المادة
الليبرالية الخليجية.. والبحث عن اللائكية
يعتقد المتصدرون للدفاع عن الليبرالية في دول الخليج العربي: "أن الليبرالية و(الحداثة) هي مسألة حتمية، ومن المسلم به الوثوق بهذه الفكرة و الدفاع عنها".
ولذلك فإن هذه المجموعات الفكرية التي تعتقد بأن لديها إرث ثقافي يصلح ليكون أسلوب عيش للناس لا تقبل النقد من الآخرين، وترفض كل دعوات (الخصوصية الحضارية).
بل وفي الكثير من الأحيان تأخذ على عاتقها تجهيل كل من يعارضها أو يناقض ثقافتها، وتصفه: (بالظلامية والراديكالية) وتُرجع أسباب تخلف الأمة دائما إلى: "تمسكها بالدين باعتباره إرث قديم تعاقبت عليه الأجيال دون أن يكون مواكبًا لطبيعة التطور الحضاري".
وكذلك يحاول زعماء التيار الليبرالي والمتصدرين للدفاع عنه تجهيل الجماعات الإسلامية، والادعاء بأنها متمسكة بالشعوذة والخيال والجهل، وقائمة على أسس فكرية ضيقة لا تتوافق مع قيم الحداثة الغربية، وكذلك دائمًا ما تستند إلى الواقع الاستهلاكي الذي تعيشه الأمة الإسلامية، للدفاع عن مبادئها وتمسكها بالحداثة المستقاة من ثقافات غربية متعددة يجمعها: الحرية المطلقة دون التقيد بالموروث الديني والاجتماعي من القيم والأخلاق، التي تعزز مكانة الفرد وتحافظ على كرامته وتحقق حقوقه..!
ويقول الكاتب الليبرالي (أحمد البغدادي) في كتابه (تجديد الفكر الديني): "إن هدف كتابه هو محاربة الفكر الديني حتى لا يعيش وطني ظلام العصور الوسطى".
وبالرغم من أن دعوة هذا التيار قائمة على حرية الفرد والتطبيق الفاعل لمبدأ العدالة والمساواة، إلا أن جميع خطاباته الفكرية تحمل رسالة إقصائية لمن يعارضوه، ولا يجيد مطلقًا فن الحوار بالعقلانية والمنطق والحجة لإقناع منتقديه، وإنما دائم السخرية من ثقافاتهم ومعتقداتهم، مع أن الحرية الفردية التي يدعو إليها هذا التيار حرية الإيمان بأي معتقد.
وتمر الإستراتيجية الليبرالية لتمرير العلمانية إلى داخل ثقافة المجتمعات الخليجية بمراحل متعددة، أبرزها نسبية الحقيقة ولو كانت في نصوص قطعية، وكذلك رفض التفسير الذي يقدمه التراث الإسلامي للنصوص القرآنية بدعوى: "أن هذه التفسيرات مر عليها زمن طويل ولم تعد صالحة لهذا الزمان" وكذلك يحاول من خلال الدعوة لمقاطعة التراث الفكري والديني تغيير أسلوب التفكير لدى الناس وإحلال أفكار (حداثية) مستندة إلى قيم غربية في عقولهم.
ويتمحور الخطاب الخليجي أيضًا حول: حصر أفكار النهضة والتقدم في البعد المادي باعتباره غاية نهائية للإنسان، وهذا نتاج طبيعي للعلمانية، وعندما تنحصر قيمه في هذا البعد فإنه يعيد تفسير القيم الإسلامية وفق هذا المنظور.
ويرى الليبراليون في الخليج أن القيم التي بنت الحضارة الغربية قد أصبح التسليم بنجاحها لا مفر منه، لكنهم في نفس الوقت بالرغم من النجاح المادي الذي حققته هذه الحضارة إلا أنها أهملت قيمة الإنسان، واعترفت به فقط إذا احتاجت إليه، كما أنها خلقت مجتمعات أشبه بغابة القوي فيها يأكل الضعيف، وكذلك حرمت المجتمعات من أسس التكافل الاجتماعي، وجعلت الحاجة المادية والشهوة الحيوانية الكامنة في نفس الإنسان تحرك إمكاناته.
ويغيب عن هذا الخطاب خلال وصفه للمجتمعات العربية بالمتخلفة: عدم التزام الحكومات بتطبيق القوانين، والالتزام بمبدأ العدالة التي أقرتها نصوص القرآن، ووجهت النقد على أسس غير منصفة من خلال استغلال الحالة الفردية لتقييم مدى صلاحية النصوص القرآنية لحكم البشرية.
فحينما كان الحكم الإسلامي في عزه ومكانته في عهد الخلفاء الراشدين كانت الأمة الإسلامية في أوج مجدها وعزها، وصنعت حضارة لا تزال معالمها موجودة في الأندلس وأوروبا، وأسست موروث علمي ضخم استفادت منه الحضارة الغربية بشهادة علماءها أنفسهم، لكن حينما غاب الالتزام الديني عن المجتمعات وعمت الفوضى الخلاقة التي زرعت من قبل أعداء الأمة فيها، غُيب الدين وأخذه الناس عادة وموروث اجتماعي، وليس اعتقاد فكري يمكن أن يصلح من حياتهم وينظم واقعهم.
ويركز الليبراليون في الخليج على تجزئة الواقع، ويصرون على مهاجمة الواقع الثقافي فقط دون غيره من جوانب التخلف الأخرى على حد وصفهم.
وتقول دراسة نقدية لليبرالية في السعودية والخليج أعدها الكاتب (وليد بن صالح الرميزان): "إن الليبرالية في المجتمعات الخليجية نشأت مع بداية القرن التاسع عشر وأثناء الاستعمار البريطاني، وشجعها على الظهور المطالبة بالحقوق السياسية، ونشأت بعض الحركات والجماعات السياسية التي تطالب بالديمقراطية وحكم الشعب لنفسه، ومع بداية التسعينيات بدأت شخصيات وتجمعات تطالب بحقوق فردية، ودائما ما تتوافق هذه الحقوق مع اتهامات بتخلف المجتمعات الخليجية، وإلقاء اللوم على الدين في تغذية هذا التخلف".
وكذلك قامت دعوة هؤلاء بحسب الكاتب على: "أن الليبرالية منهاج ثقافي صالح للموائمة والتناسب مع جميع المجتمعات، وكذلك كانت قاعدة الانطلاق لهذا المنهج الفكري هي جعل الحضارة الغربية النموذج المثالي لتخليص العالم من تخلفه" ويتناقض هذا التيار مع نفسه حينما يرى أن العقل له القدرة على الإبداع والنهوض بالحضارة لكنه يحصر مهام العقل الإنساني في الاقتداء بالحضارة الغربية.
و خلاصة ما يمكن قوله: إن الليبرالية هي أساس فكري قائم على معتقدات فردية آمن بها أشخاص، لجعل إشباع الشهوة نظرية فكرية يمكن تعزيزها وغرسها في نفوس البشر لتصبح أسلوب حياة، وأخذت على عاتقها إيجاد آليات تلغي سلطة الدين، وتوفر للبشر الحرية المطلقة بغض النظر عن وجود تناقض بين الحرية المطلقة والحرية الشخصية للفرد، والذي تدعو له الليبرالية، وتأتي دعوة الليبرالية الخليجية لغاية تغريب المجتمعات وإبعادها عن دينها، وتجريد الناس من قيمهم، لجعل الغرائز تقودهم دون التزام أخلاقي وديني.
: أحمد أبو دقة-مجلة البيان