المادة
الإغضاء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين و على آله و صحبه أجمعين
و بعد،، فإنك كثيرا ما تسمع هذه الكلمة:
"هل بلغك ما قيل فيك؟" "هل عرفت ماذا يحكى عنك؟"
وإنك تلقى في حياتك الذي يسيء الظن فيك، والذي يُحَمِّل كلامك ما لا يحتمل.. وللأسف الشديد دب هذا الخلق السيء بيننا معاشر الملتزمين.. فجرح الأصاغر الأكابر، وصرت تسمع اتهامات، وردودا، وصرت تفاجأ بتسجيلات ومقاطع، و..
وضاع بين هذه الأمواج المتلاطمة معنى الأخوة
حبيبي في الله
إن من دواعي تعميق أواصر الأخوة:الإغضاء وعدم الاستقصاء
والمقصود بهذا أن تغض طرفك عما تجد من عيوب الآخرين، لأنه ما من إنسان إلا وفيه عيب بل عيوب، والمعصوم هو النبي محمد والأنبياء صلى الله عليهم و سلم أجمعين، أما بقية البشر فليسوا بمعصومين، بل لا بد لهم من خطأ وزلل.
قال الله تعالى: { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } طه {115}. وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم :" كل ابن آدم خطاء".
ويقول سعيد بن المسيب (سيد التابعين): ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه؛ فمن كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله".
وهذه من القواعد المهمة التي ينبغي أن نلتزمها ونربي عليها الأجيال ليكون القرن القادم هو قرن الإسلام بإذن الله تعالى، وذلك أنه ينبغي أن نتحلى بالحكمة، فنضع كل شيء في محله؛ وبداية علينا أن نكون أصحاب أصول وثوابت ومنطلقات وقواعد، فلا نكون كل يوم برأي وكل سنة بمنهج، وإذا لم يكن ذلك فسوف نتخبط وسط الآراء والخلافات، ولا يتضح الصواب من الخطأ ولا الحق من الباطل، وحينئذ قد يحيد بعض أصحاب الفضل عن أحد هذه الأصول أو الثوابت، فهذا عندنا لا يشينه ولا يقلل من قدره، بل نهب نقصه لفضله وتنتهي القضية.
الثابت و المتغير
إن المسائل المجمع عليها والمسائل العقدية والمسائل التي تعتمد على سد الذرائع أو التي هي في الأصل لدرء المفاسد ينبغي ألا نبحث فيها، فتلك ليست قضيتنا، و إذا ميَّعنا جميع القضايا فلن تثبت قدم، بل ستزل الأقدام بعد ثبوتها في دائرة الشك الذي لا نهاية له.
ومن هذه الثوابت: تبجيل السلف وتقديرهم، فلا نسمح بالطعن في أحد منهم، ونقول: إن الذين يسبون الصحابة ضُلال، كيف وقد نهانا رسول الله عن سب أصحابه فقال:"لا تسبوا أصحابي"، فنقول: إن عليا ومعاوية كانا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم، ولا يجوز إلا إحسان الظن بهما، وإن كنا نقدم عليا رضي الله عنه، ونوقن بأنه أفضل من معاوية رضي الله عنه، ولكن هذا لا ينقص من فضل معاوية رضي الله عنه، ولا يجيز الطعن فيه.
نقول: إن الذين يتهمون أبا هريرة هم الكذابون الأفاكون، وإن الذين يتنكرون لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم من المبتدعة -الضلال- هم على شفا هلكة، والعياذ بالله.
الإنصافَ الإنصافَ
إنَّ علينا أن نكون منصفين فلا نجاوز الحد، فإذا أخطأ أحد الأفاضل في مسألة ما، -وقد يكون مخالفاً لأحد هذه الثوابت المستقرة عندنا- نقول: "فضله يغلب نقصه، وأمره إلى الله"، فمن الناس من لا ينبغي أن يُذكر عيبه لما له من فضل؛ مثلا فضيلة الشيخ ابن باز – رحمه الله – له فضل ومكانة عظيمة، وقد نفع الله المسلمين به طيلة عمره، وكان كالحصن الحصين على ثغرة من ثغرات الإسلام، لكن عندما جاءت مسألة الاستعانة بالكفار قلبا: أخطأ، ولكن للرجل تقديره وشأنه الذي لا ينبغي أن يتزعزع في صدور المسلمين، لما له من أيادٍ عظيمة.. وانتهت القضية.
نعم - إخوتاه- الإغضاء وعدم الاستقصاء.
يعلّمنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه لو سبّك شخص أو عيّرك، فعليك أن تتغاضى عن مثل هذا حتى لا تقع في الوزر إذا أردت أن تتشفى لنفسك، فتعيره بما هو فيه من العيوب والخلل.
كان أبو بكر رضي الله عنه يوما جالساً، فأخذ رجل يسبه ويشتمه، وما يزيده جهل هذا الرجل إلا حلماً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فلما زاد الرجل في جهله أراد أبو بكر رضي الله عنه أن يردّ عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم، ثم أخبره بعد ذلك أن الله بعث ملكاً كلما كان الرجل يسب أبا بكر رضي الله عنه كان يقول: "بل أنت.."، وكان أبو بكر كلما سبّه الرجل يقول له: يغفر الله لك، فكان الملك يقول لأبي بكر: "بل أنت، وأنت أحق به"، فلما هم بالرجل انصرف الملك، وحل محله الشيطان.
إننا نريد هذا السلوك القويم "التغاضي عن جهالات الناس"، لأنك لا تعاملهم، بل تعامل ربهم، وربك لا يحب أن تغضب لنفسك، وعلى الجملة يرشدنا رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى عدم سب أي إنسان كائنا من كان.
لا تبحث عن الكمال في غيرك.. يا ناقص
حبيبي في الله
إنك لن تجد إنساناً كاملاً، فلا بد له من عيب، وإذا استقصيت في البحث عن مثل هذا، فلن تظفر به في الوجود، فليس بمعصوم إلا من عصمه الله، والكمال المطلق لله وحده.
من هنا، فليس المقصود أن يكون أخوك من تكاملت صفاته الظاهرة والباطنة بقدر ما يكون المطلوب أن تتوافر الصفات التي تصلح بها المعاشرة؛ أعني شروط صحة الأخوة، فتنتفي بوجودها أسباب الملل والقطيعة، فإن توافر الخير كله في إنسان عزيز قليل الوجود -والنادر لا حكم له- فلا يكاد يوجد إلا في الموفقين، وهم قلة قليلة.
اللهم اجعلنا من عبادك الموفقين، اللهم وفقنا لما تحب وترضى.
إخوتاه...
عليكم أن تتحلوا بشيء من الإغضاء، ولا تستقصوا في معرفة أدق التفاصيل والصفات، كان بعض السلف إذا مضى إلى درس شيخه يخرج صدقة ويقول: "اللهم استر عيب معلمي عني ولا تذهب بركة عمله مني" أما الآن فتجد من يتتبع العورات ويتفقد الأخطاء، وهذه والله نية فاسدة.
جاءني أحد الشباب فقال لي: "إن الإمام النووي مبتدع"! قلت: "أعوذ بالله! كيف هذا؟" قال: "أنت قرأت صحيح مسلم بشرح النووي؟" قلت: "الحمد لله!" قال: قرأته كم مرة؟ قلت: "كذا" قال: "عليك أن تقرأه مرة أخرى، لكن هذه المرة بعين النقد والبحث عن الأخطاء".
قلت: "معاذ الله أن أصنع هذا! نحن نقرأ لنتعلم ونتعبد وتتنزل علينا رحمات ربنا، نقرأ لنعبد الله على بصيرة، نقرأ لنتعلم ونعلم الناس.. لكن أن نقرأ من أجل تخطئة فلان من أهل العلم، فهذه نية فاسدة، فإن وجد خطأ نقول كما قال شيخ الإسلام: المجتهد إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر".
قال صلى الله عليه و سلم :" أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود".
فالإمام النووي والقرطبي وابن حجر العسقلاني من ذوي الهيئات، فينبغي أن نقيل عثراتهم، نعم أخطأ من أخطأ منهم في مسألة التأويل، ووافقوا قول الأشاعرة، لكن نقول:" يغفر الله لهم" ألم نقل: إن من الناس من لا ينبغي أن يذكر عيبه لما له من فضل، فنهب نقصه لفضله؟.
وأصحاب الهيئات كما يقول الشافعي – رحمه الله –الذين لا يعرفون بالشر، فيزل أحدهم الزلة، فتغفر له زلته، ولا تذكر، ولا يشنع بها عليه إلا الحدود فلا شفاعة في حد من حدود الله.
إخوتاه...
قال عبد الرحمن بن عمر الأصبهاني: "كنا في مجلس عبد الرحمن بن مهدي (وهو من المحدثين الأكابر وشيخ الإمام البخاري) إذ دخل عليه شاب، فما زال يدنيه حتى أجلسه إلى جنبه.
فقام شيخ في المجلس فقال: "يا أبا سعيد هذا الشاب يتكلم فيك حتى إنه ليكذبك".
فقال عبد الرحمن: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (*) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (*)} " فصلت {34-35}.
فانظر كيف عالج القضية؛ إنه الرد بالحسنى. أعقل هذا – أخي – عن سلفنا الصالح حتى تعيش بمنهج السلف وتمضي على إثره.
ثم ساق عبد الرحمن سنده فقال: "حدثني أبو عبيدة الناجي قال: كنا في مجلس الحسن البصري إذ قام إليه رجل فقال: يا أبا سعيد، إن هنا قوماً يحضرون مجلسك ليتتبعوا سقط كلامك".
فقال الحسن: "يا هذا إني أطمعت نفسي في جوار الله فطمعت، وأطمعت نفسي في الحور العين فطمعت، وأطمعت نفسي في السلامة من الناس فلم تطمع، إني لما رأيت الناس لا يرضون عن الله علمت أنهم لا يرضون عن مخلوق مثلهم".
فإذا كان الناس يتكلمون في حق الله جل وعلا، فكيف بالمخلوقين؟!! هكذا تعالج القضية؛ فليس لنا أن نتكلم في شأن غيرنا إلا بالحسنى، فإن وقع فينا أحد فالعلاج هو أن ترد السيئة بالحسنة، فتدعو لمن أساء إليك.
وإذا أنت اتقيت الله – جل وعلا – يحول القلوب إلى حبك، فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.
عن سعيد بن عبد العزيز قال: "إن رفيقاً لحبيب بن مسلمة ضاق يوماً عن شيء(أي أن أخلاقه ساءت في شيء ما) فقال حبيب: إن استطعت أن تغير خلقك بأحسن منه فافعل، و إلا فسيسعك من أخلاقنا ما ضاق عنا من خلقك".
بالإغضاء تزهر ثمار الأخوة
إخوتاه..
إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم.
قال محمد بن محبوب: (كنا عند عبد الله بن طالب التميمي المكي المالكي يوماً، فخاطبه بعض أهل مجلسه بخطاب خشن لا يخاطب مثله بمثله، فتمادى ابن طالب في مكالمته كأنه ما سمع مكروهاً، فقام الرجل وذهب.
فقال ابن الطالب: "رأيت نظر بعضكم إلى بعض فقلت في نفسي: رجل قصدني يؤدي الذي يجب من حقي هفا علي، أصول عليه بسلطاني ؟ والله إن هذا لهو اللؤم").
أراد – رحمه الله – أن هذا الرجل الذي جاء يشتمني، أتاني وهو يعلم أني لن أخطئ في حقه، فلما كنتم حولي أستكثر بكم ، أفأردّ عليه؟؟
فانظر كيف كان كرم أخلاقهم حتى وسعت صدورهم جهالات الناس وسفههم.
إخوتاه..
قال ابن مراد: (تكلم عبد الله بن عياش بكلام أساء به إلى عمر بن ذر، فقام إلى منزله – وكان عبد الله ابن عمه – فندم ابن عياش عمّا بدر منه، فأتى عمر فقال: "أيدخل الظالم ؟" فقال عمر: "نعم مغفوراً له، والله ما كافأت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه". فصارت مثلاً سائراً).
هذا هو الإغضاء، حتى لا تدع في النفس شائبة تجاه أي إنسان فقط عليك أن تعامله بالحسنى: أن تدعو الله له، أن تطيع الله في نفسك فلا تتشفى، وتطيع الله في غيرك فلا تعامله بنظير عمله، واعلم أنه في الأول والآخر أخوك، فلا تبتئس!!
قال الجاحظ [في الترفق بالصاحب واحتماله]:" لا تكونن لشيء مما في يديك أشد ضنا ولا عليه أشد جدباً منك بالأخ".
يريد أن أغلى ما تملكه هو أخوك، فلا تفرط فيه أبداً، فليس بخطأ يُبعَد ويُهجَر، بل اثبت عليه، فإننا بحاجة إلى الأخوة .
ثم يقول: "الأخ الذي بلوته في السراء والضراء فعرفت مذاهبه، وخبرت شيمه، وصح لك غيبه، وسلمت لك ناصيته، إنَّما هو شقيق روحك، وباب الروح إلى حياتك، ومستمد رأيك، وهو توأم عقلك، إذا صفا لك أخٌ فكنْ به أشد ضنًّا منك بنفائس أموالك، ثم لا يزهدن لك فيه أن ترى منه خلقاً أو خلقين تكرههما، فإن نفسك التي هي نفسك لا تعطيك الانقياد لكل ما تريد، فكيف بنفس غيرك؟ " .
يريد أن أخاك إذا ساءك منه خلق فلا تتركه لأجل ذلك، فأنت تجد في نفسك أشياء كثيرة لا ترضيك وتصبر عليها، فكما صبرت على نفسك، فصبراً على أخيك .
قالوا: "بحسبك أن يكون لك من أخيك أكثره" ؛ لذلك قال أكثم بن صيفي: "مَنْ لك بأخيك كله؟" .
وقال النابغة الذبياني :
فلست بمستبقٍ أخاً لا تَلُمُّه *** على شَعَثٍ أيُّ الرَّجَالِ المُهَذَّبُ
إخوتاه
هل تريدون من إخوانكم أن يكونوا على أكمل صورة في مخيلاتكم ؟!! هل تظنون أنكم ستجدون الأخ العابد الزاهد العالم، أو طالب العلم المتواضع الكريم المنفق الصوَّام القوام، أو ذا الوجه الطلق الذي تجده دائماً بجوارك ؟ فمن أين لكم بهذا وأنتم لا تتصفون بكل ذلك؟ ولذلك نقول : عليكم بالإغضاء وعدم الاستقصاء ، ولينشغل كلٌّ منا بعيب نفسه .
يقول رجاء بن حيوة [ وزير عمر بن عبد العزيز ]: " من لا يؤاخي من الإخوان إلا من لا عيب فيه قلَّ صديقه، ومن لا يرضى من صديقه إلا بإخلاص له دام سخطه، ومن عاتب إخوانه على كل ذنب كثر عدوه )) .
لذلك جاء عن بعض السلف أَّنه أغضب أخًا له فجاءه يقول: "جئتك لنتعاتب"، فقال: "لا تقل هذا، بل جئت لنتغافر ونتسامح ، بل نسيتُ فنسيتَ" .
قال رجل لأخيه: "إني أحبك في الله" . فأجابه: "لو علمت ذنوبي لأبغضتني في الله".
فقال الأول: "لو علمت ذنوبك لمنعني من بغضك في الله علمي بذنوبي" .
على مثل هذا ينبغي أن تكون نفسيات الإخوة، ويكون التعامل بمثل هذه الطريقة فلماذا لا ؟!!
ما كان حسناً فأهده إلى نفسك، وما كان غير ذلك فألقه، ولا تقم له وزناً، فلا تؤلمنَّك مساوئهم فتنسى محاسنهم، فإن من كانت حسناته أكثر من سيئاته دخل الجنة على ما كان منه .
فلماذا لا يكون هذا هو منهجنا، فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته فذلك هو الرجل الذي يستحق أخوتك ، فلماذا بالذنب الواحد يهجر الخلان؟ فالروضة الغناء المليئة بالزهور النضرة والجمال الفتان والطبيعة الخلابة لا تترك لمجرد وجود قبر في وسطها .
فهذا الإنسان الذي وقع في زلل يسير لا ينبغي هجره، بل نقول: { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [ هود / 114 ] .
فالإغضاء الإغضاء .. لتعود الأخوة من جديد
أحبكم في الله
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين
و الحمد لله رب العالمين