رمضان والاعتكاف
إن من أجلِّ الغايات التي ينشدها المسلم في حياته هي محبة الله, والقرب منه, والخلوة به، وفي شهر رمضان المبارك يجد المسلم نفسه مع عبادة الاعتكاف التي تحقق له ما يريد, بعيداً عن الدنيا, ومشاغلها, ومتاعبها.
الاعتكاف وتحقيق معنى العبودية:
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، والمعتكف قد وهب كلَّ وقته لله سبحانه وتعالى، وجعل كلَّ همِّه وشغله الشاغل هو مرضاة الله عز وجل، وهذا هو تحقيق معنى العبودية.
قال ابن القيم – رحمه الله - : (..وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى, وجمعيته عليه, والخلوة به والانقطاع عن الاشتغال بالخلق, والاشتغال به وحده سبحانه, بحيث يصير ذكره, وحبه, والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته, فيستولي عليه بدلها, ويصير الهمُّ كلُّه به, والخطرات كلُّها بذكره, والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه, فيصير أنسه بالله بدلاً من أنسه بالخلق, فيعده بذلك بأنسه به يوم الوحشة في القبور, حيث لا أنيس له ولا ما يفرح به سواه, فهذا هو مقصود الاعتكاف الأعظم)(1).
المعتكف قلبه متعلق بالمسجد, والذي ثوابه أن يظله الله في ظله يوم القيامة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سبعة يظلهم الله تعالى في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه: إمام عدل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد..))(2).
فإن كان هذا جزاء تعلق القلب بالمسجد, فما أعظم جزاء الاعتكاف, والبقاء فيه انتظاراً للصلوات.
الاعتكاف والتماس ليلة القدر:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط... ثم أطلع رأسه فكلَّم الناس, فدنوا منه فقال: ((إني اعتكفت العشر الأول، ألتمس هذه الليلة، ثم اعتكفت العشر الأوسط، ثم أتيت فقيل لي: إنها في العشر الأواخر. فمن أحبَّ منكم أن يعتكف، فليعتكف)). فاعتكف الناس معه))(3)
فالتماس ليلة القدر هي المقصد الرئيسي من اعتكافه صلى الله عليه وسلم.
الاعتكاف والصبر:
المعتكف يتعلم الصبر على شهوات الدنيا من نساء, ورفاهة في المأكل, والمشرب, والنوم على الفرش الناعمة, هذا من جانب، ومن جانب آخر الصبر على ما يجد في معتكفه من مزاحمة الآخرين له.
وفي هذا تربية للإرادة، وكبْح لجماح النفس، وعون لها على الصبر, وشكر نعم الله.
الاعتكاف وحُسن الإسلام:
المعكتف يتعلم في معتكفه اجتناب ما لا يعنيه من الأقوال والأعمال، وهو ما يؤدي إلى حسن إسلامه؛ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه))(4).
فشهر رمضان فيه نفحات طيبة, وفرص عظيمة, والتي منها الاعتكاف, وما فيه من خلوة مع الله, وتربية النفس، وجهاد الهوى، والبعد عن الشواغل والصوارف، والتفرغ لقراءة القرآن، والذكر, والقيام, وتحصيل أشرف الليالي وهي ليلة القدر.
-----------------
(1) ((زاد المعاد)) لابن القيم (2/87)
(2) رواه البخاري (1432)، ومسلم (1031)
(3) رواه مسلم (1167)
(4) رواه الترمذي (2317)، وابن ماجه (3226)، وابن حبان (1/466) (229)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (4/255) (4987).
قال الترمذي: غريب، وقال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/29): رواته ثقات إلا قرة بن حيوة ففيه خلاف، وحسنه النووي في ((الأربعون النووية)) (12)، وصححه السيوطي في ((الجامع الصغير)) (8243)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2317)