديهم ؛ وأما الطبعة التي معي فهي طبعة ثقيلة الوزن سمكها عشرون سنتيمتراً ! لو حملها بعيرٌ لكسرت ظهره وقضى نحبه ! ؛ ثم نظر إليَّ بعينين يخرج منهما الشرر _نسأل الله السلامة _قال:.أنت تريد أن تطلب العلم ؟! ؛ قلت:لا !..ولكن الإمام قال لي البارحة : (تعال أشوفك في درس الفجر فجئت )
فهز رأسه ومطَّ شفتيه وقلبهما تعجباً ونظر إليَّ نظرة سخرية وانصرف ! ؛ فقلت في نفسي هذا أول الخير !. دخلت إلى المكان المخصص للدرس وقدماي كلُّ واحدة تختبئ خلف أختها من الخوف ..فإذا بي أجده غاصاً بالناس ..فلما رآني الشيخ أشار إليّ: أن تعال إلى جواري ثم قال لي:
كيف الحال ! ؛ فنسيت همومي التي ابتلاني بها تلميذه كلها ؛ وأحسست أنّه ملَّكني السعادة كلها .
مرت أيام وأنا أتردد عليه فيمازحني ويلاطفني.. وفي يوم ..أدخلُ المسجد لصلاة العشاء فإذا بي أراه يعتلي طاولة كبيرة ويكتظ حوله مئات بل (بلا مبالغة ألوف) من الناس .. فدخَلَت قلبي رهبةٌ عظيمة من هذا الموقف فتكلم عن حياة الإمام الشافعي قرابة ساعتين ونصف الساعة بكلام لم أسمع مثله..فقلت لمن حولي :من هذا؟
قال لي : ألا تعرفه هذا الشيخ محمد صالح المنجد ! فأصبحت أصلي عنده وأتجنبه .. حتى إذا لقيته مرة وقد ضمّني من خلفي يداعبني ..فالتفتُّ فإذا هو هو ! فقال لي : (وينك ..ما أشوفك تجيني ؟) قلت له:(اكتشفت أنك شيخ !) فانفجر ضاحكاً ..ومن يومها ..وهو يوليني عناية خاصة ! و يخصني بما لا يخص به غيري ..وكان من حسن تقدير الله تعالى لي أنني كنت أسكن بجواره ..فكان كثيراً ما يهاتفني إما لتكليفي بأمر ؛ أو سلامٍ أو غير ذلك .. وأشعر أنني ابنُ له..كان إذا خلا بي مازحني وداعبني كثيراً فإذا ما كان في المسجد كنت أرى شخصاً آخر ..شخصاً جمع الله فيه أموراً فرّقها في كثير من عباده الصالحين ..الهيبة في غير كبر .. واللين في غير ضعف ، والذكاء في أبهى صُوَرِه ، والوقار الذي كن نقرأ عن مثيله في سير أعلام الإسلام الأولين ..
معذرة أيها القراء الكرام ! أدركت الآن أني ورطتُ نفسي ورطة عظيمة إذ أطعت قلمي وقبلت أن أكتب أصعب مقالٍ في حياتي ..أخشى أن أبخس شيخي حقه ..بل أجزم أني سأقصر في ذلك .. وأسأل الله الإعانة .. فهو في غنى عما أكتب ..ولكني .. سأكتب ... وأذكر طرفاً من حياتي معه..
كنت أرى أن الشيخ _حفظه الله_ لا يحسن يعصي الله تعالى.. إذ أن وقته كله مشغول بالدعوة إلى الله تعالى عبر محاضراته التي كنا ننتظرها بفارغ الصبر كل يوم أربعاء ..ودروسه الأخرى كدرس (فتح المجيد) أو (عمدة الأحكام ) بعد مغرب كل يوم أحد .. أو درس ما بعد الفجر يومياً بمسجده ( جامع عمر بن عبد العزيز) بحي العقربية بمدينة الخُبر ..أو محاضراته الأخرى في القطاعات والمدارس والمناطق.. أو فتاواه عبر الهاتف الذي لا يكاد يقف عن الرنين لحظة واحدة والله ؛ وهكذا هاتفه الجوال اليوم ولقد حدثني بنفسه بالأمس أنه وجد قرابة ثمانين مكالمة لم يرد عليه في ظرف ساعة من الزمن فقط بينما كان يسجل دروساً في قناة (المـجـد) الإسلامية الطيبة كثّر الله من أمثالها وأعان القائمين عليها ووفقهم لإعلاء راية الإسلام .
كان هذا عام 1410هـ فكيف هو اليوم وقد عرفه القاصي والداني وله من الأنشطة الكثيرة جداً ما لست أعلمه الآن .. وربما علمه العامة أكثر منا ؛ من خلال برامجه الطيبة اليومية في الإذاعة ؛ إذاعة القرآن الكريم ؛ والقنوات الأخرى ؛ وتأليفه الكتب والرسائل ..
أذكر أنه كان يمكث للناس بعد كل صلاة للإفتاء في صبر عجيب .. ولم أره يوماً نهر أحداً ؛ أو رد أحداً .. أو أساء إليه .
وكان ولا يزال يحسن استماع السؤال بشكل لم أره في غيره بل ويطيل الصمت والنظر في عيني السائل ؛ بعد أن يفرغ من سؤاله ؛ حتى يظن السائل أن الشيخ قد عجز عن الإجابة ثم يجيب إجابة شافية كافية .
رأيت فيه من الورع ما يُعجِز الألسن ..ورأيت فيه الزهد الذي يذكرني بشيخه الإمام/عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى؛ رغم أنه ..لو أراد لحاز من الدنيا ما يريد ؛ لمكانته عند الناس وأهل الفضل والسعة منهم خاصةً.. ومن العجائب ..أنني كنت معه يوماً أنا واثنان من إخوتي الأفاضل عام 1413هـ ..نتحدث في رواق المسجد بعد صلاة العصر.. والأخوان هما : سعيد بن محمد الغامدي نسميه سعيد بن سويد اختصاراً ؛ وأخي الحبيب ، فهد بن فرج الأحمدي وهو الآن يعيش في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم في طيبة الطيبة ؛ فاقرءوا عليه مني السلام . كان هذا يوم الأربعاء ..فسألنا الشيخ عن درس الليلة ..فقال : لم أحدده بعد.. فاقترحنا أن يكون عن الأخُوة في الله ..فقال : "موضوع جيد" ثم نظر بعضنا إلى بعض متعجبين إذ لم يبق إلا ساعات قلائل ..والوقت في المنطقة الشرقية يمرُّ سريعاً حتى إنه ليتضايق الزائر من سرعة مروره ..ويعبر بعضهم بألفاظ مضحكة ..منها ما يقوله بعضهم : لو كنت أعيش معكم لما خرجت من المسجد إلى بيتي..لأنني لن أجد وقتاً يوصلني إلى بيتي حتى أسمع الأذان مرة أخرى فأعود إلى المسجد .
ذهب الشيخ إلى منزله وكان يقع غربي المسجد..وبعد العشاء يجلس على الطاولة الكبيرة المعدة للمحاضرات..ويتحدث قرابة ثلاث ساعات عن موضوع الأخوة في الله ..لم يتردد ولم يتلعثم ولم يكرر عبارةً مرتين ؛ وكأنه قد أعد الموضوع منذ سنوات خلت..فعلمت أن الله تعالى قد رزقه بركة الوقت بإخلاصه نحسبه كذلك ولا أزكيه على ربه تعالى..
اتصل بي مرة يوم الجمعة بعد صلاة الفجر وطلبني للحضور إلى منزله..فأعطاني جزءاً من كتاب المغني لابن قدامة المقدسي رحمه الله ، قال لي:أكتب كل ما تجد تحته خطاً في هذه البطاقات وأتني به كي أجعله موضوع الخطبة اليوم .. وناولني بطاقات بيضاء كان الشيخ يكتب فيها الخطب والمحاضرات فيما مضى فقلت له.. : ساعة واحدة وأوافيك به إن شاء الله ، فضحك وقال : لا أظن ولكني أريده قبل الحادية عشرة..
فكتبت وكتبت حتى كلَّت يدي .. فما انتهيت إلا قرابة العاشرة والنصف صباحاً وكان الموضوع عن (أحكام اللقطة) فأخذها دون ترتيب ولا ترقيمٍ للكروت ..فذهبت إلى الجامع وأنا بي من الخوف مالا يعلمه إلاَّ الله أن أكون قد بعثرت الموضوع على الشيخ ..فلما صعد المنبر تسارعت نبضات قلبي..فتحدث الشيخ قرابة الساعة..لم يحتج أن يتردد لحظة أو يشكل عليه ما كتبت له..فكأنه هو الذي كتب تلك الأسطر التي كلفني بها.
وفي ليلة..أنا وهو في البيت ما معي أحد غيري وغيره..قلت له : يا شيخ ما تقول في إمام يفسر الآيات التي سيقرؤها في صلاة الفجر بين الأذان والإقامة ؟
قال بلا تردد لا أعلم! سأتصل بأبي عبد الله وأسأله . فطرأ على بالي كلُّ أبي عبد الله في العالم واحترت أيهم يعني..فاتصلَ بأبي عبد الله ! وجعل الهاتف على مكبر الصوت فسمعت صوتاً حبيباً إلى قلبي وقلوبكم..إنه صوت الحبيب الذي ودعناه في يوم الخميس الموافق 27/1/1420هـ إنه صوت العلامة الوالد : ابن باز رحمة الله عليه..فتحت فمي وأنا أرى الشيخ يتحدث مع الإمام بدعابة تارة وتارة عن قضايا فقهية وعقدية ؛ وأبو أنس يكتب والهاتف يسجل..فسأله سؤالي..فقال الشيخ بالنص ولا زلت أذكر : "لا بأس..هذا عمل طيب..أول مرة أسمع بمثل هذا... "
فطارت هذه الفتوى إلى ذلك الإمام وهو الشيخ فؤاد قاضي حفظه الله ؛ وكان وقتذاك برتبة (رائد) في سلاح البحرية بالجبيل وهو رجلٌ لا أعرف عنه إلاَّ أن همَّ الإسلام يكاد يسيطر على قلبه وفكره في كل حين منذ كان برتبة (ملازم ) في أمريكا ..وفقه الله ؛ وهو اليوم برتبة (عميد) قائد كلية الملك فهد البحرية بالجبيل ..فرح بها الشيخ : فؤاد ؛ فرح من وجد ضالة عزيزة غالية..
سألت الشيخ : أبا أنس مرة قبل سنوات: هل أقول للناس أني تلميذك ؟ وكنا سوياً في سيارته ذاهبين إلى الدمام في منتصف الليل ؛ فسكت برهة ليست بالقصيرة فظننت أنني كما يقال بالعامية ( خبّصت)!! في السؤال: فقال : "سألت ابن باز هذا السؤال فقال التلمذة تحصل بأقل من هذا ؛ فلو قرأت كتاباً على شيخ أصبحت تلميذَه"
وأذكر أن أول قصيدة بالفصحى كتبتها في حياتي كانت في مدح الشيخ منها..
هذا المنجّد يا مـن تسـأل الخبر تهدي إلى النـاس من ألفاظه الدرر
بيضٌ الحروف التي باتت مرصعة من خالص الصدق لا زيف ولا بطر
هذا الذي أسعدت عينيّ رؤيته يزهو بـه الساحل الشرقي والخبر
إلخ..وهي ضعيفة في مبناها لكني كنت أراها قوية في معناها..
..وبعدُ..فالذكريات معه ؛طويل طريقها . ولو ذهبت أذكر كل ما أعرفه عنه لاحتجت إلى مجلد ضخم..ولست صوفياً أبغي الفتنة ..بل متبعاً أبتغي السنة في ذكر محاسن المؤمن ..وشكر من أولاني نعمة عظيمة ؛ لأن ذلك من شكر الله.. ومن لا يشكر الناس ؛ لم يشكر الله تعالى . وأي نعمة أفضل من نعمة العلم والأدب.. وبما أن الحديث ذو شجون فلست أنسى أخي وحبيبي وشيخي الفاضل المهندس / طريف بن محمد رشيد ؛ أبا عبدالرحمن ؛ فقد تعلمت منه كيف يكون حسن الخلق ؛ وكيف تكون الجدية في حمل الدين . وهو أول من كلفني بإعداد موضوع ألقيه على الشباب في حياتي ؛ وكان عن ( الغضب و علاجه ) فمكثت أسبوعاً كاملاً أعده وألقيه على (مساند ) مجلس الرجال في البيت بصوت يشبه صوت الشيخ أحمد القطان ؛ حفظه الله ؛ في الكويت ! حتى إنني أذكر أن أهل البيت (2) كانوا يهرعون إليّ فزعين ؛ فأهدأ من روعهم بعد أن أخبرهم أن المسألة لا تعدو كونها تدريباً على موضوع كلفني به الشيخ طريف ؛ فتدعو لي بأن يكمّل الله لي عقلي وتنصرف ! . فجزاه الله عني خير ما جزى مربياً عن تلميذه .
أعذرني يا أبا أنس ..لم أوفك حقك في هذه الأسطر .. واعذروني أنتم ..واسألوا له الثبات ولي ولكم و الرفعة والعلم والإخلاص في القول والعمل.
رأيت مرة منذ أربعة عشر عاماً في منامي .. أنني أجلس على(كنب) في منزلي وبجواري الشيخ ابن باز رحمه الله وأنا أطعمه شحماً أبيض ..فقصصتها على الشيخ محمد المنجد ؛ فقال لي : أنا لا أعبر الرؤى ولكن أظن والله أعلم أنك ستحفظ (من) القرآن وربما تصلي بالناس مكاني هنا إماماً..وضحك.. أما أنا فما عجبت من حفظ القرآن بل تعجبت كيف أصلي بالناس في مسجده ؟. وبعد عامين ..يسافر الشيخ للعمرة في رمضان وإذا به يكلفني بإمامة الناس في صلاة التراويح والقيام .. والله الذي لا إله غيره لو كلفني بالمشي من الدمام إلى الرياض على قدمي لرأيت ذلك سهلاً مقابل أن أَؤمَّ الناس..وبدل من؟! بدل الشيخ المنجد..شتان بين الموكل والوكيل في كل شيء..فكان يتصل بي من مكة يطمئن على سير عملي فأشكو عليه من تعنتات بعض المصلين ؛ وهو يضحك ويقول :ما شفت شيء بعد ! ..
أربعة أيام ..كأنها أربعة أشهر ؛ فلما جاء الشيخ ؛ ذهبت لاستقباله في المطار ؛ مطار الظهران يومئذٍ ؛ فجراً ؛ ففرحت به مرتين ؛ مرة لرؤيته ؛ وأخرى لخروجي من ذلك المأزق الذي كنت أدفع ضريبته كل ليلة.. فهذا ينتقد الدعاء ..وذلك ينتقد ..الصوت.. والثالث.. طول الصلاة.. والرابع.. التجويد.. والخامس.. شكلي!
تخيل حتى الشكل لا يروق لبعض الإخوة ويريدونني في طول ( قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنه ..) وصوت ( ثابت بن قيس بن شماس) رضي الله عنه .. وهكذا..
أذكر أنه جاءني يوماً في عام 1411هـ وهو يضحك ويقول لي مداعباً : موسى أفندي ! ما دريت أيش صار لي بالأمس ؟! ..
قلت : لا ..
قال : ذهبنا إلى البحر ومعي إبراهيم الشهري ( أحد أنجب تلاميذ الشيخ وهو صديق لي حبيب ومعروف جداً في مواقع كثيرة على الإنترنت ) .. وكدنا نغرق .. لو رأيتني والسمك يدغدغ أقدامي وأنا معلق وبوسطي طوق النجاة البلاستيكي !..
أما أنا فبكيت من الفرح بنجاته .. بعد أن أخبرني أحد الإخوة بتفاصيل الحادثة ؛ وأن الشيخ مكث ساعات طويلة في البحر ؛ بينما سبح إبراهيم بابن الشيخ ( أنس ) وكان صغيراً يومئذ حتى استطاع أن يوصله إلى الشاطئ.
جاءنا الشيخ بالأمس الثلاثاء 27/3/1424هـ ..وخلوت به في منزلي فنظرت إليه وقد علاه الشيب .. فذرفت عيناي ؛ وعدت إلى تلك الأيام الجميلة بذاكرتي ..وتمنيت أنها تعود ولو لليلة واحدة .. مكثنا قرابة الساعة ؛ نتحدث فيها حديث القلب للقلب ؛ والنفس للنفس ؛ فما أمتعه من حديث .
بعد ذلك ألقى محاضرة بجامعنا ؛ جامع القادسية ( بمجمع الملك فهد الطبي العسكري بالظهران) كانت جميلة جداً ..يتجلى فيها سعة علم الشيح الذي ازداد زيادة لا أستطيع أنا الضعيف أن أتحدث عنها في سنوات معرفتي به..
أسكنتكم بين الضلوع وخفتُ أن تؤذى فللقلب المحب وجيب
وودت لو أسْطِيعُ حمل محبــتي بيديّ أهديها لكم فتُجيـب
لكنني أهدي الفؤاد بما حــوى فإذا نزلتم فيه فهو رحيـب
يا شيخ تلك مشاعري جياشـةٌ آتي بذكركمُ لها فتطيب
أنت الذي صغت المشاعر لوحةً ورسمتها أدباً وأنت أديـب
سبحان من أعطاك حسن تعامل وحباك علماً ليس فيه الريب
منكم تعلمنا العلوم ويُستقــى من نهرك العذب الزلال الطيب
لك يا أبا أنسٍ عظيم محبةٍ .... في خاطري فالقلب منك طروب
فاللهم ارزقنا علماً نافعاً وحباً لمن يحبك ولعملٍ يقربنا إلى حبك واجعل حبك أحب إلينا من أهلينا وأموالنا والدنيا جميعاً ومن الماء البارد على الظمأ ؛ واغفر لمن مات من علمائنا وارزقنا برّهم بعد موتهم ؛ و احفظ الأحياء وارزقنا تقديرهم وتبجيلهم وحبهم يا أرحم الراحمين .. { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رحيم }
وكتبه تلميذه المحب :
موسى بن محمد بن هجاد الزهراني
الظهران / الأربعاء, 28 ربيع الأول, 1424هـ
(1) - قد يعجب القاريء لعدم ذكرنا ( بن ) في اسم الشيخ ؛ ويزول العجب إذا عُلم أن اسمه مركب من اسمين محمد وصالح على عادة أهل الشام في ذلك .
(2) - أو كما يسميها الشيخ / علي الطنطاوي رحمه الله ( الكفاية ! )
(3) - الزوجة !
: خاص بإذاعة طريق الإسلام