المادة
إياك أن تمكر به؛ فيمكر بك
بسم الله الرحمن الرحيم
إياك أن تمكر به فيمكر بك
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين و على آله و صحبه أجمعين، وبعد
فتدبر معي هذه الآيات: قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} فاطر {10} وقال تعالى:{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} الأنفال {30} ، وقال سبحانه: {وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} إبراهيم {46} وقال سبحانه: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (*) فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (*) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} النمل {50 -52} وقال تعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} النحل {26} وقال عز وجل: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} يونس{21} وقال عز وجل: {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} الأنعام{123} وقال عز وجل: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} النمل {50}، وقال عز وجل: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ (*) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ (*) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ} النحل {45 - 47}..
وقال جل وعلا : {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ} الأنعام {124} وقال جل وعلا: {اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} فاطر {43} وقال سبحانه: {وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} فاطر {10} وقال تعالى: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} الرعد {42} وقال عز وعلا: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} الأعراف {99}.
إن التأمل في هذه الآيات ومعاودة قراءتها بتأنٍ وتدبر يغرس في القلب الخوف من المكر، فها هي عاقبة المكر تراها واضحة أمامك ، وكأن الآيات تقول لك: إياك أن تمكر .. إياك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" المكر والخديعة والخيانة في النار" .. فإياك أن تمكر فيمكر بك.
إن كثيرا من الناس يعيش في هذه الدنيا بالمكر، فتجده يتعامل مع زوجته بالمكر، مع أبيه بالمكر، مع مديره وزميله في العمل بالمكر، مع جاره ومن حوله بالمكر.. فيظن أنه يستطيع أن يمكر بالله!
كلمة خطيرة لابن الجوزي يقول فيها:" تصر على المعاصي وتصانع ببعض الطاعات. والله إن هذا لمكر" اهـ.
فتراه قد واعد البنت الفلانية ليقابلها غدا، ويجلس في المسجد أمام الخطيب وهو يفكر في الموعد.. إصرار على المعصية .. أتمكر بربك؟!.. يأكل الحرام ويواعد على رشوة، ومع ذلك يصلي ويتصدق ويحجز مكانه لأداء العمرة.. تمكر بمن؟!
وستجد من يجلس في المسجد يستغفر وهو يحمل علبة السجائر مصرًّا على المعصية، ويقول: اللهم تب علي!.. بمن تمكر؟!! ..
وأعجب من هؤلاء جميعاً من إذا سمع بهذا الكلام قال معاندا: "إذا والله لن أتوب ولن أصلي.." لا .. أنا لا أقول ذلك الكلام لتقول هذا، ولكن أقوله لكي لا تمكر بربك.. فهو الذي خـلقك ويعلمك.
فالذي قد واعد البنت الفلانية وجاء ليصلي يمكر.. نعم: هذا مكر.. وتعجب من قوله حين يسمع بهذا الكلام: "أنا آسف، لن أصلي بعد الآن".. وهذا هو الغلط.. هذا هو العور في البصيرة.. فبدلا من أن تقول: "تبت إلى الله"، تقول هذا الكلام؟!.. سلم يا رب سلم.. "تصر على المعاصي وتصانع ببعض الطاعات. إن هذا لمكر"
فالمفترض والمتوقع حينما أقول لك هذا الكلام أن تقول: "لا للمعصية"، لا أن تقول: "لا للطاعة"!!
وفرق كبير بين الذي يعصي ثم يستغفر ويتوب ويندم ويعزم على ألا يعود، وبين من يمكر السيئات.. وفرق كبير بين من يعمل السوء بجهالة ثم يتوب من قريب، وبين الذي يدبر ويمكر ويصر ويستمر.
هذا هو الملحظ الخطير عند تأمل الآيات السابقة:
إنك تجد التفريق بين من يتورط في المعصية عند غلبة الشهوة مع الجهل وشدة الغفلة، وبين من يمكر للموضوع؛ فيحتال ويدبر ويحتاط ويتربص، ويبحث عن الشبهات، ويتعامى عن الضوابط، لذا كانت عقوبة الماكر أشد بكثير من عقوبة العاصي.
فلا تصانع بالطاعات وأنت مصر على المعاصي، ولا تقل: إذا لن أصلي حتى أنتهي عن المعاصي!!.. لأن هذا مكر!.. ولم لا تنتهي عن المعاصي وتستمر في الصلاة؟
اللهم تب على كل عاص مسلم يا رب..
أُخَـــيّ
تأمل معي قصة أصحاب السبت لما مكروا على الله، واستخفوا بزواجره، فمسخوا قردة..
قال الله تعالى: {واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} الأعراف {163} أي: واسأل يا محمد يهود المدينة عن أخبار أسلافهم وعن أمر القرية التي كانت بقرب البحر وعلى شاطئه، ماذا حل بهم لما عصوا أمر الله واصطادوا يوم السبت؟ ألم يمسخهم قردة وخنازير؟!
إن الاعتداء في السبت مجرد معصية أهون من كثير من معاصيهم؛ كقتل الأنبياء وطلب رؤية الله جهرة وطلب أصنام وعبادة العجل.. قطعا الاعتداء في السبت أخف من كل هذا بلا شك، وفي كل هذا لم يمسخوا، وإنما مسخوا باعتدائهم في السبت، وهذا يدلك على أن العقوبة لم تكن على مجرد المعصية، وإنما العقوبة على المكر.
قال الفيروزأبادي: "إن معصيتهم هذه كان فيها اسخفاف بالله، إذ حفروا الحفر يوم الجمعة، ونصبوا عليها الشباك، فوقعت فيها الأسماك يوم السبت وهم ينظرون، ثم جمعوا السمك يوم الأحد .. فتراهم قد خادعوا ومكروا بنصب الشباك يوم الجمعة، وجلسوا كالمستخفين بربهم يوم السبت يضعون أيديهم في جيوبهم، وهم ينظرون إلى السمك يتساقط في شباكهم التي نصبوها ويقولون: يا رب انظر كيف نحن مطيعون لك يوم السبت فلم نصنع شيئاً مطلقاً .." وهيهات هيهات.
و تعال معي إلى سرد القصة لمزيد استفادة:
كان بنو إسرائيل قد طلبوا أن يُجعل لهم يوم راحة يتخذونه عيداً للعبادة، ولا يشتغلون فيه بشؤون المعاش، فجعل لهم السبت.. ثم كان الابتلاء ليربيهم الله، ويعلمهم كيف تقوى إرادتهم على المغريات والأطماع، وكيف ينهضون بعهودهم حين تصطدم بهذه المغريات والأطماع.. وكان ذلك ضروريا لبني إسرائيل الذين تخلخلت شخصياتهم وباعهم بسبب الذل الذي عاشوا فيه طويلاً، ولا بد من تحرير الإرادة بعد الذل والعبودية لتعتاد الصمود والثبات. فضلا على أن هذا ضروري لكل من يحملون دعوة الله ويؤهلون لأمانة الخلافة في الأرض.. وقد كان اختبار الإرادة والاستعلاء على الإغراء هو أول اختيار وُجِّه من قبلُ إلى آدم وحواء .. فلم يصمدا له، واستمعا لإغراء الشيطان بشجرة الخلد وملك لا يبلى، ثم ظل هو الاختبار الذي لابد أن تجتازه كل جماعة قبل أن يأذن الله لها بأمانة الاستخلاف في الأرض .. وإنما يختلف شكل الابتلاء ولا تتغير فحواه!
ولم يصمد فريق من بني إسرائيل – في هذه المرة – للابتلاء الذي كتبه الله عليهم بسبب ما تكرر قبل ذلك من فسوقهم وانحرافهم ؛ فلقد جعلت الحيتان في يوم السبت تتراءى لهم على الساحل قريبة المأخذ سهلة الصيد. فتفوتهم وتفلت من أيديهم بسبب حرمة السبت التي قطعوها على أنفسهم! فإذا مضى السبت وجاءتهم أيام الحل لم يجدوا الحيتان قريبة ظاهرة كما يجدونها يوم الحرم! .. وهذا ما أُمِر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يُذكّرهم به، ويذكُر ماذا فعلوا وماذا قالوا ..
لقد وقع ذلك لأهل القرية التي كانت حاضرة البحر من بني إسرائيل .. فإذا جماعة منهم تهيج مطامعهم أمام هذا الإغراء، فتتهاوى عزائمهم، وينسون عهدهم مع ربهم وميثاقهم، فيحتالون الحيل - على طريقة اليهود - للصيد في يوم السبت! وما أكثر الحيل عندما يلتوي القلب، وتقل التقوى، ويصبح التعامل مع مجرد النصوص، ويراد التفلت من أوضح الواضح من الأحكام.
إن أوامر الشريعة ونواهيها لا يحرسها مجرد النصوص في الكتاب و السنة أو جهود الدعاة والوعاظ، بل ولا السيف ولا المدفع، إنما تحرسها القلوب اليقظة التقية التي تستقر تقوى الله فيها وخشيته، فتحرس هي شريعتها وتحميها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الحلال بين، وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه"، ثم عقب على ذلك بقوله: " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".
فمهما قلنا: "حلال .. حرام .. يجوز .. لا يجوز .. يجب .. يكره .."، فلن يجد هذا الكلام صدى إلا عند أصحاب القلوب التقية النقية والنوايا الطيبة.
من أجل ذلك تفشل الأنظمة والأوضاع التي لا تقوم على حراسة القلوب التقية. تفشل النظريات والمذاهب التي يضعها البشر للبشر ولا سلطان فيها من الله .. ومن أجل ذلك تعجز الأجهزة البشرية التي تقيمها الدول لحراسة القوانين وتنفيذها . وتعجز الملاحقة والمراقبة التي تتابع الأمور من سطوحها!
وهكذا راح فريق من سكان القرية التي كانت حاضرة البحر يحتالون على السبت الذي حُرم عليهم الصيد فيه .. وروي أنهم كانوا يقيمون الحواجز على السمك ويحوِّطونه يوم السبت، حتى إذا جاء الأحد سارعوا إليه فجمعوه وقالوا: إنهم لم يصطادوه في السبت، فقد كان في الماء – وراء الحواجز – غير مصيد".
فيا من تصيد المعاصي والسيئات مكراً وخداعاً؛ الله يراك ويعلم نواياك، فاتق الله واحذر مغبة ذنبك وعاقبة فعلك .. ومهما خدعت الناس ومكرت على الخلق وانطوى ذلك عليهم فلن تخدع الله .. وإذا مكرت فاعلم أنه: {لَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} فاطر {43}.
حبيبي في الله
يا من تملأ قلبك بالهموم وتدنسه بالمعاصي عامداً ثم تسأل الله سلامة القلب! .. إن هذا لمكر .. مستمر في شحن قلبك بالهموم ومتعمد .. تحمل هم المال وهم اللباس وهم الصيف وهم الشتاء وهم العيال وهم البنات وهم الراتب وهم الشغل وهم .. وهم .. وتقول: "يا رب طهر قلبي" وأنت المداوم على تدنيسه!! إن هذا لمكر ..
اللهم طهر قلوبنا يا رب.
يا من تحرص على الدنيا وتغفل عن الآخرة،يا من كثرت ذنوبه و تأخرت توبته ثم تشكو قسوة القلب!! .. إن هذا لمكر .. فإياك أن تمكر ..
كن صادقاً مع الله تعالى.. لا تكن ثعلباً فالطريق وعرة .. الطريق إلى الله وعرة، ولن تصل إلا بتوفيقه، أفيه تمكر وهو دليلك الوحيد؟!
ولذا؛ إذا أردت الوصول إلى الله فتب من المكر، واجعل همومك هما واحداً هو الله .. الهموم نجسة فطهر قبلك منها ..
اللهم طهر قلوبنا يا رب.
أحبك في الله
و صلى الله و سلم على النبي محمد و على آله و صحبه
و الحمد لله رب العالمين