المادة
مس الجن وعلاجه
بسم الله الرحمن الرحيم
مس الجن وعلاجه
الحمد لله الذي خلق الجن والإنس ليعبدوه، وشرع لهم ما تقتضيه حكمته ليجازيهم بما عملوه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وكان الله على كل شيء قديراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث إلى الإنس والجن بشيراً ونذيراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فقد قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ
والجن عالم غيبي، خلقوا من نار، وكان خلقهم قبل خلق الإنس، كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر: 26، 27]
وهم مكلفون، يوجه إليهم أمر الله تعالى ونهيه، فمنهم المؤمن ومنهم الكافر، ومنهم المطيع ومنهم العاصي، قال الله تعالى عنهم: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 14، 15]، وقال عز وجل: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن: 11]، أي جماعات متفرقة وأهواء، كما يكون ذلك في الإنس، فالكافر منهم يدخل النار بالإجماع، والمؤمن يدخل الجنة كالإنس، قال الله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
والظلم بينهم وبين الإنس محرم، كما هو بين الآدميين؛ لقوله تعالى في الحديث القدسي: ((يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا
ومع هذا فهم يعتدون على الإنس أحياناً، كما يعتدي الإنس عليهم أحياناً!!
فمن عدوان الإنس عليهم : أن يستجمر الإنسان بعظم أو روث:
ففي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أن الجن سألوا النبي صلى الله عليه وسلم الزاد فقال: "لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ" ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمْ
ومن عدوان الجن على الإنس أنهم يتسلطون عليهم بالوسوسة التي يلقونها في قلوبهم، ولهذا أمر الله تعالى بالتعوذ من ذلك فقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [سورة الناس]، وتأمل كيف قال الله تعالى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}، فبدأ بذكر الجن لأن وسوستهم أعظم، ووصولهم إلى الإنس أخفى..
فإن قلت: كيف يصلون إلى صدور الناس فيوسوسون فيها؟
فاستمع الجواب من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لرجلين من الأنصار: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا أَوْ قَالَ شَيْئًاإِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَبْلَغَ الدَّمِ". [البخاري]
ومن عدوان الجن على الإنس: أنهم يخيفونهم، ويلقون في قلوبهم الرعب
ولا سيما حين يلتجئ الإنس إليهم، ويستجير بهم، قال الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا
ومن عدوان الجن على الإنس: أن الجني يصرع الإنسي فيطرحه، ويدعه يضطرب حتى يغمى عليه، وربما قاده إلى ما فيه هلاكه من إلقائه في حفرة أو ماء يغرقه أو نار تحرقه..
وقد شبه الله تعالى آكلي الربا عند قيامهم من قبورهم بالمصروع الذي يتخبطه الشيطان، قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275]
قال ابن جرير: "وهو الذي يتخبطه فيصرعه".
وقال ابن كثير:" إلا كما يقوم المصروع حال صرعه، وتخبط الشيطان له"
وقال البغوي: {يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ}: "أن يصرعه، ومعناه: أن آكل الربا يبعث يوم القيامة كمثل المصروع".
وروى الإمام أحمد في مسنده عن يعلى بن مرة رضي الله عنه أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم بابن لها قد أصابه لمم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"اخْرُجْ عَدُوَّ اللَّهِ ، أَنَا رَسُولُ اللَّهِ"
قال: فبرأ الصبي، فأهدت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم كبشين وشيئاً من أقط وسمن، فأخذ النبي صلى الله عيه وسلم الأقط والسمن وأحد الكبشين، ورد عليها الآخر.
قال ابن القيم يرحمه الله تعالى في كتابه (زاد المعاد):
( الصرع صرعان:
1- صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية.
2- وصرع من الأخلاط الرديئة.
والثاني هو الذي يتكلم الأطباء في سببه وعلاجه، وأما صرع الأرواح فأئمتهم (أي الأطباء) وعقلاؤهم يعترفون به، ولا يدفعونه..
وأما جهلة الأطباء وسقطتهم وسفلتهم ومن يعتقد الزندقة فضيلة، فأولئك ينكرون صرع الأرواح، ولا يقرون لأنها تؤثر في بدن المصروع !!
وليس معهم إلا الجهل، وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك، والحس والوجود شاهدان به، ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء وضعف قلوبهم ) اهـ
أيها الناس! إن للتخلص من هذا النوع من الصرع أمرين:
وقاية ، وعلاج
فأما الوقاية فتكون:
بقراءة الأوراد الشرعية من كتاب الله تعالى، وصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبقوة النفس وعدم الجريان وراء الوساوس والتخيلات التي لا حقيقة لها، فإن جريان الإنسان وراء الوساوس والأوهام يؤذي إلى أن تتعاظم هذه الأوهام والوساوس حتى تكون حقيقة.
وأما العلاج - أعني علاج صرع الأرواح - فقد اعترف كبار الأطباء أن الأدوية الطبيعية لا تؤثر فيه، وعلاجه:
بالدعاء
والقراءة
والموعظة
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يعالج بقراءة آية الكرسي والمعوذتين
وكثيراً ما يقرأ في أذن المصروع: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]
قال تلميذه ابن القيم:
"حدثني أنه قرأ مرة هذه الآية في أذن المصروع..
فقالت الروح: نعم، ومد بها صوته..
قال: فأخذت له عصا، وضربته بها في عروق عنقه حتى كلت يدي من الضرب..
وفي أثناء ذلك قالت: أنا أحبه!
فقلت لها: هو لا يحبك.
قالت: أنا أريد أن أحج به!
فقلت لها: هو لا يريد أن يحج معك.
قالت: أنا أدعه كرامة لك!
قلت: لا، ولكن طاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
قالت: فأنا أخرج.
فقعد المصروع يلتفت يميناً وشمالاً وقال:
ما جاء بي إلى حضرة الشيخ ؟! " اهـ
هذا كلام ابن القيم يرحمه الله عن شيخه.
وقال ابن المفلح في كتاب (الفروع) - وهو من تلاميذ شيخ الإسلام أيضاً - :
(كان شيخنا إذا أتي بالمصروع وعظ من صرعه، وأمره ونهاه..
فإن انتهى وفارق المصروع أخذ عليه العهد ألا يعود..
وإن لم يأتمر ولم ينته ولم يفارق: ضربه حتى يفارقه!
والضرب في الظاهر على المصروع،و إنما يقع في الحقيقة على من صرعه). اهـ
وأرسل الإمام أحمد إلى مصروع ففارقه الصارع، فلما مات الإمام أحمد عاد إليه !
وبهذا تبين أن صرع الجن للإنس ثابت
بمقتضى دلالة الكتاب والسنة والواقع
وأنكر ذلك المعتزلة.
ولولا: ما أثير حول هذه المسألة من بلبلة وجدال أدى إلى جعل كتاب الله تعالى دالاً على معان تخيلية لا حقيقة لها، ولولا أن إنكار هذا يستلزم تسفيه أئمتنا وعلمائنا من أهل السنة، أو تكذيبهم أقول:
لولا هذا وهذا ما تكلمت في هذه المسألة، لأنها من الأمور المعلومة بالحس والمشاهدة!
وما كان معلوماً بالحس والمشاهدة لا يحتاج إلى دليل؛ لأن الأمور الحسية دليل بنفسها، وإنكارها مكابرة أو سفسطة..
فلا تخدعوا أنفسكم، ولا تتعجلوا، واستعيذوا بالله من شرور خلقه من الجن والإنس، واستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور التواب الرحيم.
من فتاوى العقيدة للشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى