المادة

"التنويريون السعوديون" ..قراءة هادئة وسط الضجيج

385 | 26-09-2014

الأستاذ بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن


عندما كثر الحديث عن الغلو والإرهاب في الآونة الأخيرة خصوصاً خلال العامين الماضيين ؛ برزت على السطح كثير من الأفكار التصحيحية والإصلاحية وأطراً عدة للخروج من مأزق التكفير والتطرف وتهم الجمود الفكري والانغلاق الفقهي الذي وجه نحو الخطاب الإسلامي المعاصر. فكانت فرصة مهمة للمراجعة وإعادة النظر في كثير من الأولويات وتراتيب العمل الإسلامي والإصلاحي عموما .

ونظراً لكون المقام منصباً نحو التطرف والغلو كأساس للمراجعات , كان لابد لهذا التطرف أن يغري البعض بأفكار متطرفة في المقابل , قد تتفق أو تختلف من حيث القوة ولكنها تعاكسه من حيث الاتجاه.

فظهرت على الساحة الفكرية – متزامنة مع وهج الانفتاح الإعلامي العولمي- أطياف متعددة لرؤى تجديدية كان بعضها شديد القابلية لأسر اللحظة الحاضرة والمعطيات الجاهزة والبيئة المحيطة. فلم تأت بجديد بقدر ما هو إسماع بالتجديد . وبرزت تيارات فكرية بُعثت من جديد في وطننا بعد ركود دام عقود من الزمن عاشت عصرها الذهبي في بعض الأقطار الإسلامية .
كان من أبرزها حضوراً في الأزمة الراهنة " التيار التنويري " أو " العقلاني " ذو الثقافة والفلسفة الإسلامية .وقد حمل إرثه الإصلاحي طليعة من المثقفين السعوديين , برز منهم على الساحة الإعلامية بعض الشباب المثقف والمتحمس أيضا للصدام والمستعد لخوض معارك البقاء والمنعتق من قيد الأيدلوجيات التقليدية أو الحركية, مما أدى إلى سجالات ومعارك اقصائية شهدتها ساحات الإنترنت وبعض صحفنا اليومية وسط مناخات فكرية قاسية وثقافات كانت تحرم هذا الطرح جملة وتفصيلا.
إن شيوع استخدام مصطلح " التنوير " في وصف هذا الفكر الناشيء من قِبل أصحابه وغيرهم , يدعونا لدراسة الامتداد التاريخي والفكري للفلسفة التنويرية التي نشأت في أوائل القرن السابع عشر الميلادي , والتي يحلم البعض بمحاكاتها كتجربة رائدة يمكن تكرارها في المجتمعات المماثلة .. حيث انطلقت بداية التنوير العقلي والتحرر من القيود الدينية والسلطوية بشكل واضح مع الثورة الإنجليزية عام 1688م ,كتب أثناءها "جون لوك" مقالته "حول التسامح " ثم مقالته في "الفهم الإنساني " والتي أدت إلى حراك ثقافي وسياسي منع الاستبداد الكاثوليكي وسمح للبروتستانت وغيرهم بحرية العبادة والتعليم , وقد صدر قانون " التسامح " 1689م ليجعل انجلترا في تلك الحقبة أكثر دول أوروبا حرية وليبرالية .

خلال القرن السابع عشر والثامن عشر الميلادي برز النتاج الفكري والعلمي لفلاسفة التنوير والذي أطاح بجانب كبير من العقيدة المسيحية , وجعل العقل آلة الفهم للطبيعة والكون والحياة , وأُسقط كل ما هو خارق للطبيعة أو غيبي , وبدأ النقد اللاذع لسلطة الكنيسة وهيمنتها الإقطاعية الاستبدادية على الفكر والسياسة والمجتمع . من خلال تبطين النقد في بعض الروايات الدرامية الفلسفية ؛كان أشهرها "إيلويز الجديدة " لجان جاك روسو , و"رسائل فارسية " لمنتسكيو , و "كانديرا" لفولتير , و" جاك القدري " لديدرو وغيرها من الروايات والمقالات , والتي أثارت الكنيسة وأتباعها فحرّمت قرأتها وتداولها في وقت انتشرت الصالونات الأدبية في كثير من المدن الأوربية كان أشهرها الصالونات الباريسية المحمومة بالنقد والإلحاد الذي بدأ يظهر على بعض الفلاسفة التنويريين.

في تلك الآونة برز النتاج العقلي الثائر على السلطة الكهنوتية التي جسدت القدر الإلهي المرسوم الذي لا يحيد عنه إلا هالك , وانتهى احتكار الرهبان والقساوسة للفلسفة والعلم . حينها توالدت النظريات الفلسفية العقلانية الصارخة على يدي " هيلفتيوس" و" ديكارت " و "سبنيوزا" بلغت قمتها وتطورها على يدي "هيجل" الذي تعدّ فلسفته الأعمق في الفكر الأوربي الحديث .

ثم خرجت النظريات الاجتماعية التنويرية فاتسق نظامها المعرفي في مشروع "كانت" و "فيكو" . كما برزت النظريات الاقتصادية من خلال "أدم سميث " و"ماركس" , ويعتبر " ميكافيلي " أول فيلسوف سياسي تنويري يضع مشروع الدولة المركزية البرجوازية , وبدأ المنهج التجريبي العلمي يتبلور على يدي " فرانسيس بيكون " و " نيوتن " و " غاليليو ".. , حينها تصاعد الحراك الفكري والثقافي إلى حراك اجتماعي وسياسي هيج الجماهير الفقيرة المقهورة في فرنسا وبقية الدول الإوروبية وحتى أمريكا الى انتهاج الثورة على الدولة والكنيسة .(1)

أمتد الأثر الفكري للثورة الفرنسية مع امتدادها العسكري وكذلك من خلال الاتصال الغربي بالمشرق الإسلامي وقد أوجد هذا الاتصال الثقافي ذو النزعة الطوباوية إلى تأثر بعض المثقفين المسلمين بمباديء التنوير الفلسفي والعقلاني كالطهطاوي والأفغاني وخير الدين التونسي والكواكبي وغيرهم , وانتشرت مؤلفاتهم وأفكارهم الإصلاحية في عموم البلاد الإسلامية حتى جاء الجيل الأكثر وعياً بالفكر التنويري الغربي كزكي نجيب محمود و العشماوي وحسن حنفي وجمال البنا والجابري وأركون ..فحاولوا تأطير الفكر والمزاوجة بينه وبين الفلسفة الاسلامية بنفض الغبار عن فكر ابن رشد وابن سيناء والفارابي وعموم الفكر الاعتزالي والباطني مما ولّد أجنة مشوهة بقيت حبيسة أسوار " المدينة الفاضلة " ولا أدري عن مدى صمودها لتغيرات العصر وتحدياته القادمة إذا تجسدت في أرض الواقع ؟!.

ومازالت هذه الأجيال التنويرية تتوارث الأفكار والرؤى القديمة نفسها التي وضعها جيل التأسيس الأول مع كثرة حديثهم عن ا لتحرر و التجديد والانعتاق من التسلط الديني التقليدي و الموروثات القديمة!! , بينما لا نجد نقداً موضوعياً للفكر التنويري الغربي يوازي نقدهم الشديد " للتراث الديني" و " العقل العربي " كما فعل الجابري , أو "الفكر الإسلامي " كما فعل أركون وحنفي وغيرهم , في حين كانت هناك مدارس بدأت تنشأ في الغرب لنقد فلسفة التنوير وثورته الدامية من كبار الفلاسفة كما فعل " ماركس " في نقد " برجوازية الثورة " و "فرويد" و "نتشه" في الثورة على العقل والتأكيد على الدور النفسي والغريزي من أجل النفاذ إلى ما وراء الواجهة العقلانية (2)...

وهنا أسأل إخواننا التنويريين السعوديين هل يعني هذا المسمى ( التنوير) الامتداد التاريخي والفكري لمن سبق من فلاسفة التنوير أم أنها ظاهرة إعجاب منبهر جاءت في لحظة عناد مع الواقع ؟ ..
بقي أن نعرف هل هناك ملامح فكرية عامة تجمع أطياف هذا التيار الناشيء ؟ .. الحقيقة أنني لم أطلع على رسم واضح يعبرون فيه عن سماتهم المنهجية ومعالمهم الفكرية بصراحة , وأعتقد أن لهذا مبرراته الزمانية والمكانية والردود الإقصائية المتوقعة , ولكني سأحاول جمع بعض الرؤى العجلى كمحاولة أولى لفتح باب المزيد من الدراسات العلمية و الموضوعية للدارسين و الباحثين في هذا الموضوع . ألخصها فيما يلي :
1- أن هذا الفكر مازال جديدا لجيل الشباب ومعالمه مازلت لم تهضمها ثقافتهم وبناءهم المعرفي السابق , مع شدة حماسهم لاطروحاته التجديدية، وليس من المتوقع إمكانية تنظيم ملفاتهم وأوراقهم المبعثرة في الفترة القادمة لاختلاف طبائعهم وموروثاتهم السابقة ومرور بعضهم بمراهقة فكرية حادة قد تبطل كل مشروعاتهم الإصلاحية .
2- الغلو في نقد المدرسة السلفية التقليدية وإظهار جمودها وانغلاقها على الواقع المعاصر مما حدا بكل الناقمين عليها والمخالفين لها أن ينظموا في خندق هذا التيار مع تباين أطيافهم وانتماءاتهم الفكرية , واعتقد لولا قميص النقد للسلفية وردة الفعل من المقابل لما اجتمعوا على هذا التيار في خندق واحد ليثأروا لبعضهم ويتنادوا في منتدياتهم " التحاورية" أو في واديهم المقدس " طوى " أو من خلال مقالاتهم في صحفنا اليومية .
3- الاعتماد في تفسير النصوص الشرعية والأحكام الثابتة على العقل المجرد والمصلحة الذوقية وتأويلها وتنزيلها على الواقع من خلال هذه الرؤية باعتبارها الأوفق لحياة الناس المعاصرة , ونقد الكثير من القواعد الأصولية بحجة تضييقها لمساحة المباح والعفو في الشريعة الإسلامية .
4- الدعوة لتجديد الفكر الإسلامي وتأطيره من جديد ، وربط النهضة بالمشروع الحضاري الشامل بالمفهوم الحداثي المعاصر .
5- نقد التيارات الإسلامية الحركية من غير تمييز واتهامها في مقاصدها بتسييس الدين لصالحها ووصمها بالانتهازية وربطها أحيانا بالعمالة لدول أجنبية .
6- التأكيد المستمر على خيار الديمقراطية في الإصلاح , والعمل على إقامة دولة المؤسسات وتحقيق مفهوم المجتمع المدني من خلال المنظار الليبرالي التقدمي .
7- الدعوة لـ" الإسلام المستنير " كمخرج من الجمود والتقليد الذي تعيشه بعض المجتمعات الإسلامية الخليجية , وكمفهوم للدين يتوافق مع ديمقراطية الغرب ومبادىء المجتمع المدني , كما تبرز أهميته في قابليته للتشكل لأي صياغة ليبرالية يستدعيها موقفهم القيمي , وهذا ما جعل التيار الليبرالي يتبناهم ويفسح المجال لهم في كثير من منابره الثقافية والإعلامية .
8- تجلية التاريخ الإسلامي- بدأ من عهد الخلفاء الراشدين –بدراسة سلبياته وإيجابياته وأسباب انحرافاته السياسية والفكرية, وتمجيد الأفكار والحركات الباطنية والاعتزالية والفلسفية كنوع من التحرر الفكري العقلاني والنهوض الثوري في وجه الرجعية التراثية .

إن هذه الملامح وإن كانت مشتركة عند الأكثر إلا أنها قد تزيد أو تنقص عند أفرادهم حسب ميولهم الثقافية وحاجة الوسط الذي يعيشون فيه لتغليب نوع معين من جوانب الإصلاح التنويري . والحقيقة أن هذا الفكر مع كل الإشكاليات المثارة عليه قد حمل معه صواباً كثيراً ورؤى تجديدية واقعية وغنية بالمعرفة وبالوعي الحضاري لبعض المشكلات و القضايا الإسلامية المعاصرة والمستقبلية .

إن رموز التيار التنويري السعودي لهم شهرتهم في الوسط الفكري المحلي والعربي , ولكني تعمدت عدم ذكرهم بأعيانهم في مقالي , لان أكثرهم لم يخرج بعد من مخاض هذه التجربة الفكرية , وفكره الإصلاحي لم ينضج ولم يستقر , كما أن البعض مازال ممسكاً بزمام حب الإثارة والبحث عن الشهرة الثقافية والصعود فوق أي ركام كان .

ولعل الظروف المتوترة التي تمر بها المملكة اليوم من جرّاء أعمال التفجير والتخريب الإرهابي أو من خلال الضغط والاتهام الخارجي يدعو الجميع لتجاوز مرحلة الاحتقان الحاصل بين هذا التيار التنويري وغيره من التيارات المحافظة , ويردم الهوة التي حفرتها الاتهامات المتبادلة بالوقوف خلف الغلو والتكفير . وبإعمال بسيط لفقه الاولويات والموازنات وحتمية المرحلة و طبيعة المواجهة فإن عوامل الاتفاق قد تتجاوز نقاط الافتراق وبشكل كبير , إذا وعينا حجم المتغيرات السياسية والاجتماعية القادمة .

إن الغرب في أزمته الراهنة في الشرق الأوسط بدأ يراهن من أجل إعادة تشكيل المنطقة و كسب التأييد الشعبي لإصلاحاته الديمقراطية على ما اسماهم بـ"الإسلاميين الليبراليين " وقد وعد أكثر من مسؤول أمريكي بالدعم المادي لفكرة " التسامح الديني" و " الإسلام المستنير " في المنطقة (3) , فهل يعي التيار التنويري موقعه الحالي في الأزمة الراهنة ؟.

وفي الختام .. أتمنى أن تكون قراءتي الموجزة للفكر التنويري السعودي هادئة رغم الضجيج وغبش الرؤية .. وأن نتعامل معها كظاهرة صحية تستوجب النقد والتقويم ولا أبريء نفسي و زلات قلمي من التجاوز والخلل .. ولكنها دعوة عامة للتحاور المثمر الجاد والتثاقف المستمر حتى لو فقدنا أدواته وضعينا أدبياته ..

mesfer@kfupm.edu.sa

---------------------
[1] انظر:كتاب( التنوير ) , تاليف : لويد سبنسر واندريه كراوز (مترجم) ؛ وكتاب (الفلسفة والإنسان ) تأليف: د. فيصل عباس ..
[2] انظر : كتاب (تاريخ الثورة الفرنسية) تأليف : البير سوبول , القسم الثاني من الكتاب لتلحظ عظم البشاعة والظلامية التي قام بها الثوار ؛ كتاب (التاريخ الأوروبي الحديث والمعاصر ) تاليف : د. عبد الرحيم عبد الرحمن , الفصل التاسع ؛ كتاب (الفلسفة والإنسان) تأليف : د. فيصل عباس من ص249-276 .
[3] انظر : مقال (بعد تفجيرات بالي .. أمريكا تدعم الإسلام اللطيف) للكاتب الصحفي صهيب جاسم , نشر في موقع اسلام أون لاين في 28/12/2002م ؛ ومقال (الإستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه العالم العربي و الإسلامي ) للكاتب كمال السعيد , جريدة الشعب 8/2/2002م .

تصميم وتطويركنون