وجوه الإعجاز في الصوم
إنَّ من يتتبع سنن الرسول صلى الله عليه وسلم في الصيام، يجدها تحقق حكماً طبيَّةً دقيقةً، لا يعرفها إلا أهل الاختصاص، والباحثون، والمطلعون على الدراسات العلمية الحديثة .
ويمكن سرد الإعجاز العلمي وتقسيمه على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول من الإعجاز، الوقاية من العلل والأمراض:
أخبر الله سبحانه وتعالى أنَّه فرض علينا الصيام، وعلى كل أهل الملل قبلنا، لنكتسب به التقوى الإيمانية، والتي تحجزنا عن المعاصي والآثام، ولنتوقى به كثيرًا من الأمراض، والعلل الجسمية، والنفسية، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وقال صلَّى اللَّه عليه وسلَّم: ((الصيام جُنَّة)) أي: وقاية وستر.
وقد ثبت وجود بعض الفوائد الوقائية للصيام ضد كثير من الأمراض، والعلل الجسمية والنفسية، منها على سبيل المثال لا الحصر:
1- يقوي الصيام جهاز المناعة؛ فيقي الجسم من أمراض كثيرة، حيث يتحسن المؤشر الوظيفي للخلايا اللمفاوية عشرة أضعاف، كما تزداد نسبة الخلايا المسئولة عن المناعة النوعية زيادة كبيرة، كما ترتفع بعض أنواع الأجسام المضادة في الجسم، وتنشط الردود المناعية، نتيجة لزيادة البروتين الدهني منخفض الكثافة.
2- الوقاية من مرض السمنة وأخطارها؛ حيث إنَّه من المعتقد أنَّ السمنة كما قد تنتج عن خلل في تمثيل الغذاء، فقد تتسبب عن ضغوط بيئية، أو نفسية، أو اجتماعية، وقد تتضافر هذه العوامل جميعًا في حدوثها، وقد يؤدي الاضطراب النفسي إلى خلل في التمثيل الغذائي، وكل هذه العوامل التي يمكن أن تنجم عنها السمنة، يمكن الوقاية منها بالصوم: من خلال الاستقرار النفسي، والعقلي، الذي يجنى بالصوم، نتيجة للجو الإيماني الذي يحيط بالصائم، وكثرة العبادة في الذكر، وقراءة القرآن، والإنفاق في سبيل الله، والبعد عن الانفعال والتوتر، وضبط النوازع والرغبات، وتوجيه الطاقات النفسية الجسمية توجيهًا إيجابيًا نافعًا.
هذا فضلاً عن تأثير الصيام المثالي، في استهلاك الدهون المختزنة، ووقاية الجسم من أخطار أمراض السمنة: كالأمراض القلبية الوعائية، القلب، والسكتة القلبية، وانسداد الشرايين المحيطة بالقلب، وكمرض تصلب الشرايين. وغيرها من الفوائد.
الوجه الثاني من الإعجاز، منافع وفوائد الصيام:
الصيام يحقق لنا وقاية من العلل الجسمية، والنفسية، ويشكل حاجزًا، وسترًا لنا من عقاب الله، أخبرنا -جل في علاه- أنَّ في الصيام خيرًا ليس للأصحاء المقيمين فقط، بل أيضًا للمرضى والمسافرين، والذين يستطيعون الصوم بمشقة، ككبار السن ومن في حكمهم، قال تعالى: { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
ذكر الفخر الرازي: أنَّ للعلماء ثلاثة وجوه في قوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}
أحدها: أن يكون هذا خطابًا مع الذين يطيقونه فقط، ويكون التقدير: وأن تصوموا أيها المطيقون، وتحمَّلتم المشقَّة فهو خير لكم من الفدية، وقد اختار هذا القاسمي في محاسن التأويل.
الثَّاني: أنَّ هذا خطاب مع كل من تقدم ذكرهم، أعني المريض، والمسافر، والذين يطيقونه، وهذا أولى؛ لأنَّ اللفظ عام ولا يلزم من اتصاله بقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} أن يكون مختصًا بهم؛ لأنَّ اللفظ عام، ولا منافاة في رجوعه إلى الكل، فوجب الحكم بذلك.
الثالث: أن يكون معطوفًا على أوَّل الآية، فالتقدير: كتب عليكم الصيام، وأن تصوموا خير لكم، والخير اسم تفضيل على غير قياس، وهو الحسن لذاته، ولما يحقق من لذة أو نفع أو سعادة، فالصيام حسن لذاته، ولما يحصل للمؤمن من المنافع، واللذة الروحية، والسعادة في الدنيا والآخرة.
ومعنى {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: فضيلة الصوم وفوائده.
ومما سبق يتبين لنا أن الله سبحانه وتعالى قرر أنَّ للصوم منافع وفوائد، هي متحققة حتمًا على كل من افترضه عليه، من الأصحاء المقيمين، والذين يصومون بلا مشقة زائدة، وأنَّ هذه الفوائد والمنافع تعم أهل الرخص إن صاموا، ما لم يتحقق الضرر، ولا منافاة -فيما نعلم- بين تقرير الله هذا، وبين قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} بعد قوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فاليسر هنا هو رفع الإلزام، وتشريع الرخصة، والعسر خلافه، قال القاسمي في محاسن التأويل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} أي: تشريع السهولة بالترخيص للمريض والمسافر، وبقصر الصوم على شهر. {وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} في جعله عزيمة على الكل، وزيادته على شهر.
الوجه الثالث من الإعجاز، يُسر الصيام الإسلامي وسهولته:
تشير الدراسات العلمية المحققة في وظائف أعضاء الجسم أثناء مراحل التجويع - على يسر الصيام الإسلامي وسهولته.
لقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن حقيقة علمية أخرى، وهي أنَّ الصيام الذي فرضه علينا، وحدد لنا مدته الزمنية، طلوع الفجر إلى غروب الشمس، في قوله تعالى: {وكلُوا واشْرَبوا حتّى يتبيّن لكُم الْخيْطُ الأبْيضُ منَ الخيطِ الأسوَدِ مِنَ الفَجرِ ثمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَيلِ}، أخبرنا بأن هذا الصيام سهل ويسير، لا مشقة فيه ولا ضرر، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} قال الفخر الرازي في تفسير الآية: (إنَّ الله تعالى أوجب الصوم على سبيل السهولة واليسر، وما أوجبه إلا في مدة قليلة من السنة، ثم ما أوجب هذا القليل على المريض، ولا على المسافر).
فالصيام الإسلامي صيام سهل ميسور للأصحاء المقيمين، لا مشقة للنفس فيه، ولا ضرر يلحق الجسم من جرائه، على وجه القطع واليقين.
وتتمثل مظاهر يسر الصيام في النقاط التالية:
1- الصيام المفروض أيَّام قليلة معدودة، وهو شهر في السنة، ولم يفرض الله صيام الدهر كله ولا صيام أكثر، ولو شاء سبحانه لفرضه، ولكن رحمته وسعت جميع الأمم، وسهلت عليهم أمر هذا التكليف.
2- الصيام الإسلامي مفروض، وملزم للأصحاء المقيمين، وشعور الفرد بإلزامية الصيام على الجميع: السابقين منهم والحاضرين، ميسِّر له، ومخفِّف عنه توهُّم المشقة النفسية؛ الناتجة عن الحرمان المؤقت، من الطعام والشراب، وتغيير الإلف والعادة، كما أنَّ ترجِّى الحصول على منافع وفوائد الصيام، يُهوِّن هذه المشقة النفسية المتوهمة ويزيلها.
3- تشريع رخصة الفطر للمرضى، والمسافرين، والمطيقين، برغم الفوائد والمنافع التي يجنونها من الصيام إن صاموا، تخفيفًا وتيسيرًا لهم من مشقات المرض والسفر، ومشقة الحمل والرضاعة، وقلة الصبر على الحرمان من الغذاء لكبار السن، وتحريم الصيام عليهم إن تحقق لهم ضرر، أو فاتت مصلحة حيوية عامة أو خاصة بصيامهم.
4- إلزام ذوي الأعذار الموقوتة، كالمرضى والمسافرين، بإعادة الصيام في وقت آخر من العام حتى لا يحرموا من فوائده ومنافعه، وإسقاط هذا الإلزام لذوي الأعذار الدائمة ككبار السن -باتفاق-، ولذوي الأعذار شبه الدائمة: كالحوامل والمرضعات، وذوي الأمراض المزمنة التي لا يرجي برؤها في الغالب، تيسيرًا ورأفةً ورحمةً بهم.
5- يتجلى يسر الصيام الإسلامي في إمداد الجسم بجميع احتياجاته الغذائية، وعدم حرمانه من كل ما هو لازم ومفيد له، فالإنسان في هذا الصيام، يمتنع عن الطعام والشراب فترة زمنية محدودة، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وله حرية المطعم والمشرب من جميع الأغذية والأشربة المباحة ليلًا، ويعتبر الصيام الإسلامي بهذا، تغيير لمواعيد تناول الطعام والشراب فحسب، فلم يفرض الله سبحانه الانقطاع الكلي عن الطعام لمدد طويلة، أو حتى لمدة يوم وليلة، تيسيرًا وتخفيفًا على أمة خاتم الأنبياء، عليه الصلاة والسلام، وقد تجلى هذا اليسر بعد تقدم وسائل المعرفة والتقنية في هذا العصر، وبعدما عرف الإنسان دقيق تركيبه، ومكونات جسمه، وشاهد الخلايا البشرية بالمجاهر العملاقة، وعرف مكوِّناتها، ووظائفها، وقدرًا كبيرًا من أسرارها، وتوصل بعلومه إلى معرفة مكوِّنات جميع الأغذية والأشربة، وكيف يستفيد منها الجسم والكائن الحي، كما عرف الأخطار الناجمة من كثرة الإسراف في تناولها، وغير ذلك...
وهذه هي الأدلة العلمية القاطعة والبراهين الواضحة، على يسر الصيام الإسلامي وسهولته.