المادة
ذكر الله في كل حال بحسب ذلك الحال
عندما تقرأ قول الله تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد من الآية:28]، فاعلم أن ذِكر الله تعالى يكون في كل حال بما يجب في ذلك الحال، فذكره تعالى عقب الصلوات بالتسبيح هو ذِكر ذلك الحال، وذِكره تعالى في مناحي الحياة يتحقق بذكر حكمه تعالى الواجب في ذلك الحال لطاعته تعالى هو ذكر ذلك الحال.
وعلى هذا فسر الإمام الطبري وغيره قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة من الآية:152]، يعني: "فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب"، ثم ذكر أن ذِكره تعالى بالتسبيح عمومًا هو القول الثاني للآية.
فذكره تعالى وقت الضيق والكرب، ووقت الشدة وتكالب العدو، وتخاذل الصديق وشدة الأمر، فذِكره تعالى في ذلك الوقت هو بذكر حكمته وقدرته وأنه {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق من الآية:3]، وأنه حكيم وأنه حميد؛ محمود على ما يفعل، وأنه قد جعل بعد العسر يسرًا، وأنه رفع عن الأمة الإصر والأغلال وما لا طاقة لها به شرعًا وقدرًا ما قامت بأمره تعالى..
وقربه ومعيته لأوليائه ودفعه عن المؤمنين، وأنه يثأر لأوليائه كما يثأر الليث الحرِب -يعني الغاضب-، وأن أمره (كن فيكون) وأنه يختبر عباده ويمحصهم ليصلحهم لا ليعنتهم، وأنه يضحك إلى عباده وهم أزِلين قانطين وقد قرب فرَجهم، فما أدرانا؟
إن للسماء خطوها غير الأرض، وإن المقادير ليست بيد العبيد..
عند النعم يُذكر تعالى بذكر حقه وذكر الدار الآخرة، وأنها أبقى وأن حال الدنيا فان، فيزهد وهو يملك ويشتاق للآخرة والدنيا بين يديه، ويلتزم حكم الله تعالى فيما آتاه الله من أمر الدنيا.
قال يوسف عند تجمع الأهل والملك والدنيا كلها بين يديه، مع النبوة والرسالة فيشتاق للآخرة: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم أن داوود وسليمان من الأنبياء الأغنياء الملوك، ومع ذلك فهما أزهد أهل زمانهما، وهكذا في أمر الوالدين، والزوجة والولد، والجار والقريب، والعدو والموافق والمخالف، والمؤمن والكافر.. لله تعالى أمر وحكم في كل حال لا تغني عنه طقطقة المسابح وتحريك الشفاه، بل الذكر هنا بذكر الحكم وامتثاله.
وفي كل حال يذكر الله تعالى فيذكر من صفاته وأسمائه، ويذكر من حكمه وأمره، ويذكر من أمر الآخرة، ما يرى الأمر كما وضعه الله تعالى ويتناوله كما أمر الله تعالى، راغبًا فيما عنده، رضاه والجنة.
وفي الذكر باللسان من التسبيح والتحميد، فهذا حال القلب مع ربه تعالى، ما بين النظر إلى ما تقتضيه صفات الجمال والإكرام والعطاء مما يوجب ويقتضي الحمد واللهج به، فيقول (الحمد لله).
وما بين النظر إلى البهاء والعظمة والجلال مما يقتضي التنزيه عن كل سوء ينسبه كافر أو شيطان، وما يراه العبد من صفات نقص نفسه وجهلها وظلمها، فيوجب الكمال لله وتنزيهه تعالى عن السوء، فيقول (سبحان الله).
ويجمع بينهما بالاقتران بـ(سبحان الله والحمد لله) أو (سبحان الله وبحمده) أو (سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم)، مقصود من لك هذا الاقتران بين الحالين.
ويذكر من تأليهه تعالى وإفراده بالألوهية ما ينفي كل حب في القلب إلا له، وكل خوف إلا منه، وكل رجاء إلا فيه، وكل تعظيم إلا له، وكل طاعة إلا لأمره الشرعي، وينفي مفردات العبودية كلها عن غيره تعالى؛ فيسلم قلبه لربه خاليًا من مزاحمة الهوى ومن طاعة الغير، ومن التعلق بسواه أو الحب لغيره أو التعظيم لمن دونه، وعلى هذا يقول (لا اله الا الله).
والتكبير لله يصغر به ما سواه، وبهذا يقول (الله أكبر)، والحول والقوة لله يقتضي التبري من حول غيره وحول النفس وقوتها، وهذا معنى الافتقار وهو يوجب عبوديات عظيمة منها التوكل، والمتوكل محمول بقوة ربه تعالى، فيلهج (لا حول ولا قوة الا بالله)، وهي كنز من الجنة، وهكذا أمر الله تعالى في الذكر.
اقرأ: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}، وانظر إلى صفات ربك وأفعاله وحكمته ورحمته وقدرته، وامتلاكه أمر الدارين، ستجد الكثير فيطمئن قلبك.. فذِكره تعالى في كل حال هو بحسب ذلك الحال، فاللهم اجعلنا ذاكرين لك ومذكورين عندك، واللهم {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة من الآية:286].