المادة
فن معالجة الأخطاء
بسم الله الرحمن الرحيم
فن معالجة الأخطاء
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
فإن الشركات الغربية الكـبـرى ترصد أمـــوالاً ضخمة لدراسة علم العلاقات الإنسانية الـذي يشمل: فن معالجة الأخطاء، وفن التعامل مع الآخرين، وفن كسب القلوب، وفن الإقناع، وفـــن قـيادة الآخرين، وتنشئ لهذا الغرض معاهد مستقلة، وتدعم البحوث والدراسات المتعلقة به؛ لأنه يخدم مصالحها وأهدافها في الاتصال بالجماهير، ولا تكاد تخلو شركة من الشركـات من قسم العلاقات العامة الذي يوظف فيه أناس متخصصون في هذه العلوم، الذين يتولون أمور زبائن الشركة الـمـشـاغـبـين والمتعبين، ويحلون مشاكلهم، ويكسبونهم إلى صفهم.
ولا شك أن الدعاة أولى الناس بدراسة هذه العلوم، لأن طبيعة عملهم هي الاتصال بالآخرين ومعالجة أخطائهم. وسوف أحاول هنا طرق أبواب ذلك العلم لإبراز بعض القواعد المهمة فـي ذلك ومحاولة شرحها، وتـأصيلها بالدليل الشرعي ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.
القاعدة الأولى: اللوم للمخطئ لا يأتي بخير غالباً:
تذكَّرْ أن اللوم لا يأتي بنتائج إيجابية في الغالب، فحاول أن تتجنبه، وكما يقول أنس بن مالك -رضي الله عنه-: إنه خدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشر سنوات ما لامه على شيء قط، وإذا حدثه في ذلك بعض أهله قال: «دعوه فلو كان شيء مضى لكان»، وفي رواية للطبراني قال أنس بن مالك: «خدمت رسول الله -صلى الله عليه وسـلــم- عشر سنين فما وُريت شيئاً قط وافقه، ولا شيئاً خالفه». واللوم مثل الطيور مهيضة الجناح، التي ما إن تطير حتى تعود إلى أوكارها سريعاً، أو مثل السهم القاتل الذي ما إن ينطلق حتى ترده الريح على صاحبه فيؤذيه، ذلك أن اللوم يحطم كبرياء النفس البشرية، ويكفيك أنه ليس أحد في الدنيا يعشق اللوم ويهواه. وكم خسر العالم كثيراً من العباقرة وتحطمت نفسياتهم ؛ بسبب اللوم المباشر الموجه إليهم من المربين. قال معاذ بن جبل: (إذا كان لك أخ في الله فلا تماره).
القاعدة الثانية: أبعد الحاجز الضبابي عن عين المخطئ:
المخطئ أحياناً لا يشعر أنه مخطئ، وإذا كان بهذه الحالة وتلك الصفة فمن الصعب أن توجه له لوماً مباشراً وعتاباً قاسياً، وهو يرى أنه مصيب. إذن لابد أن يشعر أنه مخطئ أولاً حتى يبحث هو عن الصواب؛ لذا لابد أن نزيل الغشاوة عن عينه ليبصر الخطأ.
جاء شاب يستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الزنى بكل جرأة وصـــراحــــة، فهمَّ الصحابة أن يوقعوا به ؛ فنهاهم وأدناه وقال له: «أترضاه لأمك؟!» قال: لا. قال رسـول الله -صلى الله عليه وسلم- «فإن الناس لا يرضونه لأمهاتهم» قال: «أترضاه لأختك؟!» قال: لا. قال: «فإن الناس لا يرضونه لأخواتهم». فكان الزنى أبغض شيء إلى ذلك الشاب فيما بعد. وكذلك في قصة مـعـاويــة بن الحكم حيث قال:بينما أنا أصلي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ عطس رجــــل من القوم فقلت: "يرحمك الله"، فرماني القوم بأبصارهم فقلت: "ما شأنكم تنظرون إلـي؟" فجـعـلــوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني سكت، فلما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأبي هو وأمي،ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه- فــــوالله ما نهرني ولا ضربني ولا شتمني قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنـمـــا هي التسبيح والتكـبـيــر وقـــراءة القرآن».
القاعدة الثالثة: استخدم العبارات اللطيفة في إصلاح الخطأ:
إذا كـنـا ندرك أن مـــــن البيان سحراً،فلماذا لا نستخدم هذا السحر الحلال في معالجة الأخطاء؟!
فمثلاً حينما نقول للمخطئ لو فعلت كذا "ما رأيك لو نفعل كذا" " أنا أقترح أن تفعل كذا" "عندي وجهة نظر أخرى ما رأيك لو تفعلها؟" وغيرها... فلا شك أنها أفضل مما لو قلت له: "يا قليل التهذيب والأدب، وعديم المروءة والرجولة".. "ألا تفقه؟ ".. "ألا تسمع؟ ".. "ألا تعقل؟".. "أمجنون أنت؟"… "كم مرة قلت لك..؟".. فلا شك أن الفرق شاسع بين الأسلوبين.
وعندما نسـأل أنفسنا أي الأسلوبين نحب أن يقال لنا، فلا شك أننا نختار الأول. فلماذا لا نستخدمه نحن أيضاً مع الآخرين؟! ولهذا كان النبي الكريم -صلى الله عـلـيـه وسـلــم- يـسـتـخـدم مثل هذا، ففي حديث عائشة مرفوعاً «لو أنكم تطهرتم ليومكم»، وروى مسلم أيضاً مرفوعاً: «لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك». والسر في تأثير هذه العبارات الجميلة، أنها تشعر بتقدير واحترام وجهة نظر الآخرين، ومن ثم يشعرون بإنصافك فيعترفون بالخطأ ويصلحونه.
القاعدة الرابعة: ترك الجدال أكثر إقناعاً من الجدال:
تجنَّب الجدال في معالجة الأخطاء، فهو أكثر وأعمق أثراً من الجدال نفسه، وتذكرْ أنك عندما تنتصر في الجدال مع خصمك المخطئ، فإنك تجبره - في الغالب أو على الأقل- على أن يحز ذلك في نفسه، ويجد عليك ويحسدك، أو يحقد عليك، فحاول أن تتجنب الجدال، ولذلك فإن النصوص الشرعية لم تذكر الجدال إلا في موضع النفي غالباً، والمحمود منه ما كان محاورة هادئة مع طالب للحق بالتي هي أحسن.
ذُكر عن مالك بن أنس أنه قـيــل لــه: "يا أبا عبد الله الرجل يكون عالماً بالسنة أيجادل عنها؟" قال: "لا ولكن يخبر بالسنة فـــإن قبلت وإلا سكت". وفعلاً فإن طالب الحق إذا سمع السنة قبلها، وإن كان صاحب عناد لم يقنعه أقدر الناس على الجدل، لكن إن سلم بها وذكرت له السنة بلا جدال فقد يتأملها ويرجع. وبالجدال قد تخسر المجال. والداعية ليس في حاجة إلى أن يخسر الناس، ولذا قال عبد الله بن حسن -رحمه الله-: (المراء يفسد الصداقة القديمة، ويحل العقدة الوثيقة، وأقل ما فيه أن تكون المغالبة والمغالبة أمتن أسباب القطيعة).
و حتى لو كان المجادل محقاً، فينبغي عليه ترك الجدال، ففي الحديث الذي رواه أبو داود مرفوعاً: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً». وتذكَّر أن المخطئ قد يربط الخـطــأ بكرامته، فيدافع عنه كمن يدافع عن كرامته، وإذا تركنا للمخطئ مخرجاً سَهُلَ عليه الرجـــــوع، وجعلنا له خيارات للعودة فلا نغلق عليه الأبواب.
القاعدة الخامسة: ضع نفسك موضع المخطئ ثم ابحث عن الحل:
عندما نعرف كيف يفكر الآخرون، ومن أي قاعدة ينطلقون، فنحن بذلك قد عثرنا على نصف الحل. حاول أن تضع نفسك موضع المخطئ، وفـكّــــر من وجهة نظره هو، وفكر في الخيارات الممكنة التي يمكن أن يتقبلها، فاختر له ما يناسبه.
القاعدة السادسة: ما كان الرفق في شيء إلا زانه:
عن عائشة -رضي الله عنها- مرفوعاً: «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه»، وفي رواية أخرى له:«إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا نُزِعَ من شيء إلا شانه». وتذكَّر قصة الأعرابي الذي بال في المسجد، وكيف عالجها النبي -صلى الله عليه وسلم- بالرفق كما في الحديث المتفق عليه عن أنس.
القاعدة السابعة: دع الآخرين يتوصلون لفكرتك:
عندما يخطئ إنسان، فقد يكون من المناسب في تصحيح الخطأ أن تجعله يكتشف الخطأ بنفسه، ثم تجعله يكتشف الحل بنفسه، فإن هذا أدعى للقبول. ومن الشواهد على هذا ما ذكره الشيخ محمد بن إبراهـيـــم من قصة الشيخ عبد الرحمن البكري، حينما ذهب إلى الهند، وسمع أحد العلماء الهنود يلعن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نهاية كل درس، فقام الشيخ البكري ونزع غـــــلاف كتاب التوحيد، ودعا الشيخ لمنزله ثم استأذنه ليأتي بالطعام، وكان الكتاب قريباً مــــن الشيخ الهندي فأخذ يتصفحه وأعجبه قال: فلما رجعت وجدته يهز رأسه عجباً فقال: لمن هذا الكتاب؟ هذه التراجم -عناوين الفصول- تشبه تراجم البخاري، هذا والله نفس البخاري، فقلت: ألا نذهب للشيخ الغزوي لنسأله -وكان صاحب مكتبة- فأخبرهم أنه للشيخ محمد بن عبد الوهاب؛ فصاح العالم الهندي بصوت عال: الكافر!! فسكتنا وسكت قليلاً ثم هدأ غضبه، واسترجع ثم قال: إن كان هذا الكتاب له فقد ظلمناه. ثم صار كل يوم يدعو له ويدعو معه تلاميذه،وتفرق تلاميذه في البلاد وهم على عادة شيخهم يدعون له في دروسهم. والإنسان عندما يكتشف الخطأ ثم يكتشف الحل والصواب فلا شك أنه يكون أكثر حماساً لأنه يحس أن الفكرة فكرته.
القاعدة الثامنة: عندما تنتقد اذكر جوانب الصواب:
حتى يتقبل الآخرون نقدك المهذب، وتصحيحك الخطأ، أشعرهم بالإنصاف بأن تذكر خلال نقدك جوانب الصواب عندهم، ففي البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل». قالت حفصة: فكان بعدُ لا ينام إلا قليلاً. وقال -صلى الله عليه وسلم: «ثكلتك أمك يا زياد إن كنت لأعدك من فقهاء المدينة». فعندما يعمل إنسان عملاً فيحقق نسبة نجاح 30% فإنني أثني عليه بهذا الصواب، ثم أطلب منه تصحيح الخطأ، ومجاوزة هذه النسبة.
القاعدة التاسعة: لا تفتش عن الأخطاء الخفية:
حاول أن تصحح الأخطاء الظاهرة ولا تفتش عن الأخطاء الخفية لتصلحها لأنك بذلك تفسد القلوب، وقد نهى الشارع الحكيم عن تتبع العورات؛ فقد روى الإمام أحمد عن ثوبان مرفوعاً: «لا تؤذوا عباد الله، ولا تعيروهم، ولا تطلبوا عوراتهم، فإنه من طلب عورة أخيه المسلم طلب الله عورته حتى يفضحه في بيته». وعن معاوية مرفوعاً: «إنك إن تتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم».
القاعدة العاشرة: استفسر عن الخطأ مع إحسان الظن والتثبت:
عندما يبلغك خطأ عن إنسان فتثبت منه، واستفسر عنه مع إحسان الظن به، فأنت بهذا تشعره بالاحترام والتقدير،كما يشعر في الوقت نفسه بالخجل، وأن هذا الخطأ لا يليق بمثله، ويمكن -مثلاً- أن تقول له: زعموا أنك فعلت كذا، ولا أظنه يصدر من مثلك، كما قال عمر -رضى الله عنه-: «يا أبا إسحاق زعموا أنك لا تمشي تصلي».
القاعدة الحادية عشرة: امدح على قليل الصواب يكثر من الممدوح الصواب:
وقد أخذ بهذه النظرية محترفو السيرك، فنجحوا في ترويض بعض الحيوانات الضخمة أو الشرسة، ودربوها على القيام بأعمال تدعو للدهشة والاستغراب، وطريقتهم في ذلك أنهم يطلبون من هذا الحيوان عملاً معيناً، فإذا حقق منه نسبة نجاح 5% أعطوه قطعة لحم، وربتوا على جسمه دلالة على رضاهم عنه، ثم يكررون العملية عدة مرات مع قطع لحم أخرى أيضاً، وتزداد نسبة النجاح شيئاً فشيئاً حتى يتوصلوا للمقصود.
فإذا نجحت هذه النظرية مع الحيوانات؛ أفلا تنجح مع الإنسان وهو من أكثر المخلوقات ذكاء واستجابة وقدرة على تفادي الأخطاء؟!. مثلاً: عندما تربي ابنك ليـكـــون كاتباً مجيداً، فدربه على الكتابة، وأثن على مقاله الأول، واذكر جوانب الصواب فيه، ودعمها بالثناء، فإن قليل الصواب إذا أُثني عليه يكثر ويستمر.
القاعدة الثانية عشرة: الكلمة القاسية في العتاب لها كلمة طيبة مرادفة تؤدي المعنى نفسه:
عند الصينيين مثل يقول: (نقـطـة مــن العـســل تصـيــد من الذباب ما لا يصيد برميل من العلقم)، وهذا واقع. والكلمة الطيبة تفعل وتؤثر ما لا تفعله أو تؤثر به الكلمة القاسية التي هي في حقيقتها برميل أو براميل من العلقم المر القاسي الذي لا يطيقه أكثر الناس.
القاعدة الثالثة عشرة: اجعل الخطـأ هيناً ويسيراً وابن الثقة في النفس لإصلاحه.
القاعدة الرابعة عشرة: تذكر أن الناس يتعاملون بعواطفهم أكثر من عقولهم:
وهذه غريزة بشرية؛ فالإنسان عبارة عن جسد وروح، وهو مليء بالعواطف الجياشة، وله كرامة وكبرياء، فالإنسان لا يحب أن تهان كرامته أو يجرح شعوره، حتى ولو كان أثقل الناس، ولذلك لما بلغ أبا أسيد الساعدي فتوى ابن عباس في الصرف أغلظ له أبو أسيد، فقال ابن عباس: ما كنت أظن أن أحداً يعرف قرابتي من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لي مثل هذا يا أبا أسيد.
اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شرور أنفسنا
اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى
اللهم اجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، ولا مغيرين ولا مبدلين
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله والحمد لله رب العالمين