المادة
وغلبته امرأة!
منير عرفه
( 1 )
في نهاية الدولة الأموية وبداية العباسية, جلست "أم سلمة" المخزومية، إحدى نساء العرب، وكانت توصف بالجمال، وقد ضاقت بها الأرض بما رحبت؛ فقد تزوجت مرتين قبل ذلك فمات كلاهما الواحد تلو الآخر..
فقد تزوجت "أم سلمة" من عبد الله بن الوليد بن المغيرة، فمات، فتزوجت بعده من عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك الأموي فمات... وأشفقت على نفسها من مستقبلها المجهول.
فدخلت عليها جاريتُها فرأتها مهمومة، فعلِمت ما تحمله من هموم فقالت لها: علامَّ يا سيدتي تجلسين هكذا؟! قالت "أم سلمة": إن الناس يرمونني بأبصارهم وكأنني أنا شؤم على من أتزوجه.
قالت الجارية: لا تجعلي هذا التفكير يسيطر عليكِ، فأنتِ شابة جميلة، تزوجتِ من أسياد العرب قبل ذلك، ولكِ من العزّ والجاه والمكانة ما لا يُنكر.
قالت "أم سلمة": إن الرجال يفرّون مني كأنني سببٌ في قتلهم.
قالت الجارية: لو جعلتِ تفكيركِ وذكائكِ في التركيز على الحصول على زوج من سادات القوم وكبراءهم، وأفضل من زوجيكِ السابقين لكان ذلك خيرٌ وأجدى.
وصوّبت "أم سلمة" نظرها إلى الجارية... وكان يدور في خلدها شيء واحد: كيف يخرج هذا الكلام العميق من هذه الجارية البسيطة؟
وبينما المرأتان تتجاذبان أطراف الحديث، إذ مرّ أمامهما رجلٌ جميلُ الطلعة، وسيمُ الشكل، مكتمل الصحة، موفورُ الفتوة.
فسألت عنه "أم سلمة" وعرفته. إنه أبو العباس عبد الله السفاح.. وأصبح تفكير "أم سلمة" منصبٌ في أمر واحد، ألا وهو الزواج من هذا الرجل الوسيم.. السيد في قومه.
نادت على جاريتها وأرسلتها له تعرض عليه أن يتزوجها، وقالت لجاريتها: هذه سبعمائة دينار قدميها له إذا اشتكى الفاقة، وكانت "أم سلمة" تمتلك المال الكثير من الحشم الجواهر وغير ذلك.
فأتته الجارية وعرضت عليه ذلك. قال أبو العباس: أنا فقير مدقع لا مال عندي، فدفعت الجارية إليه المال.
وما إن وصلت الأموال إلى يديه حتى أقبل إلى أخيها وطلب أن يزوجه منها. فزوّجه إياها، فأصدقها خمسمائة دينار. وأهدى من يلوذ بها مائتى دينار.
وزُفَّت إليه في ثياب موشاة بالجواهر، وحظيت عنده حتى أصبح لا يقطع أمرًا إلا بمشورتها حتى أفضت الخلافة إليه.
(2)
آلت الخلافة إلى أبي العباس السفّاح، وكانت ظروفًا قاسية جدًا، وشاركته "أم سلمة" تلك الظروف القاسية فلم تسقط الخلافة إلى أبي العباس سهلة أو عن أبيه الخليفة السابق، بل وصلت إليه على أنهار من الدماء من أحباب وأعداء..
وقد استطاع الأمويوّن أن يقتلوا والد أبي العباس وهو إمامهم إبراهيم، حيث قتلوه أبشع قتلة.
وتمخضت البلاد عن تغييرات كبيرة كان نتيجة ذلك تولى العباسيين الحكم، وكان أولهُم الخليفةُ العباسي الأول أبو العباس السفاح، الذي عُرف بحزمه وعزمه، وكثرة بطشه وسفحه لدماء أعدائه حتى دانت له البلاد والعباد.
وكان أبو العباس من الخلفاء القلائل الذين اكتفوا بزوجة واحدة، فقد اكتفى بـ"أم سلمة" عن العالمين وشغلته السياسة بأفراحها وأتراحها فلم يلتفت إلى عالم المرأة بما فيه، إلا في شخص "أم سلمة".
(3)
فلما كان ذات يوم فى خلافته، خلا به خالدُ بن صفوان فقال له: يا أمير المؤمنين، إني فكرت في أمرك وسعة ملكك، وقد ملّكت نفسك امرأةٌ واحدة، فإن مرضتْ مَرِضْتَ، وإن غابت غاب الأُنس عنك، وحَرَمْت نفسَك التلذذَ بظريفات الجواري والتمتع بما يشُتهى منهن، فإن منهن يا أمير المؤمنين الطويلة الغيداء، وإن منهن البضة البيضاء، والدقيقة السمراء، والبربرية العجزاء، ولكل منهن فتنة ومذاق.
وجعل خالد يطنب في الوصف، وكان إطنابه يزيد الموضوع حلاوة وطلاوة.
فلما فرغ من كلامه، قال أبو العباس: ويحك يا خالد! ما صكَّ مسامعي والله كلام أحسن مما سمعته منك، فأعد علي ّ كلامك، فقد وقع مني موقعا. فأعاده عليه خالد أحسن مما ابتدأ، ثم انصرف.
وبقى السفاح مفكرًا فيما سمع منه، فدخلت عليه زوجته "أم سلمة"، فلما رأته مفكراً مغتمّاً..
نظرت إليه نظرة الخبير بما يملك، ثم قالت: إني لأنكرك يا أمير المؤمنين، فهل أمر تكرهه أو أتاك خبر فارتعتَ له؟
قال: لم يكن من ذلك شيء..
قالت: فما قصتك؟
فجعل ينزوى عنها، فلم تزل به حتى أخبرها بحديث خالد..
فقالت: فما قلت لابن الفاعلة؟
قال لها سبحان الله! ينصحنى وتشتمينه؟
وخَرجَتْ من عنده مغضبةٍ، وأرسلت إلى خالد جماعة من الرجال الأقوياء وأمرتهم ألا يتركوا فيه عضوا صحيحاً...
(4)
قال خالد -يحكي ما حدث له-: انصرفتُ إلى منـزلي وأنا على السرور بما رأيت من سرور أمير المؤمنين وإعجابه بما ألقيت إليه، ولم أشكَّ أن صلته ستأتيني..
فلم ألبث حتى وصل إليَّ أولئك الرجال وأنا قاعد على باب داري، فلما رأيتهم قد أقبلوا نحوي، أيقنت بالجائزة والصلة، حتى وقفوا وبيد كل واحد منهم هراوةٍ، أهوى بها عليَّ، فوثبتُ فدخلت منـزلي وأغلقتُ البابَ عليَّ واستترت..
ومكثتُ أيامًا على هذه الحال لا أخرج من منزلي، ووقع في خلدي أني أُتيِتُ من قبل "أم سلمة"،
وطلبني السفاحُ طلبًا شديدًا، ولم أشعرْ ذات يومٍ إلا بقومٍ هجموا عليَّ.
وقالوا: أجِب أمير المؤمنين.
فأيقنت بالموت، فركبتُ وليس على لحم ولا دم..
(5)
فلما وصلت إلى الخليفة أَوْمَأَ إليَّ بالجلوس، ونظرتُ فإذا خلف ظهري باب عليه ستور قد أرخيت، وأحسستُ حركةً خلف الستور..
فقال: يا خالد! لم أركَ منذ ثلاث..
قلت: كنتُ عليلاً يا أمير المؤمنين.
قال: ويحك، إنك وصفتَ لي في آخر دخلة من أمر النساء والجواري ما لم يخرق مسامعي قط كلام أحسن منه، فأَََعِدْهُ عليَّ..
قلت: نعم يا أمير المؤمنين، أعلمتُك أن العربَ أشتقَّت اسم الضُّرَّة من المضرِّ، وأن أحدهم ما تزوج من النساء أكثر من واحدة إلا كان في جهد..
فقال: ويحك! لم يكن هذا في الحديث؟
قلت: بلى والله يا أمير المؤمنين، وأخبرتك أن الثلاث من النساء كأنهن القِدر يغلي.
قال أبو العباس: برئتُ من قرابتى من رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كنت سمعتُ هذا في حديثك.
قال: وأخبرتُك أن الأربع من النساء شرٌ دائمٌ لصاحبهن، يُشَيِّبْنَه ويُهرِمْنَه ويُسْقِمنه.
قال: ويلك؟ ما سمعت هذا الكلام منك ولا من غيرك قبل هذا الوقت.
قال خالد: بلى والله..
قال: ويلك! وتكذِّبني؟
قال خالد: قلت هامسًا: وتريد أن تقتلني يا أمير المؤمنين؟
قال الخليفة: مُرَّ في حديثك..
قال: وأخبرتك أن أبكار الجواري رجال، ولكن لا خصى لهنَّ، قال خالد: فسمعت الضحك من وراء الستر، فقلت: نعم
وأخبرتك أيضاً أن بني مخزوم ريحانة قريش، وعندك ريحانة من الرياحين، وأنت تطمح بعينك إلى حرائرِ النساء وغيرهن من الإماء.
قال خالد: فقيل لي من وراء الستر: صدقت والله يا عمّاه وبررت، بهذا حدثت أمير المؤمنين،
ولكنه بدل وغير ونطق عن لسانك.
فقال أبو العباس: مالك قاتلك الله وأخزاك وفعل بك وفعل!
(6)
رجع خالد إلى بيته وما صدق أنه نجا مما حدث معه..
يقول خالد: تركت الخليفة وخرجت من عنده، وقد أيقنت بالحياة.
فما شعرتُ إلا برسلِ "أم سلمة" قد ساروا إليَّ ومعهم عشرة آلاف درهم وتخت وبرذون وغلام.
وشاعت هذه القصة في مملكة أبي العباس السفّاح، فكانوا يعرفون أن أبا العباس غلب الجميع وغلبته امرأة.
: صيد الفوائد