الاقسام

المواد
بر الوالدين
بر الوالدين [1] صحيح البخاري ح (6522).
الحمد لله الذي قرن حق الوالدين مع حقه في كتابه، وتوعد أهل العقوق بالعذاب الأليم والعقاب، أحمده - سبحانه - وهو المستحق أن يحمد ويشكر.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له - على رغم من جحد به وكفر- وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الشافع المشفع في المحشر، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم على الأثر..
أما بعد:
أيها الناس، اتقوا الله حق التقوى وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى واعلموا - رحمكم الله - أن بر الوالدين وصلة الأرحام سبب لكل خير عاجل في الدنيا وآجل في الآخرة، وأن عقوقهما وقطيعتهما موجبان لسخط الله وعذابه في الدنيا والآخرة، فقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟: الإشراك بالله وعقوق الوالدين)[1]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (لعن الله العاق لوالديه)[2]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: (كل الذنوب يؤخرها الله ما شاء منها إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإنه يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات)[3]، يعني العقوبة في الدنيا قبل يوم القيامة، قال كعب الأحبار - رحمه الله -: إن الله ليعجل هلاك العبد إذا كان عاقًا لوالديه ليعجل له العذاب وإن الله ليزيد في عمر العبد إذا كان بارًا بوالديه ليزيده برًا وخيرًا. وقد بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أركان الإسلام الخمسة التي لا يكون الإنسان مسلمًا إلا إذا جاء بها وهي: الشهادتان وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت للمستطيع، قال ابن عباس - رضي الله عنهما - ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث لا تقبل واحدة منها بغير قرينتها إحداها قوله تعالى: ﴿ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ﴾ [محمد: 33] فطاعة الله لا تقبل إلا بطاعة الرسول، الثانية قوله: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ﴾ [البقرة: 43] فمن صلى ولم يزك لم يقبل منه، والثالثة قوله تعالى: ﴿ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ ﴾ [لقمان: 14]، فمن شكر الله ولم يشكر لوالديه لم يقبل منه، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -: (رضا الله في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما)[4]، ومن عقوق الوالدين أن لا يطيعهما فيما أمراه به وأن لا يبر بقسمهما إذا حلفا عليه وأن لا يعطيهما ما سألاه، وأن يخونهما إذا أئتمناه، وهذا جزء يسير من عقوقهما، وقد سمعت أخي المسلم قصة علقمة الذي منعه بر زوجته ومعصية أمه أن ينطق لا إله إلا الله عند الموت والفراق من الدنيا.
فيا عبد الله:
أحسن إليهما كما أحسنا إليك وكما أمرك الله بقوله: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [الإسراء: 23] واعلم يا أخي أنهما السبب في وجودك، وقد تكبدا العناء والمشقة في تربيتك حتى صرت أقوى منهما، وقد ضعفا فاحتاجا لبرك فأوف لهما سلفهما وأحسن إليهما كما أحسنا إليك واعلم أن الجنة تحت أقدام الأمهات، ورد ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال - صلى الله عليه وسلم -: (الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فاحفظ ذلك الباب أو ضيعه)[5].
والحمد لله رب العالمين.
---------------------------------
[2] المستدرك على الصحيحين (7254).
[3] المستدرك على الصحيحين (7263) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
[4] سنن الترمذي (1899) وصححه الألباني.
[5] المستدرك على الصحيحين (2799) قال الذهبي في التلخيص: صحيح.
بر الوالدين
الحمد لله الذي أمر بالبر ونهى عن العقوق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبدالله وسوله....
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وحافظوا على فرائض الإسلام ولا تتعدوا حدوده ألا وإنه من أعظم الفرائض بر الوالدين، فهو عبادة عظيمة وعمل صالح يلحق أثره في الدنيا والآخرة، بر الوالدين قرين الأمر بعبادة الله تعالى: (( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا)) لا يتحقق شكر الله إلا بشكر الوالدين ((أن اشكر لي ولوالديك )) بر الوالدين من أحب الأعمال إلى الله مقدم على الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام، روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله.
بر الوالدين به تنال الراحة ويتحقق الأنس واللذة القلبية، بر الوالدين جنة الدنيا، بر الوالدين جهاد ومجاهدة وتغلب على رغبات النفس، يا من يريد رضا الله ويا من يطع في رضا الله عليك بالبر قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الترمذي والحاكم وصححه، مرفوعا من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما (( رضى الرب في رضى الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد )).
الله أكبر... هنيئا لمن كان بارا محسنا لوالديه، طوبى لمن كان بالبر موصوفا... هنيئا لك أيها الابن البار رضي الله عنك والله لو لم يكن في بر الوالدين إلا رضى الله لكان حريا بنا ألا نفرط ولا نقصر في برهما.
أيها المؤمنون:
من البر بالوالدين إلانة القول لهما واختيار أحسن الكلمات عند مخاطبتهما واللين والتلطف معهما وخفض الجناح لهما وعدم رفع الصوت عليهما، هذا ابن عون أحد السلف رحمه الله، نادته أمه، فأجابها، فعلا صوته صوتها، فندم على ذلك وأعتق رقبتين توبة إلى الله تعالى وكفارة لما فعل.
يا عباد الله: نحتاج إلى أن نعيد النظر في طريقة مخاطبتنا لوالدينا، وإعادة النظر في الكلمات التي نخاطبهم بها.
هذا نبي الله إبراهيم عليه السلام يخاطب والده المشرك ويقول: (( يا أبت... يا أبت )) لنبتعد عن كلمات التضجر والترفع عليهما ألم يقل لنا ربنا (( ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما)) قال بعض السلف: (( لو كان هناك أقل من الأف لنهى الله عنه )) ما أحوج الوالدين إلى أن يسمعا كلمات الحب والثناء والعطف والحنان والرحمة.
من الأولاد من يقول: لم أتعود، لساني لم يتعود على قول كلمات الحب ولعطف لوالدي ووالدتي، فيقال: العلم بالتعلم، حاول مرة ومرتين في أن تقول لوالديك كلمات طيبات ملؤها التقدير والحنان ومن ثم سيعتاد لسانك قولها.
ومن الألفاظ التي لا يناسب قولها عن الوالدين عندما يصف أحدهم والده ويقول: الشايب، ويصف والدته ويقول: العجوز، فدائما على لسانه يقول: الشايب والعجوز، وحينما يسأل غيره عن والديه يقول كيف الشايب والعجوز، وأظن أن هذه من الكلمات التي ينبغي تجنبها وخير منها أمي وأبي، والدي ونحو ذلك.
من البر يا مؤمنون: أن يكون الأبناء أذكياء في معرفة ما يحب الوالدان من لباس وطعام وشراب وكلمات وتصرفات وأماكن فيسعى الأبناء في تحقيق رغبة الوالدين من غير ما يطلبانها.
ومن الذكاء في البر أن يعرف الأبناء ماذا يكره الوالدان من لباس وطعام وشراب وكلمات وتصرفات وأماكن فيسعى الابناء في تجنب ذلك وتركه والابتعاد عنه.
ومما يذكر هنا من ما انتشر من عادة سيئة وهي (الانشغال بالجوال عند زيارة الوالدين)، فيحضر الابن او البنت بجسده وأما عقله وذهنه فمشغول، وحينئذ لا معنى للزيارة فهي جسد بلا روح، لا قيمة لتلك الزيارة لأنها جامدة لا حياة فيها.
وكم من أم وأب يتضايق من تلك العادة ولكن مشاعر الأمومة والأبوة تجعلهما لا ينهيان أبناءهما عن الانشغال بالجوال أثناء الزيارة والا فهما يتضايقان، ويريدان أن يمنحهما الأبناء الاهتمام بدل الانشغال بالجوال ونحوه.
إننا أحوج ما نكون إلى أن نراجع تصرفاتنا وأن نبادر في الاعتذار وإصلاح أخطائنا تجاه والدينا ونلتمس رضاهما، جاء رجل الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: جئت أبا يعك على الهجرة وتركت أبويَ يبكيان، فقال: ارجع عليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما)) رواه أحمد.
إخوة الاسلام: قد يحصل تقصير من الوالدين تجاه أولادهما ولكن هذا ليس مبرراً في التقصير في حقهما وليس مبرراً في عقوقهما فعلى أبيك ما حُمل، وعليك ما حملت من الواجبات، والله جل جلاله أمر ببر الوالدين وإن كانا كافرين )) وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا)).
والواجب الصبر على الوالدين، عن أبي هريرة قال: مرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبدالله بن أبي سلول وهو في ظل فقال: قد غبر علينا ابن أبي كبشة- يقصد رسول الله- فقال ابنه عبدالله: والذي أكرمك وأنزل عليك الكتاب لئن شئت لأتيتك برأسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، ولكن بُر أباك وأحسن صحبته )) رواه الطبراني.
أيها المؤمنون:
إذا تقدم العمر بالوالدين وبلغا مرحلة الضعف والشيبة وأرذل العمر هنا يحتاجان إلى بر يصحبه سعة صدر وصبر ومعاملة خاصة ورحمة وعطف وأن يروض الأبناء أنفسهم في طريقة التعامل مع كبير السن، ولذا خص النبي صلى الله عليه وسلم برهما في مرحلة الكبر بالذكر وأنه سبب لدخول الجنة روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رغم أنفُ ثم رغم أنفُ ثم رغم أنف قيل من يا رسول الله؟ قال: من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة ))
اللهم اجعلنا من الأبناء البررة اللهم وفقنا للقيام ببر والدينا وارزقنا أبناء بررة يا رب العالمين ويا أرحم الراحمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله..
أما بعد...
عباد الله: لا يمكن لأحد أن يكون كاملاً في بره بوالديه مهما كان عنده من حرص واهتمام ولو أمضى عمره كله في البر لأن حقهما عظيم جدًا. ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( لا يجزي ولد والدا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه )) رواه مسلم.
نسأل الله أن يتجاوز عن تقصيرنا في برنا بوالدينا.
عباد الله: بر الوالدين كما هو في حال حياتهما فهو كذلك واجب بعد موتهما بل هما أشد حاجة للبر بعدما أصبحا رهينين في قبريهما فالوالدان يتشوقان إلى دعوة صالحة وإلى عمل صالح يصل ثوابه إليهما. عن أبي أسيد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رجل يا رسول الله هل بقي من بر أبويَ شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم، الصلاة عليها، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما). رواه أحمد وأبو داود.
بل إن الوالد يرفع في الجنة المنازل العالية فيتعجب من ذلك ويقول أنى لي هذا؟ فيقال: باستغفار ولدك لك). رواه أحمد.
يا مؤمنون:
كلنا يريد الجنة.. كلنا يطمع في دخول الجنة أليس كذلك. إذا عليكم يا عباد الله ببر آبائكم وأمهاتكم فذاك طريق موصول للجنة قال عليه الصلاة والسلام: (( الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. ومعنى أوسط أبواب الجنة خيرها وأفضلها وأعلاها وأحسنها دخولا.
أتعرفون حارثة بن النعمان رضي الله عنه؟ وما هي ثمرة بره بأمه؟ استمعوا لعاقبة بره بأمه. روى النسائي وأحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((دخلت الجنة فسمعت قراءة فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا حارثة بن النعمان فقال رسول الله: كذلك البر، كذلك البر، كذلك البر، وكان أبر الناس بأمه)).
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا.. اللهم ارزقنا برهم أحياء وأمواتا.. اللهم تجاوز عن تقصيرنا في برهم.. اللهم ردنا إليك ردا جميلا.
اللهم اجعلنا من الأبناء البررة ولا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا اللهم إنا نعوذ بك من العقوق.. اللهم من كان حيا من آبائنا وأمهاتنا فمتعه بالصحة والعافية وزيادة الطاعة وفرج همه وغمه ومن كان ميتا فاغفر له وارحمه واجعل قبره روضة من رياض الجنة.
اللهم اجمعنا مع والدينا في جناتك جنات النعيم. وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين.
بر الوالدين
الحمد لله الذي أمرنا ببِرِّ الوالدين ونهانا عن عُقُوقهما، وقرَن حقَّهما بحقِّه سبحانه، والصلاة والسلام على نبي الرحمة، الذي أوصى بالوالدين، وعلى آله وأصحابه الكرام البَرَرة. أما بعد: فبِرُّ الوالدين سببٌ لكلِّ خيرٍ عاجل في الدنيا وآجل في الآخرة، وأن عقوقهما مُوجِب لسَخَط الله وعذابه في الدنيا والآخرة، وقد أمرنا الله ببِرِّهما في آيات كثيرة في كتابه؛ فقال سبحانه: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [النساء: 36]؛ أي: أَحسِنوا إلى الوالدين إحسانًا بكل ما تَستطيعونه من القولِ الطيب والأفعال الحسنة التي تُدخِل السُّرور إلى قلبيهما. وقال سبحانه: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 23، 24]. وفي الصحيحين عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم: أيُّ العمل أحبُّ إلى الله عز وجل؟ قال: ((الصلاة على وقتها))، قال: ثم أي؟ قال: ((بِرُّ الوالدين)) قال: ثم أي؟ قال: ((الجهادُ في سبيل الله))، فجعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم برَّ الوالدين أفضلَ من الجهاد في سبيل الله! وفي الصحيحين أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، مَن أحقُّ الناس بحُسْن صحابتي؟ قال: ((أُمُّك)) قال: ثم مَن؟ قال: ((ثم أمك)) قال: ثم من؟ قال: ((ثم أمك)) قال: ثم من؟ قال: ((ثم أبوك)). وإن رضا الله في رضا الوالدَين، وسَخَطه في سخطهما، فاللهَ اللهَ في بِرِّهما والإحسان إليهما، وليس البِرُّ تَرْك العُقُوق فقط، بل البِرُّ أعلى من ذلك، البر أن تُحسِن إليهما بكل ما تستطيعه، وأن تُصاحِبهما معروفًا ولو كانا سيئي الأخلاق، بل ولو كانا ظالِمَين لك، بل ولو كانا كافِرَين بالله، فحقُّهما لا يَسقُط عن أولادهما بحال أبدًا؛ قال الله سبحانه: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [لقمان: 14، 15]. إن حقَّ الوالدين عظيم، فيجب على كلِّ مسلم ومسلمة طاعة والديه واجتناب معصيتهما، وأن يُقدِّم طاعتَهما على طاعة كلِّ أحد من البشر، ما لم يَأمُرا بمعصية الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، إلا الزوجة فإنها تُقدِّم طاعةَ زوجها على طاعة والديها. والحذرُ كلُّ الحذر من نَهْرهما ورفْع الصوت عليهما، واحذَر من مقاطعتهما أو مُنازعتهما الحديث، واحذَر من العُبُوس عند لقائهما، بل تودَّد لهما وتَحبَّب إليهما، وابتَسِم في كلامك معهما، وتَواضَع لهما، واجلِس بين أيديهما بأدب واحترام. أيها المسلم، أَسرِع في تلبية ندائهما، وافرح إنْ أمراك بأمر مُباح، واحرِص على مساعدتهما في أعمالهما، وإن أمراك بأمر مُحرَّم فتلطَّف في الاعتذار لهما، وإياك أن تُحزِنهما أو تُزعِجهما بأي حال من الأحوال، وأَصلِح ذات بينهما، وعلِّمهما ما يَجْهلانِه من أمور الدين، وأمرهما بالمعروف، وانههما عن المُنكَر بمنتهى اللطف والإشفاق والرِّفق، واصْبِر عليهما إذا لم يَقْبلا، واحرِص على الجلوس معهما وإيناسهما بالحديث المُباح الذي يَستأنِسان به، واحرِص على مشاورتهما في أمورك، وحدِّثهما عن أحوالك وأخبارك، ولو بالهاتف إن كنتَ بعيدًا عنهما. أيها المسلم، احرص كلَّ الحرص على كثرةِ الدعاء والاستغفار لهما في حياتهما، وكذلك بعد موتهما، فأعظم هدية تُقدِّمها لهما بعد موتهما أن تدعو لهما وتَستغفِر لهما، وداوم على التصدُّق عنهما ولو بالقليل، ﴿ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 24]، وقل: ﴿ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ [النمل: 19]. اللهم وفِّقنا جميعًا للبِر بوالدينا والإحسان إليهما في حياتهما وبعد موتهما، اللهم اغفِر لآبائنا وأمهاتنا، وارحَمهما برحمتك يا أرحم الراحمين!
بر الوالدين
الحمد لله الذي أمرنا ببرِّ الوالدين ونهانا عن عقوقهما، سبحانه جعل رضاه في رضاهما وسخطه في سخطهما، وأشهد أن لا إله إلا الله، قَرَن شكرَه بشكرهما، فقال: ﴿ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [لقمان: 14]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله القائل: ((الجنة تحت أقدام الأمهات))، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن من سعادة الإنسان توفيقَ الله تعالى له وتيسيره لامتثال أمره وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعاه لما يُحيي قلبه، ويُنير بصيرتَه، وهذه الحياة تَحصُل بالاستجابة لداعي الله تعالى، وتقديم مراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم على نَفْسه، وهذا الذي يقتضيه إيمان المؤمن؛ لذا وجَّه الخطاب له في القرآن بقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ [الأنفال: 24]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36]. وإن من أعظم أوامر الله - عز وجل - لك أيها المسلم بعد التوحيد: بِرَّ الوالدين واجتناب عقوقهما، فللوالدين حقٌّ واجب يقوم به المسلم؛ تعبُّدًا لله تعالى ورِقًّا، فقد قرن حقَّهما بحقه، كما قرن طاعتَه تعالى بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكما قرن الزكاة بالصلاة، فلا تُقبَل واحدة من هذه الثلاث من دون الأخرى؛ قال تعالى: ﴿ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ ﴾ [لقمان: 14]، أمر الله تعالى بشكرهما بعد أن بيَّن ما تلقاه الأم من العناء والمشقَّة طيلة حملها وعند وضْعه ونموِّه، فالمسلم الشاكر الممتثِل لأمر الله تعالى يُقدِّر هذه الأمور قَدْرَها، ويُعطيها شيئًا من الحسبان، ويحتسبها في الميزان، قال - جل ثناؤه -: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ﴾ [الأحقاف: 15، 16]، فما أروعه من ثواب، وما أصدقه من وعد! وهو أن يعرف حقَّ والديه فيكون في عِداد أصحاب الجنة، وممن مُحيت عنه سيئاته، وقُبِل منه أحسن ما عَمِل، ورُزِق التوبة إلى الله تعالى، وكان من المسلمين طوعًا واختيارًا؛ رغبة فيما عند الله تعالى وهيبة منه وإكبارًا، وأن يعترف بنعمة الله تعالى عليه بطلب ما يُرضيه، وصلاح ذريَّته له، كما أصلحه الله تعالى لوالديه، وجمع بين شُكْر النعمة عليه وعلى والديه؛ لأن النعمة عليهما نعمة عليه. وقال تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ﴾ [لقمان: 14]، فالله - جل وعلا - يوصي بالوالدين، ثم يَذكُر السببَ المقتضي للوصية، وهو: ما تُلاقيه الأم من الأوجاع والآلام والصعوبات والتعب والنَّصب، في حالة الحمل والرضاع؛ لذا استوجب هذا الصنيعُ الشكرَ بعد الشكر لله تعالى؛ لأنهما السبب في إيجادك وفي حياتك حتى بلغتَ مَبلغَ الرجال، وبلغت سنَّهما، وصِرْت ولدًا مسؤولاً عن الأولاد بعدما كنت ولدًا مسؤولاً عنك أبواك، فهما في عنايتك منذ أن كنت نُطْفة في بطن أمك، أو طورًا من أطوار الحمل، وهما يُقدِّمان مصلحتَك على مصلحتهما، وراحتك على راحتهما، من عطف الوالدين وعدلهما، وهاك نموذجًا من ذلك، وهو: أن امرأة تُصدِّق عليها بتمرة، فشقَّتها بين بنتَيها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فانظر كيف آثرتْهما على نفسها، والأمثلة على كون الوالد يفدي الولد بنفسه كثيرة، فالآباء والأمهات أعظم المحسنين إحسانًا إلى الأولاد بعد الله تعالى؛ لذا كان حقهما أعظم الحقوق بعد حق الله عز وجل. وقد جمع الله حُكْمَ بِرِّهما وعقوقهما، وكيفيَّة ذلك ومتى يتأكَّد بِرُّهما في قوله تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 23، 24]، ومعنى ﴿ وَقَضَى ﴾: أمر وأوصى بعبادته واجتناب الشرك به، وكذا أمر وأوصى بالوالدين إحسانًا، والإحسان: كلمة تَشمَل كل ما يَسُرهما ويُرضيهما في غير معصية الله تعالى، وتجنُّب كل ما يُسخِطهما ويغيظهما وخصوصًا حالة الكِبَر؛ لأنه وقت ضَعْفهما، فيتأكَّد عليك أيها المسلم التوجه إليهما حال الضعف أكثر من حال القوة، كما قاما عليك حال الضعفِ حتى بلغت القوة، وانظر أخي كيف أدَّبك الله تعالى، فخُذْ بتأديب الله تعالى، وتَخلَّق بشرع الله تعالى، قال تعالى: ﴿ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ﴾ [الإسراء: 23]؛ أي: لا تُسمِعْهما قولاً سيئًا، ﴿ وَلَا تَنْهَرْهُمَا ﴾ [الإسراء: 23]؛ أي: لا يَبدُر منك إليهما فِعْلٌ قبيح؛ كما قال عطاء بن أبي رباح في قوله: ﴿ وَلَا تَنْهَرْهُمَا ﴾؛ أي: لا تَنفُض يديك عليهما، ولما نهاه عن القول القبيح أمره بالقول الحَسَن والفعل الحسن فقال: ﴿ وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ﴾؛ أي: ليِّنًا طيبًا حسنًا بتأدب وتوقير واحترام وتعظيم، ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ﴾ [الإسراء: 24]؛ أي: تَواضَع لهما بفِعْلك، ﴿ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 24]؛ أي: في كِبَرهما وعند وفاتهما وبعد وفاتهما، إلا إذا كانا كافِرَين فلا تَدْع لهما بالرحمة، ولا تَستغفِر لهما؛ قال تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 113، 114]. نزلت هذه الآية لما استغفر النبيُّ لأمِّه، وقد ماتت على الكُفْر، وقيل: لما أراد أن يستغفر لعمه أبي طالب الذي أبى أن يُسلِم فمات على كُفْره، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لأستغفرنَّ لك مالم أُنْهَ عنك)). ولكن مع الكُفْر صاحِبْهما في الدنيا معروفًا، ولا تُطِعْهما بالرجوع عن إسلامك وإيمانك أو في معصية الله تعالى، روي أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما أسلم امتنعت أمه عن الطعام والشراب، وقالت: لا آكل حتى ترجع عن دين محمد، فقال: إن شئتِ فكُلِي، والله لو كانت لك مائة نفس فخرَجتْ نفْسًا نفْسًا، ما رجعتُ عن ديني؛ فنزل قوله تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [العنكبوت: 8]. فاحذر أخي المسلم أن تجعل الإساءةَ إلى الوالدين مكانَ الإحسان، وعقوقهما مكان البِرِّ والإيمان، والجفوة والغِلْظة مكان العَطْف والشَّفَقة، والقول السيئ الأليم مكان القول اللين الكريم، والكُفْر بَدَل الشكر، والمعصية بدل الطاعة، وأن تُبدِّل الأب بالصديق، والأم بالزوجة، إن كنتَ تُريد العونَ من الله تعالى والعِتْق من النيران، والفوز بالجنان، فإن رضا الله تعالى برضا الوالدين، وسخط الله تعالى بسخط الوالدين، والوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئتَ فاحفظه، وإن شئتَ فأَضِعه، فالنظر إليهما طاعة، فما بالك بسائر البِرِّ والصِّلة وحُسْن الصُّحبة التي فضَّلها الرسول صلى الله عليه وسلم على الجهاد في سبيل الله عز وجل. جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((أبايعك على الهجرة والجهاد في سبيل الله أبتغي الأجر من الله تعالى، فقال عليه الصلاة والسلام: ((هل لكَ من والديك أحد حي؟))، قال: نعم، قال: ((فارجع إلى والديك فأَحسِن صُحبتَهما)). أيها المسلمون: اتقوا الله في آبائكم وأمَّهاتِكم، وعيشوا لهما في كِبَرهما وشيخوختهما مثلما عاشا لكم في صِغركم وطفولتكم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأحقاف: 15]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
بر الوالدين بين التطبيق والتهميش
لا أحد يستطيع أن يَنفي حقيقةَ التوازن النفسي الذي نعيشه، بغضِّ النظر عن الفطرة الإيمانية التي وجَّهَنَا إليها آباؤنا وأمهاتنا؛ فوجود الوالدين في الحياة ضرورة لا يمكِنُ الاستغناء عنها، مهما حصَلْنا على بديل لشغْل مكانتهم في قلوبنا، أو حتى في عقولنا؛ لأننا نفكِّر في أن وجود هذين العنصرين هو سبب كينونة ذاك الاستقرار العاطفي، حتى لو بلغْنا من العمر ما يجعلنا نكبر في فَهم كِيانهما الحيوي؛ حيث إن التقدُّمَ في السن لا يُعتبر ذريعة للانفصال أو الفِطام العاطفي، بل بالعكس نبقى دائمًا نستمدُّ ذاك الحنان والحب والاهتمام والخوفَ منهما على طول مشوار حياتنا؛ لذلك ونظرًا لهذا الفضل الكبير الذي خصَّه الله تعالى لهما كانت لهما المكانة العالية؛حيث إن رضا الله من رضا الوالدين؛ مِصداقًا لقوله تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴾ [الإسراء: 23]. لا شكَّ أنها مكانة مقرونة بمدى فَهمنا لهاتين الآيتين الكريمتين؛ لأن برَّ الوالدين يختلف من شخص لآخر، حتى طريقة هذا البر بأوصافه الجميلة ليست بالموحَّدة، على الرغم من أن القرآن الكريم أجمع في ألا نقول لهما: أفٍّ ولا ننهرهما، هذا الأف هو نقطة البداية للعقوق، فما بالك بالحركات والسلوكيات الأخرى؟ إذًا تطبيق هذا البرِّ يحتاج إلى التدقيق وَفْق حسابات معمَّقة، وردود أفعال مدروسة مسبقًا، وبإحكام عقائدي مضبوط بمعايير الاحترام والخوف والتبجيل لهما. أي فن هذا؟ ثم أي وصال حميمي منقطِع النظير لو لم يَحُث عليه الإسلام، ويُزيِّنه القرآن الكريم؟ أظنُّه موضوعًا لا تكفي الصفحات لشرح أبعاده وَفْق ما يريده الله - سبحانه وتعالى - ووَفْق إدراكنا للمعنى الحقيقي للبر. بالأمس كان جيل الإيمان القوي يعي جيدًا خطورة العقوق؛ فحرَصَ كل الحرصِ على التروي، ورَزانة العقل، وضبْط النَّفس في ألا يَبدُر أي فِعل قد يُسيء إلى الوالدين أحدهما أو كليهما، فكانت الخدمة المتواصِلة والطاعة الهادئة عنوانين رئيسين لمصطلح بر الوالدين، وإن صدَرت هفوةٌ، تأتي المبادرة السريعة لطلب الصفحِ والعفو. أما جيل اليوم، فسرعة الحركة الحياتية وضغْطها على عقل الابن أو البنت، تجعل منهما فردًا عصبيًّا، سريع الانفعال والرد على الوالدين، إذ لم تَعُد الضوابط الأخلاقية ميكانيزما لكبْح جِماح النفس حتى لا تفتح عليها باب العقوق، أضِف إلى ذلك غزو الإنترنت في عقول شبابنا وليس في البيوت فقط؛ مما جعل العلاقات غير المشروعة بديلاً لذاك الصدر الحاني للأم، وذاك الاحتواء العميق والرزين للأب، فأضحى التهميش سائدًا؛ بل متغلغلاً بقوة في فِكر شبابنا، حتى إن البر لم يجد له مكانتَه الحقيقية وسط كوم من مفارَقات العصر، أينما تَهافتت العولمة بمطارِق التكنولوجيا السريعة، وما أخشاه أن يتحوَّل الود للوالدين من فِطرة كائنة بداخل الروح إلى سلوك غير مترجَم بل دخيل على قِيم ديننا الحنيف. ترى أين بر الوالدين في هذا الزمن، بين التطبيق الفعلي له والتهميش؟ أم أن التهميش فرَض نفسه في قاموس الهُويَّة والأصالة، لكن يبقى التمسك بقيم العقيدة الإسلامية حصنًا منيعًا من اندِثار المفهوم الحقيقي والتطبيق الفِعلي لبر الوالدين.
وجوب بر الأم
الحمد لله الخلاَّق العليم، الرؤوف الرحيم؛ قذَف الرحمة في قلوب الأُمَّهات، حتى إن الدابَّة العَجماء لترفعُ حافرَها عن ولدها؛ خشية أن تطأه رحمةً به، نحمده على هدايته، ونشكره على رعايته، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ شرَع الدين لعباده، وقسم الحقوق بينهم، فأعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه؛ ﴿ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [النساء: 176]. وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله؛ زَارَ قبر أُمِّه، فبكى وأبْكَى مَن حوله، فقال: ((استَأذَنْتُ رَبِّي في أَنْ أستغفرَ لها، فلم يؤْذَنْ لي، واستأذنتُه في أن أزُورَ قبرَها، فأُذِنَ لي)). وما فعَلَ ذلك إلا قيامًا بحقِّها، وبِرًّا بها، وحُسن صُحبة لها، صلى الله وسلم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدِّين. أما بعدُ: فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه، واعرفوا ما عليكم من الحقوق لأدائها؛ فإن لله - تعالى - حقوقًا مَحضة كالعبادات، وحقوقًا مُتعلِّقة بوالدينا وقرابتنا وجيراننا، وعموم مَن نتعامل معه من الناس، أوْجَبَها علينا، فكانتْ من دينه الذي شرَعه لنا، ويوم القيامة يحاسبنا عليها؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ﴾ [الأنفال: 20]. أيها الناس، لا حقَّ على الإنسان أعظم وأكبر بعد حقِّ الله - تعالى - وحقِّ رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من حقوق الوالدين، تظاهرتْ بذلك نصوصُ الكتاب والسُّنة، وأخذ الله - تعالى - ميثاق من كانوا قبلنا عليه؛ ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [البقرة: 83]. وأوجبه - سبحانه - في شَرْعنا بأقوى صيغة، وأبلغ عبارة، وقَرَنه بتوحيده والنهي عن الشِّرْك به؛ ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [النساء: 36]، ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [الإسراء: 23]. فعبَّر عنه بصيغة القضاء التي هي من أقوى صيغ الأمر والإلزام؛ فإن قضاءَ القاضي نافذٌ، والله - تعالى - أحكمُ الحاكمين وأعدلُهم وأقواهم، بل جعل بِرَّ الوالدين من وصاياه التي وصَّى بها عباده؛ ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [الأنعام: 151]، ثم ختَمَها - سبحانه - بقوله: ﴿ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنعام: 151]. والأُمُّ مُقدَّمة على الأبِ في البِرِّ، ولها من الحقوق على الابن أكثر من حقوق أبيه عليه؛ لأن الشَّرْع المطهَّر جاء بذلك، ولأنها أضعفُ الوالدين، ولأنها الحامل والوالدة والمرضِع؛ ﴿ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ﴾ [لقمان: 14]، وفي آية أخرى: ﴿ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ﴾ [الأحقاف: 15]. وفي الْمَحْرميَّة قُدِّمَت الأم على سائر مَحَارم الرجل؛ ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 23]. ولا أحد من الناس أشدّ رحمة، ولا أكثر خوفًا من الأُمِّ على ولَدِها، وفي قصة إسماعيل وأُمِّه - عليهما السلام - تظهر رحمة الأُمِّ وشفقتها حين نَفِد ماؤها، وجَفَّ لبنُها، وخشيتْ على رضيعها، ولم تُطِق النظرَ إليه وهو يتألَّم من الجوع، فهامتْ في جبال مكةَ تبحث عن الماء، وكانتْ في كلِّ صعود وهبوط على الصفا والمروة تعود لرضيعها؛ لتطْمَئِنَّ عليه. قال ابن عباس يحكي قصتها: "فجعلتْ تشربُ من الشَّنَّة، ويَدِرُّ لبنُها على صَبيِّها؛ حتى لَمَّا فَنِي الماء، قالتْ: لو ذهبتُ فنظرتُ لعلِّي أحسُّ أحدًا، فذهبتْ فصعدتِ الصفا، فنظرتْ ونظرتْ، هل تحسُّ أحدًا؟ فلم تحسَّ أحدًا، فلمَّا بلغتِ الوادي، سعتْ وأتتِ المروة، ففعلتْ ذلك أشواطًا ثم قالتْ: لو ذهبتُ فنظرتُ ما فعَل - تعني: الصَّبِيَّ - فذهبتْ فنظرتْ، فإذا هو على حاله كأنَّه ينْشَغُ للموت، فلم تُقِرَّها نفسُها، فقالتْ: لو ذهبتُ فنظرتُ لعلِّي أحسُّ أحدًا، فذهبتْ فصعدتِ الصفا، فنظرتْ ونظرتْ، فلم تحسَّ أحدًا حتى أتَمَّتْ سبعًا، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فذلك سَعْي الناسِ بينهما))؛ رواه البخاري. وتظهر رحمة الأم وشفقتها في قصة أُمِّ موسى - عليه السلام - مع ابنها - حين وضعتْه في التابوت وألقتْه في الْيَمِّ، إذ أمرتْ أختَه بتتبُّع خَبره والسؤال عنه؛ ﴿ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ﴾ [القصص: 11]. وقد أخبرَ الله - تعالى - عن حُزن الأم بفقْد ولدها، فقال - سبحانه -: ﴿ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ ﴾ [القصص: 13]. وذكَّر الله - تعالى - موسى - عليه السلام - بهذه النعمة العظيمة حين جَمَع شملَه بأُمِّه وهو رضيع؛ ﴿ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ ﴾ [طه: 40]. فهذا هو قلب الأم، فويل ثم ويلٌ لِمَن فرَّق بين أُمٍّ وولدها بسبب خلاف بين الزوجين، وكثيرٌ من الأزواج يفعلون ذلك، ويفعله آباءُ الأزواج وآباءُ الزوجات وقرابتُهم؛ بدعوى حِفظ كرامة متوهَّمة، أو للحصول على مال، أو المطالبة بإسقاط نفقة الأولاد ما داموا عند أُمِّهم، أو نحو ذلك، فتكون الأم وأطفالها ضحايا هذه التصرُّفات الرَّعْناء، وتُحْرَم الأُمُّ منهم ويُحْرَمون منها، ولا سيَّما الأطفال والرُّضَّع، ويلتاعُ قلبُها عليهم، فلا تهنأ بنومٍ، ولا تتلذَّذ بطعام. نعوذ بالله - تعالى - من قلوب نُزِعَتْ منها الرحمة، فاسودَّتْ بالأحقاد، وكانتْ كالحجارة أو أشد قسوة، ولا رَحِم الله - تعالى - أزواجًا لا يرحمون أمهات أولادهم، ولا يرحمون أطفالهم حين فَرَّقوا بينهم وبين أُمَّهاتهم، وقد روى ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "كنَّا مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في سَفرٍ، فانطلقَ لحاجته، فرأينا حُمرة معها فرخان، فأخذنا فَرْخيها، فجاءتِ الحمرة فجعلتْ تَفرِشُ، فجاء النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((مَن فجَّعَ هذه بولدها؟ رُدُّوا ولدَها إليها))؛ رواه أبو داود. وكم فُجِعَتْ أُمٌّ مسلمة بأولادها حين حِيلَ بينها وبينهم؛ لأن أباهم طلَّقها أو هَجَرها!! وحين غضب موسى على هارون - عليهما السلام - لَمَّا عبدتْ بنو إسرائيل العِجل، وجرَّه بشعره، ذَكَّره هارون بأخوَّة الأُمِّ، مع أنَّ الأصل انتساب الولد لأبيه لا لأُمِّه؛ ﴿ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي ﴾ [الأعراف: 150]، وفي آية أخرى: ﴿ قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي ﴾ [طه: 94]، وما ذاك إلا استعطافًا له؛ لأنَّ الأُمَّ أشدُّ عطفًا، وأكثر رحمةً بالأولاد من الآباء. وتكلَّم عيسى في المهد مُخبرًا أنَّ الله - تعالى - أوصاه ببِرِّ أُمِّه مع فريضَتَي الصلاة والزكاة، فقال - عليه السلام -:﴿ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ﴾ [مريم: 31 - 32]. والأم أَولَى منَ الأبِ في البرِّ وحُسن الصُّحْبة، دلَّتْ على ذلك أحاديثُ عِدَّة؛ فروى أبو هريرةَ - رضي الله عنه - قال: "قال رجل: يا رسول الله، مَن أحقُّ الناس بحُسن صحابتي؟ قال: ((أُمُّك، ثم أُمك، ثم أُمك، ثم أبوك))؛ رواه الشيخان. وفي حديث آخرَ: ((إنَّ الله يوصيكم بأُمَّهاتكم ثلاثًا، إنَّ الله يوصيكم بآبائكم...))؛ رواه ابن ماجه. وفي حديث ثالث: ((أُوصي امْرأً بأُمِّه، أُوصي امْرأً بأُمِّه، أُوصي امْرأً بأُمِّه، أُوصي امْرأً بأبيه ...))؛ رواه أحمد. وقال معاوية بن حَيْدَة - رضي الله عنه -: قلتُ: يا رسول الله، مَن أَبَرُّ؟ قال أُمك، قلتُ: ثم مَن؟ قال: ثم أُمك، قلتُ: ثم مَن؟ قال: أُمك؟ قلتُ: ثم مَن؟ قال: ثم أباك...))؛ رواه أحمد. وبناءً على هذه الأحاديث المثبتة من أنَّ للأُمِّ ثلاثةَ حقوقٍ، وللأب حقًّا واحدًا؛ فإنه ينبغي للولد أن يصرِفَ ثلاثة أرباع بِرِّه لأُمِّه، وربعه لأبيه، وكثيرٌ من الناس يضعُف فِقْهُهم في ذلك. وعقوق الأم أشدُّ جُرمًا من عقوق الأب، وإن كان كلُّ العقوق جريمة، وقد نصَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - على أنَّ الله - تعالى - حرَّمَ علينا عقوقَ الأُمَّهات. وتجبُ صِلة الأُمِّ وبِرُّها، وحُسن صُحْبتها، ولو كانتْ كافرة، مع عدم طاعتها في المعصية؛ ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴾ [لقمان: 15]. وقالتْ أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما -: "قَدِمَتْ عليّ أُمِّي وهي مُشرِكة في عهْدِ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فاستفتيتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قلتُ: إنَّ أمي قَدِمتْ وهي راغِبة أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قال: ((نعم، صِلِي أُمَّكِ))؛ رواه الشيخان. نسأل الله - تعالى - أن يعلِّمنا الفقه في الدين، وأن يرزقَنا العمل به، وأن يُعيننا على برِّ والدينا والإحسان إليهما، وقد قال الخليل - عليه السلام -: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾ [إبراهيم: 41]. بارك الله لي ولكم! الحمد لله حمدًا طيِّبًا كثيرًا مبارَكًا فيه كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهُداهم إلى يوم الدِّين. أما بعد: فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه؛ ﴿ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [آل عمران: 131 - 132]. أيها الناس، مَن أراد عظيمَ الأجْر والثواب، فليعلمْ أنَّ الأُمَّ بابٌ من أبواب الجنة عريضٌ، لا يفرِّط فيه إلاَّ مَن حَرَم نفسَه، وبخس من الخير حظَّه، وقد تردَّد معاوية بن جَاهِمَة السُّلَمِيِّ - رضي الله عنه - على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثلاثَ مرَّات يسأله الجهاد، وفي كل مرة يقول له: ((وَيْحَكَ! أحَيَّة أُمُّك؟ قال: نعم يا رسول الله، قال: وَيْحَكَ الْزَمْ رِجْلَها؛ فَثَمَّ الجنةُ))؛ رواه ابن ماجه، وفي رواية لأحمد قال: ((الْزَمْها؛ فإن الجنة عند رِجْلِها))، وأخذَ منه بعضُ الصالحين تقبيلَ رِجْل الأُمِّ، فكان يقبِّل قَدَم أُمِّه كلَّ يوم، فأبطأ على إخوانه يومًا، فسألوه فقال: "كنتُ أتمرَّغ في رياض الجنة، فقد بلغَنا أنَّ الجنَّة تحت أقدام الأُمَّهات". ولَمَّا ماتتْ أم القاضي إياس، بكى فقيل: "ما يُبكيك يا أبا واثلة؟ قال: كان لي بابان مفتوحان من الجنة، فأُغْلق أحدهما". وروي عن أنس - رضي الله عنه - قال: "أتى رجل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: "إني أشتهي الجهاد، وإني لا أقدر عليه، قال: ((هل بَقِي أحدٌ مِن والديك؟)) قال: أمي، قال: ((في الطبراني: فأبل الله عذرًا في برِّها؛ فإنَّك إذا فعلتَ ذلك، فأنتَ حاجٌّ ومُعتمر ومُجاهد، إذا رضيتْ عنك أُمُّك، فاتق الله في برِّها))؛ رواه الطبراني، وحسَّنه العِراقي. وكان مذهبُ ابن عباس - رضي الله عنهما - أن برَّ الأُم أفضل الأعمال، وقال: "إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله - عز وجل - من بِرِّ الوالدة"، وهو مذهب جماعة من السلف. وقال ابن عمر - رضي الله عنهما - لرجلٍ عنده أُمُّه: "والله لو ألفتَ لها الكلام، وأطعمتها الطعام، لتدخُلَنَّ الجنة ما اجتنبتَ الكبائر". وقال محمد بن المنكدر - رحمه الله تعالى -: "بات أخي عمر يصلي، وبتُّ أغمز رجل أمي، وما أحب أن ليلتي بليلته". وقال هشام بن حسان: "قلتُ للحسن: إني أَتَعلَّم القرآن، وإن أُمي تنتظرني بالعشاء، قال الحسن: تعشّ العشاء مع أُمِّك تقرُّ به عينُها، أحبُّ إليّ من حَجة تحجُّها تطوُّعًا". وقال بشر بن الحارث - رحمه الله تعالى -: "الولد بالقُرب من أمه حيث تسمع أفضل من الذي يضرب بسيفه في سبيل الله - عز وجل - والنظر إليها أفضل من كلِّ شيء". فأين الناس في برِّ أُمَّهاتهم والعناية بهنَّ، والقيام على خِدْمتهنَّ من هذه الأحاديث والآثار العظيمة في حقِّ الأُمِّ وفضيلة برِّها؟! إن بينهم وبينها لبونًا شاسعًا، ومفازًا عظيمًا، يستثقلون خِدْمة أُمَّهاتهم، والقيام عليهنَّ، وتلبية رغباتهنَّ، والأُنس بهنَّ، والجلوس معهنَّ، ويملون حديثهنَّ، ويقدمون ترفيه أزواجهم وأولادهم على برِّ أمهاتهم إلا من رَحِم الله - تعالى - وقليل ما هم، ترى الواحد منهم يأنس بصحبه ويضاحكهم، ويُطيل المكثَ معهم، وإذا كان في مجلس أُمِّه كشَّر وتقبَّض، وثَقُل كلامُه، واشتغل في مجلسها بغير حديثها، كهاتف أو صحيفة أو غير ذلك، وهذا مما يُحزنُها ويكسر قلبَها ألا يأْبَه ولدُها بها، ولا ينصتْ لحديثها، ولا يوقِّر مَجْلسها. ومن فتَّش في حاله مع أُمِّه، وجَدَ كثيرًا من العقوق لا يفطن إليه، وتصرُّفات لا يلقي لها بالاً، وهي من العقوق، فحذار حذار - عباد الله - فإنَّ حقوق أمهاتنا علينا كثيرة، وإن بِرَّهنَّ من أعظم الواجبات، والنصوص فيه كثيرة، يكفي منها وصيَّة الله - تعالى - للمسيح - عليه السلام - التي نَطَق بها وهو في المهد؛ ﴿ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ﴾ [مريم: 31 - 32]. وصلوا وسلموا على نبيِّكم.الخطبة الثانية
تصميم وتطويركنون