المادة
تسلل الليبرالية إلى البلاد الإسلامية
- الليبراليون العرب يتأثرون ويقتنعون بكلام الغرب أكثر من بني قومهم.
(الليبرالية) الغربية كانت لها أسبابها التي جعلتها ردة فعل وغير مدروسة ولا ممنهجة لما كانت تعانيه أوروبا والعالم الغربي قرونا من الزمن بسبب التلاعب بالأديان وتحريفها وتسلط رجال الدين على الشعوب باسم الرب، وكذلك بسبب التسلط السياسي والقهر والاستبداد بالثروات وتقييد حريات الناس حتى في حقوقهم الطبيعية والمشروعة.
ولأنها ردة فعل لواقع أليم لم تكن الليبرالية الأولى (الكلاسيكية) إلا مرحلة أولى من مراحل التغيير عند الثائرين على الوضع التعيس ما لبث أن تحول إلى ليبرالية مختلفة على مر السنين.
ولأن الليبراليين العرب يتأثرون ويقتنعون بكلام الغرب أكثر من بني قومهم، ولأن كلام علمائنا وأئمة الإسلام غير مقبول لديهم فما وجدت أصدق في الغرب وكُتّابهم من وصف الكاتب الأمريكي (Rassel Jacoby) للفكر الليبرالي إذ يقول فيه: "إنه ليس فقط مفتقدا تراثا كلاسيكيا واضحا، بل مختلطا أيضا بالغموض والفضيحة". ثم نقل كلمة في غاية الدقة عبر بها أحد كبار مؤرخي فرنسا عن هذا المنصب: "لقد كنا غير محظوظين، بشكل استثنائي، في اختيار هذا الشعار، ومن الصعب أن تجد شعارا آخر (أكثر ابتذالا) و(أقل لياقة) منه بالتأكيد!! ليس ثمة شعار يمكن أن يكون نابيا وبلا دلالة مثله... شعار ذو أصل حديث مبتذل، لا علاقة له بأصل كلاسيكي... شعار بلا مستدعيات أدبية أو تاريخية.. شعار مجرد تماما من أي صدى ديني أو أخلاقي... شعار يمكن أن يعني التفكك وفق أهواء كل فرد... وكل مواطن يحمل في قلبه (مصالح وطنه) لا بد أن يأسف لسوء اختيار هذا الشعار الذي لا يلائم جمهورية عظيمة على الإطلاق"... انتهى كلام الكاتب الأمريكي الذي أيد فيه المؤرخ الفرنسي في وصفهما لـ(الليبرالية)!!
في أواخر العهد العثماني انتشر في بلاد المسلمين شيء من الانحراف العقدي ونوع من الجمود والتقليد توافق مع استبداد سياسي من قبل الأمراء والولاة والسلاطين، وكل هذا حدث بسبب البعد عن التطبيق الحقيقي للشريعة الإسلامية ومبادئ الإسلام الحقيقية، مما سبب تأخرا وتخلفا في بلاد المسلمين، فاستغل الفرصة بعض العرب الذين انبهروا بالحضارة الغربية المتقدمة بقوة، فشكلوا (جمعيات سرية) وبأسماء متعددة وبدؤوا بنشر الفكر الليبرالي في العالم الإسلامي. لم تكن بعض الانحرافات العقائدية أو الجمود في مسائل الفقه والشريعة أو بعض الاستبداد السياسي كافيا لإقناع الجماهير والشعوب بتبني الليبرالية، فما كان من (إيجابيات) مزعومة في الليبرالية فهي موجودة بدين الله وشرعه القويم، وما كان من (سلبيات) فلا حاجة للأمة بها، لهذا كان لا بد من تدخل الغرب وأذنابه لإحداث شيء من التمرد على الإسلام نفسه وعزله من حياة الناس بالكلية، وجندوا من أجل ذلك المستشرقين، وجلبوا الكثير من العرب المفكرين عندهم وملؤوا أدمغتهم بالشبهات وجعلوهم ناطقين باسمهم، وظيفتهم تحويل الشعوب الإسلامية إلى شعوب لا تعترف بالدين في حياتها بل الدين مجرد بعض الطقوس والعبادات.
ولما دخل الاستعمار إلى بلاد المسلمين وضع يده مع أصحاب الفرق (الباطنية) فكانوا نعم الحليف له، وأظهرهم المستعمر على أنهم هم من يمثل الإسلام إمعانًا منه في تشويه الإسلام لدى الشعوب، ولأن المستعمر يعلم أن الشعوب الإسلامية لا تقبل بغير الإسلام دينا، صَوّر له (الليبرالية) على أنها لا تتعارض مع الإسلام لكنه إسلام آخر غير الذي تعرفونه!! إنه إسلام جديد يسمى (الإسلام الليبرالي)!! فهو خليط من منهجين، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء!!
أما الليبراليون العرب فأخذوا يبحثون عن خرافات في الدين الإسلامي كما وجد أسيادهم الغرب في دينهم المحرف، فما وجدوا إلا ما يوافق العقل الصحيح!! فأخذوا يشككون حتى في القرآن وقصصه ومن هذا المنطلق يقول (طه حسين): "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي فضلا عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها"... كغيره من (الليبراليين) كانوا يحاولون تشكيك الجماهير بقدسية وعصمة القرآن ناهيك عن السنة التي لم يعتدوا بها في الغالب. وكانت (المرأة) بالنسبة (للليبراليين) العرب هي محور الاهتمام وقطب الرحى، حيث انتشرت المؤلفات وتواترت الخطب الداعية إلى تمرد المرأة على (الحجاب) الشرعي والذي كان سائدا في ذلك الوقت؛ فالحجاب نوع من تقييد الحرية، وإساءة الظن بالمرأة واستعبادها، وهو العائق الأساسي للمرأة عن العمل والحياة، وجندت الصحافة العربية نفسها لسيطرة الليبراليين في القرن الماضي عليها، جندت نفسها لتحرير المرأة -زعموا- من قيود وحدود الشريعة الإسلامية، وبدأت الدعوة للاختلاط السافر تنتشر انتشار النار في الهشيم في الدول العربية في غياب الوعي والثقافة الإسلامية والصحيحة، وتم إحراق الحجاب وسنت القوانين لخلعه بالقوة وعقوبة من تلبسه!! كل ذلك بهدف الحرية ونشر الفكر الليبرالي في البلاد العربية.
تطور الأمر أكثر من مجرد نزع الحجاب وتعرية النساء إلى المطالبة في المساواة بكل شيء، حتى في الأحوال الشخصية الإسلامية، فلماذا تظلم المرأة وتعطى نصف الميراث، ولماذا يحق للرجل أن يطلق ولا يحق لها الطلاق؟ ولماذا يعطى الرجل حق القوامة؟ وهكذا بدأت تزداد الأسئلة التي جعلت من هؤلاء الليبراليين العرب قادة محررين كما كان أسلافهم في الغرب!! وشتان بين الفريقين (وللحديث بقية).
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عن أهل الكلام في عصره: "مخالفون للحق، مختلفون على الحق، متفقون على مخالفة الحق"، قال تعالى: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ} [سورة الأنعام: 71].