المادة

أنتم الفقراء إلى الله

309 | 13-11-2015



الحمد لله المتفرد بعظمته وكبريائه ومجده، المدبر للأمور بمشيئته وحكمته وحمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وربوبيته وفضله ورفده، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خير داع إلى هداه ورشده، اللهم صلِّ وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه وجنده, أما بعد:



إخواني:

لقد سعد من تعلق قلبه خوفًا ورجاء بالملك المولى، وقد خاب من طغى وأعرض واستغنى، فمن تعلق بغير الله وكل إليه، ومن تعلق بربه أسعفه بمراده وقربه إليه، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ» [1]. والله يقول وقوله الحق: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] [2].

لقد شرع الله تعالى لنا وأوجب علينا عبادته، وليس ذلك لحاجته إلينا، لا لتحميلنا المشقة، فالله غني عن العالمين، وهو أرحم الراحمين قال سبحانه: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97]. وقال في آية أخرى: {وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان:12].
فالله جل وعلا لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، والحديث الآنف الذكر أبلغ شاهد وأوضح بيان لمن تأمل فيه وتدبر.

"إن الباعث الأساسي للعبادة هو استحقاق الله تعالى لذلك فنحن نعبد الله جل وعلا لأنه مستحق للعبادة تحقيقًا للغاية التي من أجلها خلق الإنس والجن، كما قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. فهو المستحق الوحيد للعبادة لعموم سلطانه على الكون وعظيم فضله على الخلق أجمعين، ومع ذلك يجب أن نعلم أن الله تعالى غني عن العالمين فالعبادة لا تزيده ولا تنقصه مثقال ذرة؛ لأنه غني بذاته غنىً مطلقاً فلا يحتاج إلى شيء مما في الوجود بل كل ما في الوجود محتاج إليه.

وعليه فإن ثمرة العبادة إنما ترجع إلى الشخص العابد نفسه إذ هو المحتاج إلى الله تعالى والمفتقر إليه استعانة وتوكلًا كما قال تعالى: {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [الإسراء:15] [3].

و لقد أحسن من قال [4]:

إذا تذللت الـرقاب تواضعًا *** منَّا إليك فعـزها في ذلـها


"إن المتأمل في جميع أنواع العبادة القلبية والعملية يرى أن الافتقار فيها إلى الله هي الصفة الجامعة لها، فبقدر افتقار العبد فيها إلى الله يكون أثرها في قلبه، ونفعها له في الدنيا والآخرة، وحسبك أن تتأمل في الصلاة أعظم الأركان العملية، فالعبد المؤمن يقف بين يدي ربه في سكينة، خاشعًا متذللًا، خافضًا رأسه، ينظر إلى موضع سجوده، يفتتحها بالتكبير، وفي ذلك دلالة جليَّة على تعظيم الله تعالى وحده، وترك ما سواه من الأحوال والديار والمناصب.

وإن أرفع مقامات الذلة والافتقار أن يطأطئ العبد رأسه بالركوع، ويعفِّر جبهته بالتراب مستجيرًا بالله منيبًا إليه، ولهذا كان الركوع مكان تعظيم الله تعالى، وكان السجود مكان السؤال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ -عَزَّ وَجَلّ-َ وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاء؛ِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» [5]. ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في ركوعه: ا «للَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي وَعَصَبِي» [6].

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "أصل الخشوع: هوَ خشوع القلب، وهو انكساره لله، وخضوعه وسكونه عن التفاته إلى غير من هوَ بين يديه، فإذا خشع القلب خشعت الجوارح كلها تبعًا لخشوعه" [7]. إنَّ هذه المنزلة الجليلة التي يصل إليها القلب هي سرُّ حياته وأساس إقباله على ربه سبحانه وتعالى؛ فالافتقار حادٍ يحدو العبد إلى ملازمة التقوى ومداومة الطاعة.

فمَنْ عرف قدر نفسه وحقيقتها وفقرها الذاتي إلى مولاها الحق في كل لحظة ونَفَس، وشدة حاجتها إليه عظمت عنده جناية المخالفة لمن هو شديد الضرورة إليه في كل لحظة ونَفَس، فإذا عرف حقارتها مع عظم قدر من خالفه؛ عظمت الجناية عنده؛ فشمَّر في التخلص منها، وبحسب تصديقه بالوعيد ويقينه به يكون تشميره في التخلص منها، وبحسب تصديقه بالوعيد ويقينه به، يكون تشميره في التخلص من الجناية التي تلحق به" [8].



فيا أخي: كن ذليلًا خاضعًا لله؛ فبتذللك وافتقارك بين يدي ربك جل وعلا تتحرر من الخضوع والاستسلام لغير الله، فتصبح بذلك حرًا طليقًا من سلطان سوى سلطان الله تعالى، وتُحس بالسكينة إلى الله، وتجد العزة والنصرة؛ لأن مصدر العزة إنما هي باللجوء إلى الله تعالى، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8]. {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.


___________________________
[1]- رواه مسلم [4674]، [12/455].
[2]- الفواكه الشهية في الخطب المنبرية لـ(السعدي).
[3]- كتاب العبادة [1/4].
[4]- التذكرة للقرطبي [3/167].
[5]- رواه مسلم [738]، [3/22] .
[6]- رواه مسلم [1290]، [4/169].
[7]- فتح الباري لابن رجب [5/179].
[8]- مجلة البيان [العدد 196 ص26] ذو الحجة [1426] بتصرف.

تصميم وتطويركنون