المادة

خرافة القصدية في الخطاب الليبرالي

354 | 25-09-2014

بسم الله الرحمن الرحيم


بسم الله, والحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله, وعلى آله وصحبه ومن والاه, وبعد..
أول حوار حصل, وأول مسألة دار فيها جدل في الملأ الأعلى بحسب ما جاء في كتاب الله, وفي حدود ما أطلعنا الله عليه, هي حكمة الوجود البشري على الأرض, فسؤال المقاصد سؤال عميق يضرب بجذوره في تاريخ هذا الكون, وسيظل كذلك حتى ينتهي الوجود.
قال الله تعالى عن جواب الملائكة الكرام حينما عرض عليهم خلق آدم عليه السلام (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)([1]) .
فالملائكة عليهم السلام مع جلالة قدرهم وقفوا مع ظاهر النص ولم يلتفتوا لمقاصد الخالق, فتوهموا مفاسد بادئ الرأي, لكن الله تعالى:"علم أدم ما علمه ثم امتحن الملائكة بعلمه فلم يعلموه, فأنبأهم به آدم, وكان في طي ذلك جوابا لهم عن كون هذا الخليفة لا فائدة في جعله في الأرض: فإنه يفسد فيها ويسفك الدماء, فأراهم من فضله وعلمه خلاف ما كان في ظنهم"([2]). فما كان منهم عليهم السلام إلا أن سلموا بحكمة الله البالغة, وأذعنوا لسعة علمه الشاملة. وليس هذا بعجب، فإن موسى عليه السلام خفي عليه وجه الحكمة في نقض السفينة الصحيحة، وقتل الغلام الجميل، فلما بين له الخضر وجه الحكمة، أذعن, فلنكن مع الخالق كموسى مع الخضر([3]).

أما إبليس فأغرق في تأويل مقصد النص من جهتين:
الأولى: من جهة مقصد الأمر حينما قال: (أنا خير منه)([4]) , وهو اعتراض مبني على تعلق بمصلحة متوهمة ليغطي بها حقيقة كبره واعتراضه, ومن المعلوم أنه لا يقع اعتراض إلا بتأويل فاسد, ولا تأويل فاسد إلا لاعتراض خفي.
يقول ابن الجوزي رحمه الله في صيد الخاطر :"وهذه هي المحنة التي جرت لإبليس، فإنه أخذ يعيب الحكمة بعقله، فلو تفكر، علم أن واهب العقل أعلى من العقل، وأن حكمته أو فى من كل حكيم؛ لأنه بحكمته التامة أنشأ العقول. فهذا إذا تأمله المنصف، زال عنه الشك، وقد أشار سبحانه إلى نحو هذا في قوله تعالى: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ}"([5]).
فالليبرالية وهي تعيش إفلاسا حقيقيا في الربيع العربي, لا زالت تؤمن بصلاح مشروعها, وتقلل من مشاريع الإسلاميين, وتفسر نجاحهم في بعض البلاد العربية أنه ما كان إلا حينما تخلوا عن قيم الإسلام وتبنوا قيم الليبرالية. هم لا يريدون أن يقولوها صراحة ,نرفض الإسلام جملة وتفصيلا, ولكن ستروا حقيقة الأمر كما ستر سلفهم حينما قال"أنا خير منه". أفتراهم – كما يقول ابن الجوزي - بماذا حكموا بفساد هذا التدبير؟! أليس بمقتضى عقولهم؟! أو ما عقولهم من جملة مواهبه؟! فكيف يحكم على حكمته وتدبيره ببعض مخلوقاته؟!.
والثانية: من جهة مقصد النهي (قال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين)([6]), فوصف الله العليم الحكيم هذا التأويل – لمقصد النهي – بالفتنة: (يابني آدم لا يفتننكم الشيطان)([7]), ثم كشف عن حقيقة مراد الشيطان وغايته التي يسترها بذلك التأويل (ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما)([8]),. ألا تعجب معي أخي من هذا الاسلوب الشيطاني الذي يتجدد في كل عصر ومصر للإلتفاف على مقاصد الشريعة الإسلامية, ولك أن تتأمله من خلال أمرين:
الأول: أن منطلق الشيطان كما هو منطلق دعاة الليبرالية, ومن لف لفهم اليوم من علماء السوء وطلاب الدنيا ليس هو البحث عن مراد الله, بل التحايل على هذا المراد, إذ مراد الله كان جليا واضحا للشيطان (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما)([9]) , وأما النهي فكان كذلك جليا (ولا تقربا هذه الشجرة)([10]), ومن جميل ما سمعته من الشيخ أحمد الريسوني حفظه الله, أنه لم ولن يعط أحد من الحرية ما أعطيها آدم عليه السلام وزوجه في الجنة, ومع ذلك جاء قيد (ولا تقربا هذه الشجرة). فمقصد الحرية التي تتغنى بها الليبرالية اليوم بلا قيد, لا يتصور أن ينفك عن قيد حتى مع هذه الإباحة المطلقة في الجنة والتي لم تحصل لأحد من الأولين والآخرين. ومن جميل ما ضبط به علماء المقاصد هذا الباب ما ذكره ابن عاشور بقوله :"وأما حرية الأقوال فهي التصريح بالرأي والاعتقاد في منطقة الإذن الشرعي"([11]).
الثاني: التذرع بالشعارات الجوفاء كالمصلحة والمنفعة وروح الشريعة ومغزاها ومعناها, والضمير الإسلامي والوجدان الحديث, وهي قضية مرحلية وقنطرة وقتية للعبور للغرض الأساس وهو إقصاء الشريعة من واقع الحياة.
ولهذا تأتي قراءة نصوص الوحي في الخطاب الليبرالي لا تحكمها معايير وضوابط غير الهوى ومراد الإنسان أيا كان هذا المراد, والهدف هو التحرر من سلطة النصوص, ومن المقرر أن النصوص ليست شيئا يقيد الإنسان إلا من خلال مضامينها وما تطرحه من مقاصد متضمنة في داخل لغة عربية سهلة ميسرة, إلا أن الخطاب الليبرالي يصر على أن الوحي يقول كل شيء ولا يقول شيئا, والعبارة هذه في الحقيقة إذا أردنا أن تكون دقيقة فالمقصود أن الوحي لا يقول شيئا لا يرغب به الإنسان, ويقول كل شيء لكل إنسان, فهو فضاء لكل إسقاطات الإنسان ورغباته وفكرانياته[12].

ومن مظاهر هذه الخرافة القصدية الليبرالية: زعمهم الإسلام كان في أساسه قاصراً على الأخلاق والقيم، ولم يكن فيه أي نظام سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي[13]. فلم يعد بذلك للإسلام سلطان على فكر الناس أو سياستهم ولا على أموالهم أو علاقاتهم الاجتماعية. وبهذا تعطل مئات النصوص من الكتاب والسنة, التي تتناول تنظيم شؤون الحياة في اختيار ولاة الأمر من الشورى وغيرها, أو التي تقرر مشروعية البيوعات, وتحرم بعضا منها كالربا والغرر والغش والظلم, أو التي تبين واجب الزوج في معاشرته لزوجه, وحقوق الرجل على زوجته, فتحرم التعدي في استعمال حق الطلاق, أو التعسف في حق الولاية, أو العضل من غير مسوغ شرعي وغيرها كثير.

ومن مظاهرها: القول: بأن الإسلام كان رخواً مرناً جداً في التعامل مع الشعوب المفتوحة، فلم يطلب أكثر من إعلان الشهادة فقط، وليمارسوا عاداتهم ومعتقداتهم كما يريدون[14]. وهذه عقيدة الإرجاء ولكن بقالب الليبرالية التي تتجاهل:"أن قصد الشارع من وضع الشرائع إخراج النفوس عن أهوائها وعوائدها([15]).
فهي شريعة تزاوج بين الحزم والتيسير في تمثل العباد لمطالبها وانزجارهم عن محارمها, وحين أشار ابن عاشور رحمه الله إلى هذين المسلكين: قيد مسلك التيسير بقيدين رائعين:
الأول: ينبغي أن يكون مسلك التيسير والرحمة بقدر لا يفضي إلى انخرام مقاصد الشريعة([16]).
والثاني: أن الشريعة تحمل الناس على المصالح إذ لا فائدة في التشريع إلا العمل به([17]).

ومن مظاهر الخرافة القصدية في الخطاب الليبرالي: التقليل من شأن الشعائر الظاهرة, واستبعادها من مفهوم المقاصد. مع أن المعنى الشعائري متجذر في المقاصد فهي لغة مطالب فيها معنى الكسر والقهر, فليست المقاصد أهواء ولا نزوات بل هي عبودية فيها قسر لمقاصد النفس الأمارة بالسوء, وكسر لأهوائها حتى توافق مقاصد العباد مقاصد المعبود, وفيها مراغمة للشيطان وأعوانه. ولعل في السنة ما يشير إلى هذا المعنى في قوله صلى الله عليه وسلم (يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ) ([18]), فأمر بالصيام لكسر الشهوة لأن:القوة أو الشهوة الحيوانية وصف مناسب لفعل الصوم فرضا أو استحبابا, ومقصوده كسر تلك القوة, وتحصيل وقاية النفس من شرور الجسد والروح([19]).
ومن مظاهر الخرافة القصدية في الخطاب الليبرالي: خلخلة الثوابت وتحطيم المقدسات, من خلال أدبيات هذا الخطاب وتجلياته في المقال والرواية وغيرها. وهذا لا يستقيم إذ:"من مقاصد الشريعة في التشريع أن يكون نافذا في الأمة ومحترما من جميعها, إذ لا تحصل المنفعة المقصودة منه كاملة بدون نفوذه واحترامه"([20]).

وفي المقابل تجد الخطاب الليبرالي مفتونا بالمنظومة الفكرية والحضارية الغربية يجتر معاني كثيرة كالمواطنة والمساواة والعدالة والدستور والدولة المدنية وتحرير المرأة والتسامح وغيرها, في فصل تام لها عن سياقها الفلسفي والتاريخي, ثم يتلقفها عنهم بعض الصحفيين فيردد معانيها وهو لا يدري هل أراد بها القوم ما قصده الله ورسوله من العدل والحق, أم لا. وما أشبه بني جلدتنا اليوم ببني جلدتنا بالأمس, على نحو ما قاله ابن تيمية رحمه الله:"وهؤلاء وأمثالهم يعظمون ما وافق فيه الفلاسفة، كما يفعل ذلك..ابن عربي صاحب الفصوص، وأمثالهم ممن يأخذ المعاني الفلسفية يخرجها في قوالب المكاشفات والمخاطبات الصوفية، ويقتدي في ذلك بما وجده من ذلك في كلام أبي حامد ونحوه. وأما عوام هؤلاء فيعظمون الألفاظ الهائلة مثل: لفظ الملك، والملكوت، والجبروت، وأمثال ذلك مما يجدونه في كلام هؤلاء وهم لا يدرون هل أراد المتكلم بذلك ما أراده الله ورسوله، أم أراد بذلك ما أراده الملاحدة كابن سينا وأمثاله"([21]).

ومن مظاهر الخرافة القصدية في الخطاب الليبرالي: ثناؤهم على دعاة الإصلاح ورواد الفكر النهضوي العربي في مطلع القرن الماضي أمثال محمد عبده والكواكبي وقاسم أمين ممن شكلوا البداية لفكرة الليبرالية العربية وانحرفوا بالشريعة عن مقاصدها الحقيقية طلبا للتوفيق بينها وبين الحضارة الغربية, فيمتدحونهم بما يعيبهم به المحققون من العلماء المعاصرين, وهي سنة المفتونين بأهوائهم, كما قال ابن تيمية عن بعض من سبقه :"وابن رشد يذم أبا حامد من الوجه الذي يمدحه به علماء المسلمين ويعظمونه عليه، ويمدحه من الوجه الذي يذمه به علماء المسلمين"([22]).

وفي أثناء رواج هذه الخرافة القصدية يلحظ الناظر تقاربا من بعض الإسلاميين مع هذا الخطاب ظنا من هؤلاء الفضلاء أنها نقطة اتفاق ومساحة التقاء, والأمر لا يعدو ترخصا غاب فيه فقه الحال واعتبار المآل, وكأن ابن الجوزي رحمه الله يخاطبهم بقوله :"احذروا -إخواني- من الترخص فيما لا يؤمن فساده؛ فإن الشيطان يزين المباح في أول مرتبة، ثم يجر إلى الجناح، فتلمحوا المآل، وافهموا الحال! وربما أراكم الغاية الصالحة، وكان في الطريق إليها نوع مخالفة! فيكفي الاعتبار في تلك الحال بأبيكم: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه: 120] ، إنما تأمل آدم الغاية -وهي الخلد- ولكنه غلط في الطريق"([23]).

ثم يقرر رحمه الله وهو العالم النحرير والناقد البصير أن هذا أعجب مصايد إبليس التي يصيد بها العلماء، يتأولون لعواقب المصالح، فيستعجلون ضرر المفاسد!!([24]).

ولهذا لا يستغرب أن يتستر الخطاب الليبرالي أحيانا بتنظيرات فكرية مصاغة بعقول شرعية, تحاول علمنة المقاصد الشرعية, وقسر هذه المصالح التي جاء بها الوحي كي تصدق المقصد العلماني القائل«دع ما لقيصر لقيصر، ودع ما لله لله», وهذا جريا على سنن الشيخ الأزهري «علي عبد الرازق» في كتابه:«الإسلام وأصول الحكم» والذي لا يزال حتى زماننا هذا يعد الإطار المرجعي الذي يستند إليه الخطاب الليبرالي في مواجهة التيارات الإسلامية الصاعدة والداعية إلى مرجعية الشريعة في الدولة العربية المعاصرة.
وكان من إفرازات هذه المداهنة مع هذا الخطاب الخادع ببريق المقاصد الوهمية, تضخم تقديس العقل عند شرائح من جيل الصحوة الإسلامية, كان من أسوأ مظاهره التطاول على الخالق جل وعلا, والنيل من جناب خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم, في حادثة كشغري وأمثاله.

ومن جميل ما سطره ابن الجوزي رحمه الله - في مواجهة هذه الظاهره التي تطل بعنقها كلما فتن الناس بغير مقاصد الكتاب والسنة الحقيقية, وتعلقوا بمقاصد خرافية وهمية-, قوله:"رأيت في العقل نوع منازعة للتطلع إلى معرفة جميع حكم الحق -عز وجل- في حكمه! فربما لم يتبين له بعضها -مثل النقض بعد البناء- فيقف متحيرًا! وربما انتهز الشيطان تلك الفرصة، فوسوس إليه: أين الحكمة من هذا؟!فقلت له: احذر أن تخدع يا مسكين! فإنه قد ثبت عندك بالدليل القاطع -لما رأيت من إتقان الصنائع-مبلغ حكمة الصانع؛ فإن خفي عليك بعض الحكم، فلضعف إدراكك.ثم ما زالت للملوك أسرار، فمن أنت حتى تطلع بضعفك على جميع حكمه؟! يكفيك الجمل! وإياك إياك أن تتعرض لما يخفي عليك، فإنك بعض موضوعاته، وذرة من مصنوعاته، فكيف تتحكم على من صدرت عنه؟!ثم قد ثبتت عندك حكمته في حكمه وملكه، فأعمل آلتك على قدر قوتك في مطالعة ما يمكن من الحكم، فإنه سيورثك الدهش! وغمض عما يخفى عليك، فحقيق بذي البصر الضعيف ألا يقاوي نور الشمس"([25]). هذا والله أعلم وأحكم.

وكتبه: سعد مقبل العنزي
الجمعة 16/4 33 14هـ


-------------------------------
([1])البقرة:30.
([2])بدائع الفوائد, لابن القيم (4/ 139).
([3])انظر:صيد الخاطر (ص: 287).
([4])الأعراف:12.
([5])الطور: 39.
([6])الأعراف:20.
([7])الأعراف:27.
([8])الأعراف:27.
([9])البقرة:35.
([10])البقرة:35.
([11]) مقاصد الشريعة, لابن عاشور 396.
[12] انظر: العلمانيون والقرآن, الطعان, ص 623.
[13] انظر : الثقافة أولاً وأخيراً, د. طارق حجي ص 20. ومآل الإسلام في القراءات العلمانية ص21.
[14] انظر : عبد الهادي عبد الرحمن " سلطة النص " ص 41 ، 42 .
([15])انظر: الموافقات (1/ 515).
([16]) انظر: مقاصد الشريعة, لابن عاشور ص377.
([17]) انظر: المصدر السابق ص379.
([18]) صحيح البخاري (7/ 3) .
([19])انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية, لشيخنا محمد سعد اليوبي ص358, و المناسبة الشرعية وتطبيقاتها المعاصرة, للخادمي, ص42.
([20]) مقاصد الشريعة, لابن عاشور 376.
([21])درء تعارض العقل والنقل (6/ 241).
([22])درء تعارض العقل والنقل (6/ 239)
([23])صيد الخاطر ص 94.
([24]) انظر: المصدر السابق.
([25])صيد الخاطر ص 156.

تصميم وتطويركنون