المادة
أسباب سوء الخاتمة .. تعلق القلب بغير الله
أسباب سوء الخاتمة
تعلُّق القلب بغير الله
فإذا تعلَّق القلب بالله - عز وجل - فإنه يسعد في الدنيا والآخرة، ومهما تعلَّق بغير الله - عز وجل - فإنه يشقى في الدنيا والآخرة؛ ففي القلب فقر واضطرار إلى الله - عز وجل - لا يسعد إلا بمعرفته، ولا يطمئن إلا بطاعته وعبادته وذكره، قال -تعالى-: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]، فإذا تعلَّق القلبُ بغير الله محبةً، أو توكلاً، أو خوفًا، أو رجاءً، فلا بد أن يشقى العبد، فهو تَعِيس غير سعيد، والأمر كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في "صحيح البخاري": ((تَعِس عبدُ الدينار، وعبدُ الدِّرهم، وعبد الخَمِيصة، وعبد القَطِيفة)).
وجاء في محاضرة بعنوان "قصص واقعية عن بعض الموتى" لمجموعة من الدعاة:
"أن رجلاً تعلَّق قلبُه بحب المال تعلقًا شديدًا، وقد بلغ من الكبر عِتيًا، ليس له أحدٌ يَرِثه، لا زوج ولا ولد، ولا قريب ولا حبيب، فلما حانت ساعته الأخيرة، ما كان منه إلا أن جمع ذهبه أمامه، وجعل بجواره زيتًا، وهو يخاطب الذهب، ويقول: يا حبيبي، يا مَن أفنيت فيك عمري، أموت وأتركك لغيري، لا والله، أنا أعلم أن موتي قريب، وأن مرضي خطير، ولكني سأدفنك معي، ثم جعل يأخذ دينار الذهب، ويغمسه في الزيت ويهوي به إلى فمه ليبلعَه، فإذا بلعه أصابته كحَّة شديدة، تكاد أن تذهب بروحه، ثم يأخذ نفسًا ويرفع دينارًا ثانيًا، ثم يغمسه في الزيت ويهوي به إلى فمه... وهكذا، حتى مات من جرَّاء ذلك"؛ اهـ.
فاجعل حبَّك الأول والأكبر والأعظم لله ولرسوله، ولا تجعل حبَّ الآباء، أو الأبناء، أو الإخوان، أو الأزواج، أو العشيرة، أو المال، يطغَى على حبك لله ولرسوله، قال -تعالى-: ﴿ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: 24].
وصدق القائل حيث قال:
أنتَ القتيلُ بكلِّ مَن أحببتَه
فاخترْ لنفسِك في الهوى مَن تَصْطفِي
|
فكل مَن أحب شيئًا غير الله عُذِّبَ به ثلاث مرات في هذه الدار، فهو يُعذب به قبل حصوله حتى يحصُل عليه، فإذا حَصَل عليه عذِّب به حال حصولِه بالخوف من سلبه وفواتِه، فإذا سُلِبه اشتدَّ عليه عذابُهُ، فهذه ثلاثةُ أنواع من العذاب في هذه الدار, وأما في البرزخ، فعذابٌ يقارنه ألمُ الفراقِ الذي لا يرجو عَوْدَه، وألمُ فوات ما فاته من النعيم العظيم باشتغاله بضده، وألمُ الحجاب عن الله، وألمُ الحسرة والتي تقطعُ الأكباد، فالهمُّ والغمُّ والحسرة والحزنُ تعمل في نفوسهم نظيرَ ما تعمل الهوامُّ والديدانُ في أبدانهم، بل عملُها في النفوس دائم مستمر، حتى يردَّها الله إلى أجسادها، فحينئذٍ ينتقلُ العذاب إلى نوع هو أدهى وأمرُّ"؛ (الداء والدواء لابن القيم - رحمه الله).
فلا يجوز للعبد أن يعلِّق قلبه بغير الله - عز وجل - لأن ذلك قد يغلب على قلبه، ويشغل خاطره عن ذكر الله في الدنيا وعلى فراش الموت.
وهذه بعض الأمثلة لمَن غلب على قلبه محبة غير الله، فكان ذلك من أسباب سوء الخاتمة:
1- ذكر ابن القيم - رحمه الله - كما في كتابه "الداء والدواء" (صـ 200): "أن رجلاً تعلَّق بشخص وأحبَّه، حتى وقع ألَمٌ به، فتمنَّع عنه، واشتدَّ نفارة منه، فاشتد المرض بهذا البائس المحب حتى لزم الفراش - فراش الموت - فلم تزل الوسائط تمشي بينهما حتى وعد بأن يعوده - أي يزوره - فأخبر بذلك هذا البائس بهذا الخبر، ففرح واشتد فرحه وسروره، وانجلى عنه بعض ما كان يجده، وبينما كان الرجل في الطريق لزيارته، رجع، وقال: والله لا أدخل مداخل الريب، ولا أُعرِّض نفسي لمواقع التهم، فأُخْبِر بذلك البائس المسكين، فسقط في يده ورجع إلى أسوأ ما كان، وبدت علامات الموت عليه، حتى قال في آخر رمق له وكان آخر ما قال:
أسلمُ يا راحةَ العليلِ
ويا شِفَا المُدْنِف[1] النَّحِيلِ
رضاكِ أشهى إلى فؤادي
من رحمةِ الخالقِ الجليلِ
|
فقال الراوي: يا فلان، اتَّقِ الله -تعالى- فقال: قد كان ما كان، فقال الراوي: فقمتُ عنه، فما جاوزت باب داره، حتى سمعت صيحة الموت، فنعوذ بالله من سوء العاقبة وشؤم الخاتمة".
2- وهناك قصة ذكرها الشيخ "سعد البريك" في محاضرة له بعنوان: "وهل من عودٍ قبل الموت؟"، وذكر فيها "أن شابًّا سافر إلى بانكوك، وتعرَّف هناك على فتاة بغيٍّ، فشغف قلبه بها، وأصبح لا يحتمل فراقها، وارتكب معها من المعاصي والمحرَّمات ما تقشعر من هوله قلوب المؤمنين، وما زال على تلك الحال من التعلُّق بها، حتى صار لا يطيق أن يعيش يومًا بدونها، وفي أحد الأيام تأخرت عن القدوم إليه، فطار صوابه، وأصابه الهمُّ والضيق، وكاد يفقد عقله، فلما قدمت إليه زال حزنه، وانفرج همه، واستقبلها استقبالاً خططت له الشياطين طويلاً، فلم يجد ذلك المخذول المهان شيئًا يعبِّر به لها عن مدى فرحتِه بقدومِها، سوى أن يسجدَ لها من دون الله - تعالى، نعم، سَجَد لها، ولكنها كانت السجدة الأخيرة، فما قام منها إلا إلى قبره، نعوذ بالله من الخِذلان"؛ اهـ.
3- وهناك قصة أخرى لمخذولٍ عند الموت، عندما قيل له: قل: لا إله إلا الله، فجعل يقول:
يا رُبَّ قائلةٍ يومًا وقد تَعِبت
أين الطريقُ إلى حمَّام منجابِ
|
وهذه الأبيات لها قصة ذكرها القرطبي في كتابه "التذكرة" عن أبي محمد عبدالحق أنه قال في كتابه "العاقبة": "هذا الكلام له قصة، وذلك أن رجلاً كان واقفًا بإزاء باب داره، وكان يشبه باب حمَّام للنساء يُسَمَّى "حمَّام منجاب"، فمرَّت به جارية لها منظر، وهي تقول: "أين الطريق إلى حمَّام منجاب"، فقال لها: "هذا حمَّام منجاب"، وأشار إلى داره، فدخلت الدار ودخل وراءها، فلما رأت نفسَها معه في داره وليس بحمَّام، علمت أنه خدعها، أظهرت له البِشْر والفرح باجتماعِها معه على تلك الخلوة، وفي تلك الدار، وقالت له: يصلح ليكون معنا ما نطيِّب به عيشنا، وتقرُّ به أعيننا، فقال لها: الساعة آتيك بكل ما تريدين وبكل ما تشتهين، فخرج وتركها في الدار ولم يقفلها، وتركها محلولة على حالها ومضى، فأخذ ما يصلح لهما، ورجع ودخل الدار، فوجدها قد خرجت وذهبت ولم يجد لها أثرًا، فهام الرجل بها، وأكثر الذكر لها، والجزع عليها، وجعل يمشي في الشوارع والأزقة، وهو يقول:
يا رُبَّ قائلةٍ يومًا وقد تَعِبت
أين الطريقُ إلى حمَّام منجابِ
|
وإذ بجاريه تجاوبه من طاقةٍ، وهي تقول:
هلاَّ جعلت لها إذ ظَفِرتَ بها
حِرزًا على الدارِ أو قُفْلاً على البابِ
|
فزاد هيمانه، واشتد هيجانه، ولم يزل كذلك حتى كان من أمره ما ذكر، فنعوذ بالله من المحن والفتن، فاعتبروا يا أولي الأبصار، فمَن لم يعتبر بغيره صار عبرة لغيره".
[1] الدَّنف: هو المرض الشديد الملازم لصاحبه، وتطلق كثيرًا على المريض من الحب والهيام.