المادة
بحث في حكم إسبال الثياب
المشرف العام على مؤسسة الدرر السنية
26 رجب 1429هـ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين
أما بعد:
اتفق العلماء على حرمة إسبال الثوب خيلاءً واختلفوا إذا لم يكن ذلك من باب المخيلة والتكبر على قولين:
الأول: الجواز مع الكراهة وهو قول أغلب أتباع المذاهب الأربعة.
الثاني: التحريم مطلقاً وهو رواية عن الإمام أحمد خلاف المشهور عنه، قال ابن مفلح في (الآداب الشرعية 3/492): (قال أحمد رضي الله عنه أيضاً: ما أسفل من الكعبين في النار لا يجر شيئاً من ثيابه. وظاهر هذا التحريم)أ.هـ واختاره القاضي عياض وابن العربي من المالكية، ومن الشافعية الذهبي ومال إليه ابن حجر، وهو أحد قولي شيخ الإسلام ابن تيمية وهو قول الظاهرية وبه قال الصنعاني ومن المعاصرين ابن باز والألباني وابن عثيمين وغيرهم وهو ما تؤيده الأدلة، والواجب فيما ما يتنازع فيه الناس أن يرد إلى الكتاب والسنة، قال الله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) النساء/59.
والأدلة على التحريم واضحة وصريحة منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار) رواه البخاري، وحديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم بعضلة ساقي أو ساقه فقال: هذا موضع الإزار فإن أبيت فأسفل فإن أبيت فلا حق للإزار في الكعبين) رواه أحمد والترمذي وهو حديث صحيح، وغيرها من الأحاديث.
وسبب صرف هذه الأدلة الصريحة الواضحة عن التحريم عند من لا يقول به وجود أحاديث علقت التحريم بالخيلاء كحديث: (لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء) رواه البخاري ومسلم، فقالوا تلك أحاديث مطلقة وهذه مقيدة فحملوا المطلق على المقيد، وهذا غير صحيح، لأن حمل المطلق على المقيد إنما يكون إذا اتحدا في السبب والحكم وأما إذا اختلفا فالأصوليون متفقون على امتناع حمل أحدهما على الآخر، وهنا عندنا سببان وعقوبتان:
الإسبال وعقوبته النار
الجرُّ - وهو قدر زائدٌ عن الإسبال- وعقوبته ألا ينظر الله إليه
أما القول بأنهما عقوبة واحدة وأن من دخل النار لم ينظر الله إليه ومن لم ينظر الله إليه فمأواه النار فغير صحيح؛ بل هما عقوبتان ولو كان أحدهما يستلزم الآخر، ونظير هذا في القرآن الكريم كثير، كقوله تعالى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} وغيرها من الآيات، وكذا السنة المطهرة.
ومما يؤيد خطأ حمل المطلق على المقيد حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه قال سألت أبا سعيد الخدرى عن الإزار فقال على الخبير سقطت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إزرة المسلم إلى نصف الساق ولا حرج - أو لا جناح - فيما بينه وبين الكعبين ما كان أسفل من الكعبين فهو فى النار، من جرَّ إزاره بطراً لم ينظر الله إليه) أخرجه أحمد وأبو داود و ابن ماجه ومالك. وهو حديث صحيح، صححه النووي وابن دقيق العيد والألباني وغيرهم.
فهذا الخبير بحكم إسبال الإزار رضي الله عنه يروي حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه السببان والعقوبتان وقد فرق بينهما.
كما أن إسبال الثوب وجره يستلزم الخيلاء كما نص على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لجابر بن سليم رضي الله عنه: (إياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة وإن الله لا يحب المخيلة) رواه أحمد وأبو داود وهو حديث حسن.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (10/264): ( وحاصله: أن الإسبال يستلزم جرَّ الثوب، وجرُّ الثوب يستلزم الخيلاء، ولو لم يقصد اللابس الخيلاء، ويؤيده: ما أخرجه أحمد بن منيع من وجه آخر عن ابن عمر في أثناء حديث رفعه: ( وإياك وجر الإزار؛ فإن جر الإزار من المخِيلة ).
وقال تعقيباً على حديث أم سلمة رضي الله عنها لما سألت النبي صلى الله عليه وسلم: فكيف يصنعن النساء بذيولهن؟ حيث فهمت أن الزجر عن الإسبال مطلقاً ولو من غير خيلاء: (ويستفاد من هذا الفهم التعقيب على من قال إن الأحاديث المطلقة في الزجر عن الإسبال مقيدة بالأحاديث الأخرى المصرحة بمن فعله خيلاء... ووجه التعقيب أنه لو كان كذلك لما كان في استفسار أم سلمة عن حكم النساء في جر ذيولهن معنى بل فهمت الزجر عن الإسبال مطلقا سواء كان عن مخيلة أم لا) (فتح الباري 10/259)
وقال ابن العربي في (عارضة الأحوذي) (7/238): (لا يجوز لرجل أن يجاوز بثوبه كعبه ويقول: لا أتكبر فيه ؛ لأن النهي تناوله لفظاً، وتناول علته، ولا يجوز أن يتناول اللفظ حكماً فيقال إني لست ممن يمتثله لأن العلة ليست فيَّ، فإنها مخالفة للشريعة، ودعوى لا تسلم له، بل مِن تكبره يطيل ثوبه وإزاره فكذبه معلوم في ذلك قطعًا)
وقال الذهبي في (سير أعلام النبلاء) (3/234): رداً على من يسبل إزاره ويقول لا أفعل ذلك خيلاء: (وكذلك ترى الفقيه المترف إذا ليم في تفصيل فَرَجِيَّة (الفَرَجِيَّة: ثوب واسع فضفاض كان ملبوس العلماء والقضاة) تحت كعبيه، وقيل له: قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار)، يقول: إنما قال هذا فيمن جر إزاره خيلاء، وأنا لا أفعل خيلاء ؛ فتراه يكابر، ويبرئ نفسه الحمقاء، ويعمد إلى نص مستقل عام، فيخصه بحديث آخر مستقل بمعنى الخيلاء، ويترخص بقول الصديق: إنه يا رسول الله يسترخي إزاري؛ فقال: ( لست يا أبا بكر ممن يفعله خيلاء ) !فقلنا: أبو بكر رضي الله عنه لم يكن يشد إزاره مسدولا على كعبيه أولاً، بل كان يشده فوق الكعب، ثم فيما بعد يسترخي. وقد قال عليه السلام: ( إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، لا جناح عليه فيما بين ذلك وبين الكعبين )، فمثل هذا في النهي من فصَّل سراويل مغطياً لكعابه، ومنه طول الأكمام زائداً، وكل هذا من خيلاء كامن في النفوس) انتهى
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية تعقيباً على من جعل الإسبال هو السدل: (وإن كان الإسبال والجر منهياً عنه بالاتفاق والأحاديث فيه أكثر، وهو محرم على الصحيح، لكن ليس هو السدل.) (اقتضاء الصراط المستقيم 1/130)
وقال الصنعاني في مقدمة كتابه (استيفاء الأقوال في تحريم الإسبال على الرجال): (وقد دلَّت الأحاديث على أن ما تحت الكعبين في النار، وهو يفيد التحريم، ودل على أن من جَرَّ إزاره خيلاء لا يَنْظر الله إليه، وهو دال على التحريم، وعلى أن عقوبة الخيلاء عقوبة خاصة هي عدم نظر الله إليه، وهو مما يُبْطل القول بأنه لا يحرم إلا إذا كان للخيلاء)
أما استشهاد بعضهم بفعل أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقول النبي صلى الله عليه وسلم له: (إنك لست تفعل ذلك خيلاء) فهو استشهاد في غير محله: أولاً: لأن هذا في جرِّ الثوب وحديثنا عن الإسبال والفرق بينهما لا يخفى، وثانياً: هذه تهمةٌ الصديقُ بريءٌ منها فلم لم يكن رضي الله عنه متعمداً الإسبال بدليل قوله: (إنَّ أحد شقي ثوبي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه) فانظر إلى قوله: أحد شقي ثوبي، فهل الإسبال المُتَعَمَّد يكون من شقٍّ واحد؟! وتأمل قوله: إلا أن أتعاهد ذلك منه - أي أرفعه-، وحديثنا عمن يُسبله ابتداءً لا عمن يرفعه كالصديق رضي الله عنه.
والخلاصة:
أن إسبال الثوب ومثله البنطال والسراويل إلى ما دون الكعبين محرَّمٌ بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله خيلاء يزيده حرمة.
والله أعلم
الدرر السنية