المادة
الأحكام المتعلقة بالهلال
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وقائد الغر المحجلين، وإمام المتقين أنصح الخلق وأبرهم وأزكاهم وأتقاهم وأعلمهم بمراد الله سبحانه وتعالى، وأشدهم في أمر ربه جل وعلا اختاره الله للرسالة الخالدة والشريعة الخاتمة المهيمنة وأعطاه من كمال البيان ما لم يعط غيره من الناس، وبعد: فقد كانت صحفنا المحلية وبعض مجلاتنا قد نشرت لي مقالاً عن الهلال متى تثبت رؤيته، وماذا يجب على الناس في عباداتهم المنوطة بالهلال صياما وحجاً، وبماذا يكون دخوله، واعتمادهم أعلى الرؤية أم على الحساب وأقوال العارفين به؟
وقد كثر الحديث عن ذلك وتعدد القائلون فيه من منتسبٍ لطلب العلم الشرعي ومُدعٍ علم الفلك وكثر الخوض في ذلك وتعمد بعض الكتاب إثارة المشاعر في كل وقت يكون الناس في استقبال عبادة تتعلق بالهلال. وقد أثر على هؤلاء الكتاب ما رأوه من تقدم العلم الفلكي في هذه العصور ومعرفة كواكب قد لا يكون الناس في السابق عرفوها، وتأثر بعض هؤلاء بمقولة بعض العلماء المتقدمين التي خالفوا فيها الإجماع، وربما كانت جرأة بعضهم رحمهم الله أن قرر إبطال الشهادة من العدول إذا خالفها الحساب ظناً منهم رحمهم الله أن الحساب قطعي الدلالة وأن الشهادة ظنية الدلالة وأن الظني لا يقاوم القطعي فراح بعض من اطلع على مثل هذا القول المردود من قبل أهل العلم ينادي به ويتعلق به ويجعله حجة ترد بها البينة التي اعتبرها الشارع وبنى عليها الحكم الشرعي دون أن يرد ذلك إلى كلام الله عز وجل أو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يعرضه على كلام من هم أقعد في العلم من صاحب ذلك القول وأدق فهماً ومعهم إجماع الأمة، كما تأثر بعض الكتاب ببعض نشرات ندوات فلكية لم يرجع أصحابها في كلامهم إلى أدلة الشريعة وقواعدها ولم يتأملوا ما في أدلة الكتاب والسنة من اليسر والتيسير ولا عرضوا أفكارهم على أهل العلم بأدلة الكتاب والسنة.
وصار أولئك الكتاب عن حسن نية فيما نظن يشككون الناس في عباداتهم وصيامهم وفطرهم وفي حجهم فدعاني ذلك وما ذكرته في مقالي المنشور في آخر رمضان عام 1409 هـ إلى الكتاب التي أسوق الآن نصها مع قليل من التصرف والزيادة في بعض المواضع متعمداً في ذلك الأدلة الشرعية وكلام خيار الأمة بعد نبيها فهم أعرف الناس بمراد الله ومراد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فعلته الآن من التعديل القليل والزيادة اليسيرة فبقدر ما تدعو الحاجة إليه، وقد رأيت إعادة نشر المقال استجابة لأمر شيخنا ووالدنا سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد) وتلبية لرغبة زميلنا العزيز الدكتور محمد بن سعد الشويعر (رئيس تحرير مجلة البحوث الإسلامية) لينشره في مجلة البحوث، ولاشك أن ما ينشر في مجلة هي بمنزلة كتاب يقتنى ويرجع إليه يحتاج لإجراء تعديل عما كان ينشر في صحف سيارة ومحافظة مني على أصل المقال أسوق نصه مع التعديل الذي أشرت إليه وإضافة للزيادة التي نوهت عنها إما في صلب المقال أو على شكل تعليقات على المقال (1) وأنا لا أشك أن كتابات من كتبوا إنما كان باعثها حب جمع المسلمين ولم شتاتهم ظناً منهم أن ذلك يجمعهم ومثل ذلك لا يجمع في الحقيقة، وإنما يجمع الأمة اتحاد المسيرة في ظل القرآن الكريم والسنة المطهرة وما قامت عليه الدولة الإسلامية الأولى من صفاء العقيدة وصدق الانقياد لأمر الله وأمر رسوله والرجوع إلى ما قال الله ورسوله في كل الأحوال والرغبات والمقاصد، وإليك أيها القارئ الكريم نص الكلمة السابقة مدخلاً فيها ما ذكرته من التصرف الذي لا يخرجها عن مبناها ولا يخل بمعناها إن شاء الله جل جلاله:
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا وبعث إلينا رسوله محمداً هادياً ومعلماً فأقام الحجة وأوضح المحجة وبين للناس ما نزل إليهم من ربهم أكمل بيان وأتمه ولم يمت عليه الصلاة والسلام حتى بين لنا فروع الدين وأصوله فلا يضل عن هديه بعد ذلك إلا هالك وربنا سبحانه وتعالى لم يجعل علينا في ديننا أي حرج بل جعل أموره سهلة مبسطة ميسرة وأقام لأوقات العبادة دلائل واضحة لا يختص بمعرفتها فئة خاصة من الناس وإنما يشترك في معرفتها الخاصة والعامة ولم يقيدها بعلم دقيق غامض بل أناط معرفتها بأمور محسوسة وكواكب سيارة يعرفها المتعلم والعامي ويهتدي بطلوعها وغروبها المكلفون جميعاً وهذا من رحمة الله بعباده وإحسانه إليهم وجميل لطفه بهم فله الحمد والشكر على نعمه التي لا تعد ولا تحصى إذ لم يجعل أمور عباداتنا معلقة على علوم دقيقة تفتقر إلى حساب وحدس وتخمين لما في ذلك من الحرج والعناء وحدوث الغلط والاضطراب وحصول الشك والقلق وبعد:
فيا أخي المسلم إن الباعث لي على كتابة هذا الحديث هو ما تكرر من كتابات صحفية عند قرب مواسم العبادة الدورية أو قرب خروجها كالصيام والعيد والحج مما أوجد بلبلة وتساؤلات كثيرة وما كنت أرغب الكتابة في ذلك قبل الآن لعلمي أن ما حوته الكتب من علوم القرآن والسنة وما أجمع عليه سلف الأمة فيه مقنع لطالب الحق وأن العبرة بما جاء عن المعصوم صلوات الله وسلامه عليه ولكن الأمر في الآونة الأخيرة بدأ يتسع خرقه ويتفاقم خطبه، وصار الناس يجدون كتابات جازمة بأحكام صادرة عن غير ذوي الشأن المعنيين بالأمر وفيها تحد سافر وتشكيك في العبادة وإعطاء الحساب -المبني على الظن- حكم القرآن ومتواتر السنة من قطيعة الدلالة ووجوب رد الشهادة إذا خالفته رغم أن حذاق الحساب يجزمونه بأنه لا يمكن أن يتوصل بالحساب إلى أمر قاطع ولا إلى دليل حاسم ومن يطالع أكثر ما كتب باعتناء وتجرد يجد ظاهراً لا لبس فيه وقد كثر القول والتذمر من العامة والخاصة كما كثر ترديد عبارات قوية مثل: أما يوضع لهذا الاندفاع حد؟ أما يوقف الخوض فيما يربك العامة ويؤثر على نفوسهم؟ وقد يوجد بسبب أمثال هذه الكتابات من الاختلاف والفرقة ما يعم ضرره ويعظم خطره مما أوجب الكتابة فيه مع أن أهل العلم قد تكرر منهم البيان وإيضاح الحكم الشرعي.
وتوالت كتابات شيخنا سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وغيره ثم إنه قد اتصل بي بعض من أرى رأيهم محل تقدير واهتمام ورغب إلى أن أقول شيئاً في هذا الأمر وأكتب كتابة موسعة لعل الله أن ينفع بها وكنت متردداً وأخيراً انشرح صدري للكتابة وفضلت الاستجابة لرأيه وعزمه وبما أن الأمر يتعلق بركن من أركان الإسلام بل بركنين هما الصيام والحج فلا بد من الاهتداء بقول المبلغ عن الله رسالاته الذي لا ينطق عن الهوى بل بكلام هو وحي يوحى وهو عليه الصلاة ولا سلام قد أوتي الكتاب ومثله معه وكان أنصح الخلق وإبراهيم فلم يتركنا نتخبط في ظلم الجهل ونتقارع بحجج الهوى بل أعطانا مصابيح كاشفة وهاجة لا يبقى معها شك أو ريبة لمنصف ينشد الحق ويسعى في طلبه، وإليك أيها القارئ جملة منها وسأقتصر على ما في الصحيح إذ القصد إعطاء القارئ الذي قد تكون أثرت عليه بعض تلك المقالات ما يبدد عنه غيومها ويزيل عنه آثارها لاسيما وقد اقترنت بذكر بعض أقطاب العلم ممن لهم في النفوس منزلة عالية ولكن على فرض أن في بعض كلام أهل العلم ما يؤيد ما نشر فإن مما لاشك فيه أن العبرة والعمدة على الله سبحانه وتعالى: { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [البقرة:185].
والمراد بالشهود رؤية الهلال كما هو المتبادر وبه فسره أهل العلم العارفون بمدلول لغة القرآن وهم القدوة في ذلك لا من خالف إجماع السلف كما سوف يمر بك، إن شاء الله.
ثم تأمل كلام الصادق المصدوق تجده فصلاً في الموضوع واقعاً على المحز ينجلي به عن القلب كل غمة وهاك ما وعدتك به:
قال الإمام البخاري في صحيحه (الفتح ج 4 ص 119): باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا » حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عن رمضان فقال: « لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له ».
حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى ترونه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين ».
حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا محمد بن زياد قال سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم أو قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غبي عليكم فأكملوا عدت شعبان ثلاثين».
حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا الأسود بن قيس حدثنا سعيد بن عمرو أنه سمع ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا يعني مرة تسعة وعشرين مره ومرة ثلاثين» أ.هـ.
قال الحافظ في الفتح بعد كلام له على معنى الحديث: فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية لرفع الحرج عنهم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك -يعني الحساب- بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلاً يوضحه قوله في الحديث الماضي فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين ولم يقل فاسألوا أهل الحساب والحكمة في كون العدد عند الإغماء يستوي فيه المكلفون فيرتفع الخلاف والنزاع، وقال(2): ونقل ابن العربي عن ابن سريج أن قوله: فاقدروا له خطاب لمن خصه الله بهذا العلم وأن قوله فأكملوا العدة خطاب للعامة قال ابن العربي: فصار وجوب رمضان عنده مختلف الحال يجب على قوم بحساب الشمس والقمر وعلى آخرين بحساب العدد قال وهذا بعيد عن النبلاء يعني فكيف برسول رب العالمين وقال ابن الصلاح: معرفة منازل القمر هي معرفة سير الأهلة وأما معرفة الحساب فأمر دقيق يختص بمعرفته الآحاد قال: فمعرفة منازل القمر تدرك بأمر محسوس يدركه من يراقب النجوم وهذا هو الذي أراده ابن سريج وقال به في حق العارف بها في خاصة نفسه ونقل الروياني عنه أنه لم يقل بوجوب ذلك عليه وإنما قال بجوازه..الخ
وقال (3) عن اعتبار الحساب: وقال ابن بزيزة: وهو مذهب باطل فقد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم لأنها حدس وتخمين ليس فيها قطع ولا ظن غالب وقال رحمه الله: وقال ابن بطال: في الحديث -يعني حديث إنا أمة أمية -رفع لمراعاة النجوم بقوانين التعديل وإنما المعول الرؤية وقد نهينا عن التكلف ولاشك أن في مراعاة ما غمض حتى لا يدرك إلا بالظنون غاية التكلف أ.هـ (بعض روايات الحديث في صحيح مسلم (4).
وقال الإمام مسلم (5): حدثني يحي بن يحي قال: قرأت على مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر رمضان فقال: « لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن أغمى عليكم فاقدروا له».
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فضرب بيديه فقال: «الشهر هكذا وهكذا ثم عقد إبهامه في الثالثة صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن أغمى عليكم فاقدروا له ثلاثين » وساق أحاديث في هذا المعنى إلى أن قال رحمه الله: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا غندر عن شعبة وساق السند إلى ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا هكذا» يعني تمام الثلاثين.
وقال رحمه الله حدثنا يحي بن يحي أخبرنا إبراهيم بن سعد عن سعد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوماً» وساق رحمه الله روايات عدة في هذا المعنى.
قال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم: باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية الهلال وأنه إذا غم في أوله أو آخره أكملت عدة الشهر ثلاثين يوماً
قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن أغمي عليكم فاقدروا له» وفي رواية: «إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له» وفي رواية: «فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوماً » وفي رواية: « فإن غمي عليكم فأكملوا العدد» وفي رواية: «فإن غمي عليكم الشهر فعدوا ثلاثين » وفي رواية: « فإن أغمي عليكم فعدوا ثلاثين» هذه الروايات كلها في الكتاب على هذا الترتيب. وفي رواية للبخاري: « فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين » واختلف العلماء في معنى « فاقدروا له » فقالت طائفة من العلماء معناه ضيقوا له وقدروه تحت السحاب وممن قال بهذا أحمد بن حنبل (6) وغيره ممن يجوز صوم يوم ليلة الغيم عن رمضان كما سنذكره إن شاء الله تعالى. وقال ابن بريج وجماعة منهم مطرف بن عبد الله وابن قتيبة وآخرون معناه قدروه بحساب المنازل، وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور السلف والخلف إلى أن معناه قدروا له تمام العدد الثلاثين يوماً.
قال أهل اللغة يقال قدرت الشيء أٌقدره وقدرته وأقدرته بمعنى واحد وهو التقدير قال الخطابي ومنه قوله تعالى: { فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات:23] واحتج الجمهور بالروايات المذكورة: فأكملوا العدة ثلاثين وهو تفسير لقوله: فاقدروا له، ولهذا لم يجتمعا في رواية بل تارة يذكر هذا وتارة يذكر هذا ويؤكده الرواية السابقة فاقدروا له ثلاثين. قال المازري: حمل جمهور الفقهاء قوله صلى الله عليه وسلم: « فاقدروا له » على أن المراد كمال العدة ثلاثين كما فسره في حديث آخر قالوا: ولا يجوز أن يكون المراد به كلام المنجمين لأن الناس لو كلفوا به ضاق عليهم لأنه لا يعرفه إلا أفراد والشرع إنما يعرف الناس بما يعرفه جماهيرهم والله أعلم.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: « فإن غم عليكم » فمعناه حال بينكم وبينه غيم يقال غم وأغمي وغمي بتشديد الميم وتخفيفها والغين مضمومة فيها يقال غبي.. الخ انتهى من شرح النووي على صحيح مسلم وبهذا اكتفى بالنقل من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلاصته من شرح الحافظ في الفتح على البخاري وما أتبعه من أحاديث مسلم ومن شرح الإمام النووي الذي قال فيه السبكي صاحب المقولة الشاذة في ردة الشهادة إذا خالفها الحساب أنه -أي النووي- محرر المذهب الشافعي وحسبه أنه صاحب المجموع والروضة وشرح صحيح مسلم وتهذيب الأسماء وغيرها.
وقال الحافظ (7) أيضاً بعد نقل الخلاف في خصوص النظر في الحساب والمنازل: وقال ابن الصباغ: أما بالحساب فلا يلزمه يعني الحاسب بلا خلاف بين أصحابنا قلت: ونقل ابن المنذر قبله الإجماع على ذلك فقال في الإشراف: صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال مع الصحو لا يجب بإجماع الأمة وقد صح عن أكثر الصحابة والتابعين كراهته هكذا أطلق ولم يفرق بين حاسب وغيره فمن فرق بينهما كان محجوجاً بالإجماع قبله أ. هـ.
أخي القارئ:
بعد هذه المقدمة النفسية من كلام المعصوم صلى الله عليه وسلم يحسن بنا أن نفكر متجردين عن الهوى: ما الذي نجنيه من الكتابة عن الصيام وتكذيب شهود رؤية الهلال لأن الحساب قد دلنا على أن الشهر لن يهل أو أنه لم يولد؟ هل عندنا بذلك أثارة من علم ممن يرد قوله؟ أو أننا صدقنا نتيجة حسابنا إن كنا نحسن الحساب أو أننا وثقنا بخبر حاسب قال لنا ذلك مع افتقار خبره إلى مقومات قبول الخبر من الثقة والأمانة والخبرة الطويلة وتجربة صوابه دائماً.. الخ. وعدم الاستغناء عنه بخبر من أمرنا الله بتصديقه وقبول أمره والوقوف عنه نهيه والرضا بحكمه بدون أي تردد لأن الله عصمه وأيده. أما غيره من أهل الحساب فإن قدماءهم ومحدثيهم لا يدعون لأنفسهم العصمة ولم يسجلوا هذا في كتبهم ولو سجلوه لدر العلماء عليهم فكيف نسبغها عليهم بكل بساطة ودون مراعاة لما كان عليه سلفنا الصالح الذين هم أحرص على جمع الكلمة وتوحيد الأمة وكانوا أتقى لله وأبر وأفقه في العلم من غيرهم، والاقتداء بهم خير وفلاح وبر، وإن ترك قولهم لقول أهل الحساب ضلال وعقوق وإزراء بهم وما كانوا لذلك أهلاً.
أخي القارئ:
إننا قد كفينا الأمر وإن نبينا صلى الله عليه وسلم أمامنا فعلينا أن نوليه ما يستحقه من الاحترام والتقدير على كل قول أو رأي، إن علماء الأمة يقولون إن تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز فهل يليق بنا أن ننسب لرسول الله صلى الله عليه وسلم إخفاء شيء من شرع الله أو أنه جهل الرد إلى أمر نحن اهتدينا له، إن أمراً وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يجب أن يسعنا وسوف ترى أيها القارئ الكريم تفصيل القول في معنى وصف أمتنا بالأمية إن شاء الله تعالى.
إنني أعلم أن من كتب في صحفنا عن الرؤية وعدم صحتها لا ينسب لنفسه أنه اهتدى لما لم يهتد إليه محمد صلى الله عليه وسلم لأني أحسن الظن بهم من عرفته منهم ومن لم أعرفه. لكني أرى أنهم كلفوا أنفسهم تحمل حملاً ثقيلاً ووقفوا بما كتبوه رادين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون قصد إذ لا يعقل أن مسلماً يدين بالإسلام حقاً يرضى أن يرد سنة رسول الله بحساب سوف نقرأ قول أصحابه عنه فيما يأتي إن شاء الله ونعرف بذلك ما تجشمه هؤلاء هداهم الله وإيانا وبصّرنا وإياهم بديننا إذ أن البصيرة في الدين من هدي سنة المرسلين.
إن أمة الإسلام مضى لها أكثر من أربعة عشر قرنا وأجمعت على عدم اعتبار الحساب في إثبات عبادة الصوم والحج وإذا وجد فرد قد شذ (8) ردوا قوله ولم تقل بالحساب إلا طائفة الإسماعيلية الطائفة المعروفة ومن كان قريباً منها من الطوائف كما ذلك حفّاظ الإسلام من القرون الأولى إلى من جاء بعدهم من الحفّاظ وللفائدة وإزاحة لما قد يكون قد علق بالأذهان من جراء النقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم في بعض كتابات من كتبوا مدّعين في كتاباتهم بلا دليل شرعي خطأ الشهود الذين شهدوا بالرؤية وعن الكسوف وتعذر ظهور الهلال إذا وجد كسوف أقول: لقد أرشدنا سيد الرسل وخاتمهم إلى ما نعتبره من الكسوف وقال إذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة وقد رواه وغيره من أحاديث الكسوف عامة مخرجي السنة في كتاب الكسوف. وسكت عن الاقتران والافتراق، وسبب الكسوف التجلي فلم يرتب على ذلك حكماً سوى الصلاة حتى يكشف عنا. أيليق بنا أن نزيد ونقول ترد بذلك الشهادة ويحكم كذب الشهود العدول الذين لا غرض لهم في ظاهر الأمر بل عليهم من المشقة والتعرض للمتاعب ما يعلمه من يتولى أخذ شهادتهم ومطالباتهم بإحضار من يشهد بعدالتهم وأمانتهم. ألم يقل ربنا جل وعلا: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } [المائدة:3] ومع ذلك أيترك الله أمراً في منتهى الخطورة فلا يرشدنا إليه في كتاب ولا سنة إن هذا الظن بالله وبرسوله غير لائق ومن كتب عن الهلال لا أشك أنه لم يرد في ذهنه هذا الظن لكن كتابته تؤدي إليه فهل يرضى لنفسه ذلك؟ ثم تعال معي لقرأ بعض كلام أهل العلم حول هذا الموضوع لتزداد طمأنينة لأن علماءنا الأجلاء بحثوا هذا الأمر بعلم وتعقل وأرسوا لنا فيه قواعد متينة وليس ذلك قول طائفة واحدة منهم بل هو قول عامة علماء الأمة خلفاً عن سلف.
• بعض أقوال أهل العلم:
ونبدأ بشيخ الإسلام ابن تيمية لأن بعض من كتب عن الهلال ورد الشهادة لمخالفة الحساب قد شوش على الناس بالنقل عنهم فأحببت البدء به ولو كان من سبقه من أئمة الإسلام ردوا على من قال بالحساب وسفهوا رأيه وعدوه خالف الإجماع، قال رحمه الله بعد مقدمة عظيمة في كمال الدين ووجوب إتباع الصراط الله المستقيم وأن الله أمرنا أن لا نكون كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات وأن الله أمرنا بالاعتصام بالدين وأنه يقع المتنازع في تفصيله فتارة يكون بين العلماء المعتبرين في مسائل الاجتهاد وتارة يتنازع فيه قوم جهال بالدين منافقون أو سماعون للمنافقين يقبلون منه...الخ وبسط الكلام في ذلك بمعان رائعة وألفاظ شائقة (9). ثم قال وكان مقتضى تقدم هذه المقدمة أني رأيت الناس في صومهم وفي غيره أيضاً منهم من يصغي إلى ما يقوله بعض جهال أهل الحساب من أن الهلال يرى أو لا يرى ويبني على ذلك إما في باطنه وإما في باطنه وظاهره حتى بلغني أن من القضاة من كان يرد شهادة العدد من العدول لقول الحاسب الجاهل الكذاب أنه يرى أو لا يرى فيكون ممن كذب بالحق لما جاءه. ثم قال وفيهم يعني القضاة من لا يقبل قول المنجم لا في الباطن ولا في الظاهر لكن في قلبه حسيكة من ذلك وشبهة قوية من جهة أن الشريعة لم تلتفت إلى ذلك لاسيما إن كان قد عرف شيئاً من حساب النيرين واجتماع القرصين ومفارقة أحدهما الآخر بعدد درجات وسبب الإهلال والإبدار والاستسرار والكسوف والخسوف (10).
ثم قال: فإنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم والحج أو العدة أو الإيلاء أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب أنه يرى أو لا يرى لا يجوز والنصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كثيرة وقد أجمع المسلمون عليه ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلاً ولا خلاف حديث إلا أن بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غم الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب.. وهذا القول وإن كان مقيداً بالإغمام ومختصاً بالحاسب فهو شاذ مسبوق الإجماع على خلافه، فأما إتباع ذلك في الصحو أو تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم وقد يقارب هذا قول من يقول من الإسماعيلية بالعدد دون الهلال وبعضهم يروي عن جعفر الصادق جدولاً يعمل عليه وهو الذي افتراه عليه عبد الله بن معاوية وهذه الأقوال خارجة عن دين الإسلام وقد برأ الله جعفر منها ثم قال: وأنا إن شاء الله أبين ذلك وأوضح ما جاءت به الشريعة دليلاً وتعليلاً شرعاً وعقلاً. ثم سرد رحمه الله أحاديث كثيرة وقال: فهذه الأحاديث المستفيضة المتلقاة بالقبول دلت على أمور: أحدها أن قوله صلى الله عليه وسلم: « إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» هو خبر تضمن نهياً فإنه أخبر أن الأمة التي اتبعته هي الأمة الوسط أمة لا تكتب ولا تحسب فمن كتب أو حسب لم يكن من هذه الأمة في هذا الحكم بل يكون قد اتبع غير سبيل المؤمنين الذين هم هذه الأمة فيكون قد فعل ما ليس من دينها والخروج عنها محرم منهي عنه فيكون الكتاب والحساب المذكوران منهياً عنهما.
وقال رحمه الله: فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنا أيتها الأمة الأمية لا نكتب هذا الكتاب ولا نحسب هذا الحساب فعاد كلامه عليه السلام إلى نفي الحساب والكتاب فيما يتعلق بأيام الشهر الذي يستدل به على استسرار الهلال أو طلوعه ثم قال: لا نحتاج في أمر الهلال إلى كتاب ولا حساب إذ هو تارة كذلك وتارة كذلك -يعني تسعة وعشرين وثلاثين- والفارق بينهما الرؤية فقط ليس بينهما فرق آخر من كتاب ولا حساب كما سنبينه فإن أرباب الكتاب والحساب لا يقدرون على أن يضبطوا الرؤية بضبط مستمر وإنما يقربون ذلك فيصيبون تارة ويخطئون أخرى. وظهر بذلك الأمية المذكورة صفة مدح وكمال من وجوه: فمن جهة الاستغناء عن الكتاب والحساب بما هو أبين منه وأظهر وهو الهلال ومن جهة أن الكتاب والحساب هنا يدخلهما الغلط، وبعد كلام حول الحساب والجداول والتقويم والتعديل قال: ولهذا ما زال العلماء يعدون من خرج إلى ذلك قد أدخل في دين الإسلام ما ليس منه، إلى أن قال وما جاءت به الشريعة هو أكمل الأمور وأحسنها وأبينها وأصحها وأبعدها عن الاضطراب وذلك أن الهلال أمر مشهود مرئي بالإبصار. ومن أصح المعلومات ما شوهد بالإبصار. ثم ذكر أن الطريق لمعرفة الهلال الذي تتعلق به الأحكام مثل صيام رمضان الرؤية فقط بالسمع والعقل وسرد الأدلة على ذلك. أما أهل الحساب فقال عنهم رحمه الله بأن العقل يؤكد عدم انضباط حسابهم فذكر ما نصه: "وأما العقل فاعلم أن المحققين من أهل الحساب كلهم متفقون على أنه لا يمكن ضبط الرؤية بحساب بحيث يحكم بأنه يرى لا محالة أو لا يرى البتة على وجه مطرد وإنما قد يتفق ذلك. قال ولهذا كان المعنيون بهذا الفن من الأمم الروم والهند والفرس إلى أن قال: ومثل بطليموس الذي هو مقدم هؤلاء ومن بعدهم قبل الإسلام وبعده لم ينسبوا إليه في الرؤية حرفاً واحداً.
ثم قال: فتبين أن قولهم في رؤية الهلال وفي الأحكام من باب واحد ويعلم بأدلة العقل امتناع ضبط ذلك. ويعلم بأدلة الشريعة تحريم ذلك والاستغناء عما نظن منفعته بما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة وقال: والمعتمد على الحساب في الهلال كما أنه ضال في الشريعة مبتدع في الدين، فهو مخطئ في العقل وعلم الحساب، إلى أن قال عن الهلال: وقد يراه بعض الناس لثمان درجات وآخر لا يراه لاثنتي عشرة درجة. ولهذا تنازع أهل الحساب في قوس الرؤية (11) تنازعاً مضطرباً وأئمتهم كبطليموس لم يتكلموا بذلك بحرف لأن ذلك لا يقوم عليه دليل حسابي" أ.هـ.
أخي القارئ الكريم..
لقد لخصت لك ونقلت من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما بسطه في أكثر من مئة صفحة من كتاب الصيام (12) لنفاسته وليكف اندفاع بعض الكتاب الذين ذكروا أنهم اعتمدوا على بعض كلام شيخ الإسلام رحمه الله ومع تكريري إحسان الظن بهم إلا أني أقول لهم: "ما هكذا يا سعد تورد الإبل"، احرصوا على الانكفاف عما يثير ويشوش على الناس في عباداتهم وحسبكم سنة نبيكم المعصوم وهبوا أن شيخ الإسلام أو تلميذه ابن القيم أو خلافهما قال: إذا أكد الحساب عدم الرؤية أو حصل كسوف ترد الشهادة لذلك فهل قال من لا يرد قوله المسدد بالوحي النازل عليه من السماء صباح مساء ومع ذلك فإن الشيخين رحمهما الله لم يقولا ترد الشهادة لذلك وقد برأهما الله من الإقدام على رد الشهادة الصحيحة لمجرد الحساب الذي حكى عنه الإمام شيخ الإسلام ما قربت لك بعضه ونقلت لك خلاصته وقد بين أن القول بالحساب قول الطائفة الإسماعيلية ومن نحا نحوها من الفرق التي هي على شاكلتها وإليك بعض كلام الأئمة الأعلام من سائر المذاهب وسوف ألحق ذلك ببعض كلام علماء الفلك المعاصرين إن شاء الله ليعلم أن قدماء الفلكيين ومتأخريهم لم يدعوا قطعية حسابهم فكانوا بذلك منصفين.
قال الحافظ العراقي(13) على حديث « فإن غم عليكم فاقدروا له » وذهبت فرقة ثالثة إلى أن معنى الحديث قدروه بحساب المنازل ونُسب ذلك لمطرف بن عبد الله بن الشخير وابن سريج ورد ذلك الحافظ بن عبد البر وأنه لا يصح عن مطرف وأن من حكاه عن الشافعي فقد غلط، ونفى نسبته إليه وقال البغوي(14) على قوله صلى الله عليه وسلم: «فإن غم عليكم فاقدروا له » معناه التقدير بإكمال العدد ثلاثين يقال قدرت الشيء أقدره قدراً بمعنى قدرته تقديراً ومنه قوله تعالى: { فقدرنا فنعم القادرون } [المرسلات: 23].
وذكر قول أهل الحساب ورده ثم قال وذهب عامة أهل العلم إلى أنه لا يصوم ولا يفطر إلا برؤية الهلال أو بإكمال العدة ثلاثين.. أ. هـ.
ومثل(15) ذلك أي استنكار العمل بالحساب في عامة كتب فقه الشافعية والمالكية والأحناف والحنابلة قال ابن عابدين: "لا عبرة بقول المؤقتين في وجوب الصوم ولا يعتبر قولهم بالإجماع ولا يجوز للمنجم أن يعمل بحساب نفسه ثم ذكر كلام الكبسي في الحساب وهجنه وأن متأخري أصحابه ردوه عليه كابن حجر والرملي وغيرهم ونقل عن ابن دقيق العيد أن الحساب لا يجوز الاعتماد عليه. وفي شرح مسلم للأبي والسنوسي على قوله صلى الله عليه وسلم فاقدروا له قال لا يصح أن يكون حساب المنجمين لأنه حدس وتخمين".
وروى(16) ابن نافع عن مالك في الإمام الذي يعتمد الحساب أنه لا يقتدي به ولا يتابع، ونقل في شرح المرشد عن القرافي أنه لو كان إمام يرى الحساب فأثبت به الهلال لم يتبع لإجماع السلف على خلافه ونقل ابن عرفة إنكاره وعن ابن العربي أيضاً.
وفي شرح رسالة ابن أبي زيد(17) على قوله فإن غم الهلال فيعد ثلاثون يوماً من غرة الشهر الذي قبله ثم يصام وكذلك في الفطر. ظاهر كلامه أنه لا يلتفت إلى كلام المنجمين وهو كذلك ثم قال: وقال ابن الحاجب ولا يلتفت إلى قول المنجمين اتفاقاً وسئل عليش عن رجل في زمانه اعتمد على حسابه في ثبوت رمضان وشوال ولم يعتبر رؤية الهلال بالبصر أهو ضلال فقال رحمه الله: نعم هو ضلال تحرم موافقتهم فيه ويجب إنكاره والنهي عنه حسب الإمكان إذ هو هدم للدين ومصادم لحديث سيد المرسلين ثم نقل الإجماع على أنه لا يجوز لأحد أن يعّول على صومه وفطره على الحساب ونقل عن ابن رشد الجد الإجماع على ذلك.. أ. هـ(18).
وفي شرح الزرقاني والشرح الصغير أيضاً أنه لا يثبت دخول الشهر بقول الحاسب وأن نفيه من باب أولى لا بحق نفسه ولا بحق غير وقال قبله الأبي في شرح مسلم (19) على قول النبي صلى الله عليه وسلم: « إنا أمة أمية...إلخ». لم يصنع ذلك لأجل أنهم لا يكتبون ولا يحسبون لأنهم لا يجهلون الثلاثين والتسع والعشرين وإنما وصفهم بذلك سداً لباب الاعتداد بحساب المنجمين الذي تعتمده العجم في صومها وفطرها وفصولها ومثل ذلك قال السنوسي في شرح مسلم أيضاً.. أ. هـ.
وقال العلامة سليمان الجمل(20) الشافعي عند قول زكريا: يجب صوم رمضان بإكمال شعبان ثلاثين يوماً، فهم من كلامه عدم وجوبه بقول المنجم بل لا يجوز. قال ولو دل الحساب القطعي على عدم الرؤية ففيه اضطراب للمتأخرين، والراجح العمل بشهادة البينة، وقال لو دل الحساب على عدم الرؤية وانضم إلى ذلك أن القمر غاب الليلة الثالثة على مقتضى تلك الرؤية قبل دخول وقت العشاء -يعني لم يعمل بالحساب- لأن الشارع لم يعتمد الحساب بل ألغاه بالكلية وهو كذلك.. أ. هـ. وقال أيضاً لأن الشارع إنما أوجب علينا الصيام بوجود الرؤية لا بوجود الشهر وقال(21) على قول زكريا أو ثبوتها في حق من لم يره..إلخ. شمل كلامه ما لو دل الحساب على عدم إمكان الرؤية وانضم إلى ذلك أن القمر غاب الليلة الثالثة على مقتضى تلك الرؤية قبل دخول وقت العشاء لأن الشارع لم يعتمد الحساب بل ألغاه بالكلية وهو كذلك كما أفتى به الوالد رحمه الله.
وقال أيضاً: ولا يجوز اعتماد قول منجم وهو من يرى أن أول الشهر طلوع النجم الفلاني ولا قول حاسب وهو من يعتمد منازل القمر وتقدير سيره وفي فتاوى الرملي قريب من ذلك.
وقال ابن مفلح الحنبلي في الفروع في كتاب الصوم ومن صام بنجوم أو حساب لم يجزئه وإن أصاب ولا يحكم بطلوع الهلال بهما ولو كثرت إصابتهما ومثله في غير هذا الكتاب من كتب المذهب وما بسطه شيخ الإسلام ابن تيميه فيع كفاية عن بقية كتب المذهب الحنبلي.
ومن المتأخرين الإمام الصنعاني قال رحمه الله (22): أما حديث الفطر يوم يفطر الناس فما هو إلا إخبار بأنه يتحزب الناس أحزاباً ويخالفون الهدي النبوي فطائفة تعمل بالحساب -يعني الباطنية- حتى دخل عالم من العلماء في ذلك.. إلخ.
وقال (23): إن النص اشترط في لزوم الصوم أحد أمرين: إما الرؤية أو إكمال العدة إلى أن قال على قول النبي صلى الله عليه وسلم: إنا أمة أمية..إلخ. إنما وصفهم بذلك طرحاً للاعتداد بالمنازل وطرق الحساب الذي تعول عليه الأعاجم في صومها وفطرها وفصلها. انتهى نقلاً عن القاضي عياض ثم قال وأغرب ابن السبكي ثم نقل كلامه في الاعتداد بالحساب وأنه قطعي ورد عليه بقوله: قلت هذه القطيعة المدعاة إن أراد أنها قطعية عند الحاسب وسلمنا له ذلك فهو رجوع إلى قول بعض أكابر الشافعية أنه يختص بالحاسب وإن أراد أنه قطعي عند الحاسب وغيره فهذا باطل: ثم قال وما هذا وأشباهه إلا من شؤم علم الهيئة والنجوم الذي لم يأت عن الشارع حرف بصحته.
والشارع قد أو ضح أوقات العبادات وأناطها بأظهر الواضحات أفترد الشهادة التي أمر الشارع بقبولها بقول الحاسب.. إلخ. أ. هـ.
وقال أبو الطيب صديق خان (24) على قوله صلى الله عليه وسلم: « فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين» قال: ولم يقل فاسألوا أهل الحساب، والحكمة كون العدد عند الإغماء يستوي فيه المكلفون وقد ذهب قوم إلى الرجوع إلى أهل التيسير وهم من الفرق الضالة.. إلخ. أ. هـ.
وقال صاحب مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح(25) بعد أن ذكر أن المعول على الرؤية: وذهب قوم إلى الرجوع إلى أهل التسيير في ذلك.. إلخ. فرد كلامهم قال: وقال الباجي وإجماع السلف الصالح حجة عليهم وقال ابن بزيزة: هو مذهب باطل فقد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم لأنه حدس وتخمين ليس فيه قطع ولا ظن غالب.. أ. هـ.
أقول: لقد أوضحت بما فيه الكفاية إن شاء الله.
ولو ذهبنا ننقل كلام الفقهاء مذاهب علماء الأمصار في القديم لوجدنا أن القول برد الشهادة لقول الحاسب قول مردود كفانا السلف الصالح مئونة معاناة رده وحكوا لنا الإجماع على ذلك وما وجد من شذوذ بعد الإجماع فهو مردود لا يعول عليه ويكفي أنه طائفة باطنية عدوة للإسلام والمسلمين وتسعى لهدم الملة الحنيفية فلا يليق بطالب علم أن يغتر بها أو بقول من انخدع بالحساب لمصادمة ذلك للسنة الصحيحة وإجماع السلف رضي الله عنهم والواجب أن يسعنا ما وسعهم وأن لا نبتدع في ديننا ما لم يأذن به الله سبحانه ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يؤثر عن الصحابة الكرام رضي الله عنهم.
أخي القارئ الكريم..
هذه جمل من النقول أحببت تقريبها لك لتزداد اطمئناناً بهدي سلفك الصالح وأنهم ما كانوا غافلين ولكن منزلة سنة رسول الله عندهم كانت عالية لا يمكن أن تزاحم في نفوسهم أو تعارض بأقوال أهل الحساب والتسيير والتعديل وثقتهم بها وبقائلها الذي لا يرد قوله ولا يزاحم بآراء الآخرين جعلت لهم ذلك الفهم وتلك المنزلة عند الله وعند عباده المؤمنين وقد حرصت أن أنقل لك خلاصة الموضوع وإلا فإن بسط ذلك يستدعي مني ومنك وقتاً كثيراً ولكن حسبك من النور ما يضيء لك الطريق ويقيك العثار إن شاء الله. وإليك باختصار قول بعض الفلكيين المعاصرين وقد ألقيت نظرة على أكثر من عشرة مباحث في أكثر من عشرة كتب منها المترجم ومنها من ألفه عرب مسلمون ونحن بحمد الله مكتفون بما اكتفى به سلفنا الصالح من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عهدنا الحاضر وفي دولتنا السعودية الباقية ولله الحمد على منهج السلف ولكن ننقل لك من كلام المختصين بعلم الفلك المعاصرين ما يبين أن دعوى القطعية في الحساب كما لم تكن مسلماً بها عند حساب الأولين. فكذلك الحال عند المتأخرين.
يقول الأمين محمد أحمد كعورة (26): بعض العوامل المؤثرة في حركة القمر:
1. التغيير في المدار الإهليجي للقمر دورياً أي حوالي 31.8 يوماً.
2. التفاوت وهو تأثير يعجل بظهور الهلال والبدر قبل ميعادهما ويؤخر نصف القمر.
3. التغير في بُعد الأرض عن الشمس وبالتالي في بُعد القمر عن الشمس ولذا تتأثر قوة جاذبية الشمس المؤثرة على القمر.
4. التغير في تلاقي مدار القمر مع مدار الشمس.
5. التغير في زاوية ميل القمر.
ونتيجة لهذه العوامل والتأثيرات تصبح حركة القمر والأرض والشمس معقدة للغاية لدرجة أن مواقع هذه الأجرام بالنسبة لبعضها البعض لا تتكرر أبداً. ولذا كان من المستحيل وضع تقويم مضبوط للسنة القمرية لأن الشهور القمرية تختلف من سنة لأخرى.
إن متوسط مدة الشهر القمري هي تسعة وعشرون يوماً ونصف اليوم ولكن نتيجة لما ذكرنا عن عوامل التأثيرات فإن زمن الدورة قد يزيد أو ينقص 13 ساعة. وبناء عليه يختلف مولد الأهلة من شهر لآخر فقد يظهر الهلال بعد 29 يوماً أو بعد 30 يوماً وكما ذكرت فلا أعتقد أن هناك قاعدة يرتكز أو يعتمد عليها في معرفة عدد أيام الشهور القمرية وإن الاعتماد الأساسي لهو على الرؤية.
إن الشهور القمرية تلعب دوراً كبيراً في حياة المسلمين. فشهر رمضان المكرم والحج والأعياد تعتمد على مولد القمر وأعتقد أنه من واجب المسلمين أن يهتموا أكثر بدراسة حركة القمر ورصد الأهلة بالطرق الحديثة أي رؤيتها بالمنظار أو المجهر الحديث.
رؤية الهلال: كثيراً ما اختلفت الدول الإسلامية في بداية ونهاية شهر رمضان بل إن رؤية هلال شهر رمضان أصبحت من المشاكل المزمنة التي لم يجد لها العالم الإسلامي حلاً بعد، والسبب الأساسي في ذلك هو ما سبق أن ذكرت من أن حركة القمر معقدة للغاية ويكاد يكون في حكم المستحيل وضع تقويم مضبوط للشهور العربية لأن موقع الأرض والقمر والشمس لا يتكرر في فترات منتظمة.
ثم قال: إن الحل في رأيي لهذه المشكلة التي أساء الاختلاف فيها إلى سمعت العالم الإسلامي هو الآتي:
أن يعتمد المسلمون على الرؤية وذلك يتماشى مع الدين كما جاء في الحديث الشريف.. إلخ هذا بعض كلام الكاتبين عن القمر وحالة إبداره وإسراره وإهلاله في العصر الحديث بعد تطور هذا العلم واختراع المراصد الدقيقة والأجهزة الفائقة والكواكب الدوارة في محيط الأرض أو خارج محيطها وهو يتوافق مع كلام حذاق الحساب المتقدمين كما مر بك في ثنايا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره وبهذا وأمثاله من مواقف علماء الشريعة وعلماء الحساب تعلم أيها القارئ عظيم لطف الله بنا وسابغ فضله علينا إذ لم يجعل ركنين من أركان الإسلام مربوطاً بحساب فيه لدى أهله من الاضطراب ما مر بك مع الجزم باستحالة وضع تقويم دقيق ثابت لحصول التغيرات الفلكية في أماكن القمر مما سبقت الإشارة إليه وما لم أذكره أكثر من ذلك (27).
أخي القارئ الكريم:
إن الكتابات باستحالة الرؤية أو بحتميتها أو احتمالها للقطع بوجود القمر في الأفق بناء على نتائج الحساب أو عدم وجوده قد ظهر أنه أمر تخرصي تخميني. أما الوجود القطعي فهو ما أخبر به الشارع في كتابه أو على لسان رسوله أو شاهده الناس مشاهدة تنفي الشك. ولقد مررت على كلام كثيرين من أهل العلم فوجدته لا يشير إلى القطعية بحال إلا من شذ وقد رد عليه علماء مذهبه وغيرهم قديماً وحديثاً والله يعفو عنا وعنه ولقد اطلعت أيضاً على نتائج مجالس فقهية في مؤتمرات وجامعات وكنت شاركت في بعضها ولم يكن لدى أحد من هذه المجالس أي اعتبار لقطعية الحساب وأن الشهادة ترد لأجله. وقد مر بك أسماء علماء وتركت كثيرين جداً وحسبك أن أعداداً من فحول أهل العلم كابن منذر وابن عبد البر وابن رشد الجد والباجي وابن تيمية وسواهم حكوا الإجماع على عدم اعتبار الحساب في إثبات الأهلة وحكموا بشذوذ من خالف في ذلك. إن محالة حمل السنة على الحساب محاولة تعسفية وجور في الشريعة وخروج عن هدي المسلمين كما أن العزم على عدم الأخذ بالشهادة إذا خالفها الحساب أمر له خطورته على دين الشخص فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاعتماد على الرؤية ونهى عن الاعتماد على غيرها بقوله: « صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته». وقوله عليه السلام: « لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه » أيليق بنا أن نقول بلسان الحال أو المقال "لا "وقد قال ربنا محذراً من مخالفه أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور:63] أليس الله أعلم بمصالح عباده؟ أليس رسوله عليه السلام بيّن للناس ما نزل إليهم من ربهم أكمل بيان ولم يترك أمراً دون ذلك إلا وأعطى عنه علماً حتى جعل الناس في جلية من أمرهم فكيف يعقل أن يترك أمراً يتعلق بركنين من أركان الدين ويجعله في حال غير ثابتة: تارة بالهلال، وتارة بالحساب إذا علموا. ثم إن قل علمهم عادوا لأمر الرؤية لأن هذا لا زم القول فيكون المسلمون في تخبط مستمر في دينهم. وشرع الله يتنزه عن مثل ذلك ويجب على حملته تنزيهه وأخيراً أوجه القول لمن كتبوا معترضين على إثبات الرؤية وقد بلغني ولم أتحقق أن بعضهم كان في عام صائماً يوم أفطرنا ومفطراً يوم صمنا بناء على ظنه أن القمر لن يطلع في الأفق والله أعلم بذلك لكنها إن صحت زلته وأي زلة لما فيها من المشاقة التي قال الله عنها: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } [النساء:115].
إذ أن رفض الأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مشاقة ولو كان الشخص يرى أنه على حق إذ لو كان يشاق مع علمه بأنه على خطأ لكان ذلك كفراً والعياذ بالله وحاشاهم أن يكونوا فيما كتبوا كذلك. لكنها الثقة بأهل الاحتساب والاغترار بهم والانخداع بعض ما يدركه أحدهم من علم الحساب وعدم الخبرة بمسالك البحث ومقاصد الشريعة أو لأمر آخر والله أعلم بالنيات ولكن سرعان ما تنكشف الأمور وتتجلى الحقائق ليبدو الشخص على حقيقته. ثم إني أقول عاتباً على الكاتبين والصحافة والمسئولين عنها هلا إذا كان الحديث يتعلق بعامة المسلمين في الداخل والخارج هلا تفاهمتم مع أهل الشأن؟ هل صددتم عن ذلك؟ أو رفض طلبكم أو امتنع طالب العلم المسئول عن الإيضاح عما كان أشكل؟ أم تصورتم بعلمائكم أو بنا يا إخوانكم تبلداً وعدم غيرة على شعائر الدين؟ أظننتم أنكم بمثل هذه الكتابات أو بإفساح الصدور لها في صحفكم قد ساعدتم على التمسك بالشريعة والعقيدة وجمعتم قلوب الناس على أمر واحد وموالاة حميدة تدفع عن بلادكم كل دخيل وتجمع القلوب على التعاون على البر والتقوى وتجعل العمل في حدود منهج السلف. لقد كان جدير بكم وبالمسئولين عن الصحافة التروي قبل الولوج من باب فيه ضيق وحرج وبلبلة، وصراطه مزلة قدم، وكان من حق إخوانكم عليكم أن لا تنسبوهم إلى الجهل أو الاستهتار بشعائر الدين لأن هذا من لازم الكتابات سواء منها ما كان هذا العام وما كان منها في أعوام مضت. إن طلبة العلم ما سكتوا عن الرد لعدم وجوده عندهم ولا لأن الموضوع ليس من الأهمية بمكان ولكن كان الظن أن يستدرك الكاتب على نفسه ويتراجع عن النزول إلى هوة سحيقة فيعدل عن الاكتفاء بمن لهم في هذا الأمر مجال الاختصاص وإن رأى أن عنده ما ليس عندهم أرشدهم إليه وتعاون معهم على البر والإصلاح أو أن تتراجع الصحيفة نفسها وتمتنع من فتح صفحاتها للتشكيك وزرع الريبة في نفوس العامة. لأن لذلك آثاره الضارة على المجتمع كما كان الظن أن يتنبه لذلك من لهم النظر في أمر الصحافة.. أقول:
إني عتبي على أولئك وهؤلاء وقديماً قيل -ويبقى الود ما بقي العتاب- إن الدخول في أمر عام يتعلق بالعبادة التي يخاطب بها عموم الأمة في كل مكان وعلى مختلف مستوياتهم في العلم بمثل ذلك التشكيك والإقدام على الجزم بخطأ الناس في عملهم يثير استفهامات كثيرة ويبدي في الأذهان ويعيد ويحمل على البحث عن المقاصد وما وراء هذه الكتابات ورحم الله امرأً أعان على الخير أو كف نفسه عما لا يعنيها. إن الإثارة والتعلق ببعض العلوم والفرح بها يرتب أخطاراً كبيرة وبلاء عظيماً وربما أثر على نفس الإنسان وعلى موقفه من عبادته فلا بد من اتهام الرأي أو مراجعته والتشاور وسؤال من له علم أو عليه مسؤولية قبل تجشم الموضوع بما يثير توجساتٍ نحو من أثار تلك الزوبعات وهل وراءه من يدفعه؟ إذ إن تلك المواقف تدعو لذلك وتحمل على التساؤل عن الكاتب وأفكاره والصحيفة ومنهجها ودوافعها. ومع ذلك فإننا نحسن بهم الظن ونتمنى لهم التبصر والبصيرة ولنا كذلك، إذ الفقه في الدين والبصيرة فيه أعظم حصيلة يدركها المرء في هذه الحياة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث المتفق عليه: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين»، ومن أراد الله به الخير فماذا يفوته بعد ذلك إذ الفقه في الدين كنز عظيم ونور يهتدي به المرء عند اختلاط الآراء واختلاف الأفهام نسأل الله أن يجعلنا وإخواننا من هؤلاء.
بقي أن أشير إلى أن العلماء لا يرون أي مانع من الأخذ بالرؤية عن طريق المرصد أو بالآلات الخاصة مع الأفراد أو الجماعات وبأي طريقة وإنما المهم أن تتحقق الرؤية البصرية ومع ذلك فلا يجب التكلف والتمحل ما دام أن رسولنا صلى الله عليه وسلم ندبنا إلى التيسير وحذرنا من التعسير والتنفير فقال في الحديث الصحيح: « إنما بعثتم ميسرين » وقال لمعاذ وأبي موسى رضي الله عنهما: «يسرا ولا تعسرا » وحذر من الاختلاف وبين أن الفطر يوم يفطر الناس والصوم يوم يصومون والأضحى يوم يضحون ومن هذا التوجيه العظيم أخذ أهل العلم رحمهم الله كثيراً من أحكام التيسير وفرعوا على ذلك صوراً عديدةً ليس المقام مقام ذكرها ولا شك أنه قد لا يرضي هذا الموقف من أهل العلم رضي الله عنهم بعض المتعالين ولكن عذرهم قائم كما قال الخليل:
أو ما في معناه.
وأخيراً.. أرجو أن أكون قدمت للقارئ الكريم نبذاً مفيدة ونصبت له مناراً وعلامات يهتدي بها وأرجو من الله أن نكون جميعاً من أهل الحق والإنصاف الذين يفرحون إذا أرشدوا لطريق الصواب: { وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَىٰ صِرَاطِ الْحَمِيدِ } [الحج:24].
وفي الختام..
فإن اتخاذ نتائج الحاسبين وحصول الكسوف والخسوف مفيداً علماً قطعياً في إثبات الأهلة أو نفيها وبناء الأحكام الشرعية عليها تقول على الله وعلى رسوله والمؤمنين بغير علم وما هو إلا محاولة الظهور بمظهر التنور وعدم الجمود على ما قاله الأسلاف فهلا كان الظهور بما يقدم للأمة من حلول المشاكل الاقتصادية أو التقدم في ميادين طبية أو في مخترعات ترفع من شأن الأمة علمياً كالذي فعل الغرب والشرق المتقدمان في هذا المجال مما يعود على أمتنا بالعز والسؤدد ويغنيها في مجال التصنيع عن الأمم الغربية والشرقية فهذا أجدى.. والله المستعان وهو الهادي إلى سواء السبيل.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
ــــــــــــــــــــــــــــ
*سبق نشر هذا البحث في مجلة البحوث الإسلامية في عدد 27 عام 1409 هـ.
(1) وهي قليلة جدا أعني التعليقات وذلك لضيق الوقت عندي حيث لم يتسع للبسط والزيادة إلا فيما تدعو إليه الحاجة.
(2) صحيح البخاري (الفتح ج 4 ص 122).
(3) صحيح البخاري (الفتح ج 4 ص 127).
(4) نقلت أحاديث صحيح مسلم وكلام النووي عليها من طبعة قديمة في أواخر القرن الثالث عشر قبل تطور فن الطباعة وهي نادرة الوجود الآن لكنها التي عندي في مكتبتي في الطائف ولم يتسع لي الوقت لمراجعتها في الرياض.
(5) صحيح مسلم بشرح النووي ج 2 ص 73، 1283هـ.
(6) هذه رواية عن أحمد رحمه الله والرواية الأخرى كقول الجمهور وأنه لا صوم ولا فطر إلا برؤية أو إكمال العدد وحكى شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذا هو الصحيح من مذهب أحمد وهو المنصوص عنه، أنظر الإنصاف ج3 ص269.
(7) صحيح البخاري (الفتح ج 4 ص 123).
(8) كمطرف بن عبد الله بن الشخير أحد التابعين وقد شكك الإمام الحافظ أبو عمر عبد البر بنسبة ذلك القول لمطرف رحمه الله كما حكى رحمه الله الإجماع على خلافه.
(9) إن من يقرأ كلامه رحمه الله في هذه المقدمة في الجزء 25/126 وبعدها يجد لذة وشعوراً بهيبة العلم وسموا أدب العلماء مع الشريعة فعليك أيها القارئ بالرجوع إليه والتأمل في معانيه.
(10) فتاوى ابن تيمية، ج25 ص (126) وما بعدها وفيها كلام نفيس وإيضاح نادر النظير ورد على من تعلق بالحساب بأبلغ كلام وأدق عبارة، ولم أحدد الصفحات ليقرأ من أراد الرجوع إلى كلام شيخ الإسلام كامل أطراف البحث لما فيه من فوائد عظيمة.
(11) قوس الرؤية هذا قوس وهمي والدرجات هذه درجات تقديرية يقطعها الكوكب في دورته. فالدورة الكاملة ستون وثلاثمائة درجة ونصفها ثمانون ومئة.
(12) فتاوى ابن تيمية ج 25، كتاب الصيام، ط حكومة المملكة العربية السعودية.
(13) الحافظ العراقي، طرح التثريب، جـ 4 ص 112.
(14) البغوي في شرح السنة، جـ 6 ص 231.
(15) البغوي في شرح السنة، جـ 6 ص 233.
(16) حاشية الرهوني، جـ 2 ص 342.
(17) شرح رسالة ابن أبي زيد، جـ 1 ص 291.
(18) من فتح العلي المالك، كتاب الصيام.
(19) شرح مسلم، جـ 3 ص 222.
(20) سليمان الجمل في حاشيته على شرح منهج الطلاب لزكريا الأنصاري، جـ 2 ص 304.
(21) سليمان الجمل في حاشيته على شرح منهج الطلاب لزكريا الأنصاري، جـ 2 ص 306.
(22) الصنعاني، منحة الغفار على ضوء النهار، جـ 1 ص 423.
(23) حاشية العدة على شرح عمدة الأحكام، جـ 3 ص 328 وما بعدها.
(24) أبو الطيب صديق خان، عون الباري شرح صحيح البخاري، كتاب الصوم.
(25) مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، جـ 2 ص 209.
(26) الأمين محمد أحمد كعورة، مبادئ الكونيات.
(27) وبعد إعداد هذا البث اطلعت على أكثر من عشرة كتب أخرى تختص بعلم الفلك أعارتني إياها جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية كما صورت لي عدة صور لبحوث نشرت في مجلات خارجية وداخلية وليس في واحد من هذه الكتب أو واحدة من تلك النشرات ما يشير إلى قطعية الحساب أو رد الشهادة إذا خالفته وقد عرض عليّ أخيراً توصيات ومقترحات ندوة الأهلة والمواقيت والتقنيات الفلكية المعقودة في الكويت من 21 رجب إلى نهاية 23 رجب عام 1409 هـ وفيها ما يلي:
أولاً: التوصيات العلمية (المبادئ):
1. إذا ثبت رؤية الهلال في بلد وجب على المسلمين الالتزام بها ولا عبرة باختلاف المطالع لعموم الخطاب بالأمر بالصوم والإفطار.
2. يؤخذ في الحسابات المعتمدة في حالة النفي: "أي القطع باستحالة رؤية الهلال" وتكون الحسابات الفلكية معتمدة إذا قامت على التحقيق الدقيق (لا التقريب) وكانت مبنية على قواعد فلكية مسلمة وصدرت عن جمع من الفلكيين الحاسبين الثقات بحيث يؤمن وقوع الخلل فيها؟! فإذا شهد الشهود برية الهلال في الحالات التي يتعذر فلكياً رؤيته فيها ترد الشهادة لمناقضتها للواقع ودخول الريبة فيها.
ومن هذه الحالات التي تستحيل فيها الرؤية:
(أ) إذا شهد الشهود برؤية الهلال قبل الوقت المقدر له بالحساب الفلكي وهو وجوده في الأفق بعد غروب الشمس فلا عبرة بالشهادة على رؤية الهلال قبل حصول الاقتران. أو إذا تزامنت الشهادة مع الاقتران سواء كان الاقتران مرئياً كالكسوف أو غير مرئي مما تحدده الحسابات الفلكية المعتمدة وهذه الحالة نص عليها عدد من فقهاء المسلمين كابن تيمية والقرافي وابن القيم وابن رشد.
(ب) إذا شهد الشهود برؤية الهلال بعد الغروب في اليوم رؤي فيه القمر صباحاً قبل الشروق فلا عبرة بالشهادة على هذه الرؤية.
3. رؤية الهلال هي الأصل في إثبات دخول الشهر، ويستعان بالحساب الفلكي في إثبات الأهلة بالرؤية وذلك بتحديد ظروف الرؤية في اليوم والساعة والجهة وهيئة الهلال ولكن لا يكتفى بالحساب للإثبات بل لا بد من الشهادة المعتبرة على رؤيته فإن دل الحساب على إمكانية الرؤية وعدم الموانع الفلكية ولم ير الهلال وجب إكمال الشهر ثلاثين.. إلخ. ثم ذكر في التوصيات أشياء أخرى والذي أحب أن أعلقه على هذه التوصيات هو أن دعوى الرؤية هي الأصل دعوى مهدرة أهدرتها هذه التوصيات وجعلت الحساب مهيمناً عليها وهو الميزان الذي ترد إليه ولم أجد توقيعات على هذه التوصيات لأعلم من كان فيها من أهل العلم العارفين لقدر النصوص الشرعية وأدع التعليق على ما يتعلق برد الشهادة واعتماد الحساب فقد كفانا ذلك علماء الإسلام الذي سبق لك في هذا المقال قراءة كلامهم منهم شيخ الإسلام ابن تيمية ومن قبله من الحفاظ ومن أتوا بعده وإنما أحب أن تعيد النظر فيما سبق من كلامهم أو ترجع إلى مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية.. الجزء الخامس والعشرين ففيه ما يشفي العليل ويروي الغليل.
: موقع المسلم
جديد المواد
روابط ذات صلة
المادة السابق
| المواد المتشابهة | المادة التالي
|
تصميم وتطويركنون