المادة

صدق النية مع الله

253 | 01-12-2016
عناصر الخطبة 1/ موقف واحد وعمل واحد وحكمان مختلفان 2/ عبد الله ذو البجادين.. عمر قصير وأجر كبير 3/ فضل الصدق مع الله تعالى 4/ أين نحن من الصدق في الأقوال والأعمال؟ 5/ أول من تسعر بهم النار ثلاثة 6/ نية المرء خير من عمله 7/ إن صدقت الله يصدقك 8/ مثل فريد من حياة الصحابة في الصدق مع الله تعالى
النية، الصدق، الإخلاص.. قل لمن لا يخلص لا تتعب، يقال لك في الآخرة قيل: كريم، أنت شجاع، أنت عالم، أنت حنون، أنت عطوف، أنت .. قيل..؛ حصّلت أجرك في الدنيا يا مسكين! أما هنا فهو لمن أخلص لله عمله، لمن أقبل على الله بقلبه فيبلغه الله منازل الشهداء، يبلغه الله درجات الأبرار، ونية المرء أبلغ من عمله، انوِ أنت وحاول واجتهد؛ انوِ أن تكون نصيرًا لله للإسلام، انوِ أن تكون صادقًا وناصحًا، انوِ أن تكون كريمًا وسخيًا لتتصدق، فإن جاءك وتحقق لك ما نويت، فأنت على خير عظيم وإن لم يتحقق لك ما تمنيت، فلك النية التي تبلغك درجات السعداء.

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا وقرة عيوننا محمدًا عبدُ الله ورسوله الأمين، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه أجمعين.

أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:102].

أيها الإخوة: أريدكم أن تتصوروا معي منظرًا ومشهدًا مهيبًا وجميلاً وعظيمًا، ويحمل معنى كبيرًا، لا بد أن نستحضره في كل وقت وفي كل حين، هذا المنظر بطله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج يوم ومعه أحد الصحابة فمر -عليه الصلاة والسلام- برجل يقرأ القرآن يصلي من الليل يرفع صوته، ويقرأ ويرتل، ويبكي ويتخشع فقال الصحابي الجليل يا رسول الله: "إنه خاشع باكٍ. فقال -صلى الله عليه وسلم- أو لعله أن يكون مرائيًا" فسكت الصحابي الجليل -رضي الله عنه-.

في الليلة الأخرى خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه نفس الصحابي فمر برجل يقرأ القرآن ويرفع صوته، ويبكي ويتخشع، فقال الصحابي الجليل: يا رسول الله هذا كسابقه، فقال -صلى الله عليه وسلم- "كلا، إن هذا ليس كسابقه، إنه رجل بكّاء أوّاه خاشع تواب".

ما رأيكم هذا موقف واحد وعمل واحد، والذي أصدر الحكم هو رجل واحد، هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والذي نقل الخبر هو الصحابي الجليل نفسه والعمل نفس العمل.

إن الذي اختلف -أيها الإخوة- هو القلب؛ قلب هذا غير قلب هذا، إيمان هذا غير إيمان هذا، اختلف الرجلان بقلبيهما، مارسا نفس العمل وعاشا في نفس العصر، وحكم عليهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحكمين مختلفين صدق القلب، النية الخالصة، الإقبال على الله، النظر إلى ما عند الله، وليس النظر إلى ما عند البشر.

قال الصحابي الجليل: فذهبت أنظر إلى هذا الرجل الذي شهد له -صلى الله عليه وسلم- بهذه الشهادة، قال فوجدته عبد الله ذو البجادين الصحابي الجليل الذي لم يبقَ في الإسلام إلا سنتين فقط، تأخر في إسلامه ليس ترددًا، ولكن له قصة طويلة ذكرناها في يوم من الأيام.

أيها الإخوة عبد الله ذو البجادين المزني خرج مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى غزوة تبوك، وجاء إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- وقال: "يا رسول الله ادعُ الله لي بأن أنال الشهادة"، فقال رسول الله: "إنك إن كنت خرجت تبغي وجه الله تقاتل في سبيل الله، فأصابتك الحمى فمتّ في مكانك فأنت شهيد في سبيل الله، وإن وقصتك ناقتك فمت فأنت في سبيل الله".

في غزوة تبوك وقبل أن تحدث الأحداث العظيمة مرض عبدالله، أصابته الحمى فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- في الليل وخرج معه أبو بكر وعمر وعبدالله بن مسعود، ركب مبارك -رضي الله عن هذه الأسماء-، فخرجوا يعودون صاحبهم، فوجده النبي -صلى الله عليه وسلم- قد اشتدت به الحمى، ثم لم يلبث أن أسلم روحه بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام- "هلم بنا لنحفر لأخينا قبرًا في طرف المعسكر".

فحفروا له قبرا، فقال -صلى الله عليه وسلم- "وسعوا لأخيكم في قبره"، ثم حمله -عليه الصلاة والسلام- بيديه بزراعيه، وأنزله إلى القبر، وأصر -صلى الله عليه وسلم- أن يكون هو الذي يسجيه، وهو الذي يوجّه وجهه للقبلة، ثم خرج -عليه الصلاة والسلام- وأهال على قبره التراب، ثم وقف على القبرِ محمدُ بن عبدالله -صلى الله عليه وسلم- ورفع يديه إلى السماء قال: "اللهم إني قد أمسيت راضيًا عن عبدالله ذي البجادين فارضَ عنه".

ثلاث دعوات دعا بها محمد -صلى الله عليه وسلم-، قال أبو بكر، قال الصديق، قال حبيب رسول الله وخليله وصاحبه في الغار وناصره ومعينه ومصدقه، قال أبو بكر "والله لتمنيت أن أكون أنا صاحب هذا القبر".

إنها دعوة عظيمة من رجل عظيم من نبي كريم من رجل يقدّر أصحابه -صلى الله عليه وسلم-، انظروا إلى الصدق الذي بلغه عبدالله ذو البجادين، ولم يعش في الإسلام إلا عامين، عبدالله بن مسعود يقول: "لقد أسلمت والله منذ خمسة عشر عامًا، والله لوددت أني أسلمت ذلك اليوم وأحظى بهذه الدعوة".

هذه القمم العظيمة التي أبلت في الدين بلاءً حسنًا تمنت لو كانت مكان صاحب هذا القبر الذي بلغ ما بلغ بصدق نيته، بصدق إقباله على الله، فهل نحن صادقون؟ هل نياتنا أبلغ من أعمالنا؟ هل نحن نستوعب هذا المعنى الجميل في أن نصدق مع الله في كلماتنا، في مشاعرنا، في مواقفنا، في أحكامنا، هل نجعل الله دائما أمام أعيننا؟!

أيها الإخوة: أول من تسعر بهم النار ثلاثة في الحديث الصحيح رواه أبو هريرة جاءه رجل من أهل الشام، وقال: بحق الله ارو لي حديثًا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأراد أبو هريرة أن يروي له هذا الحديث العظيم فأُغمي عليه ثلاث إغماءات قبل أن يروي هذا الحديث من هوله ومن عظمته.

قال أبو هريرة: "حين ينزل الله ليقضي بين العباد وكل أمة جاثية أول من يقضى عليه ثلاثة؛ أولهم رجل قرأ القرآن وتعلم العلم، فيأتي به الله ثم يعرّفه نعمته عليه، ثم يقرره ويقول له: ماذا عملت بما علمت؟ فيقول يا ربي قرأت القرآن وتعلمت العلم وعلمته فيك، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة له: كذبت، إنما كنت تعلم العلم وتقرأ القرآن ليقال عالم وقارئ وقد قيل، خذوه اسحبوه على وجهه إلى النار".

"وأما الثاني فهو رجل قاتل في سبيل الله حتى قُتل فيأتي به الله فيعرّفه نعمته عليه ويقرره بها، ثم يسأله فيقول: يا رب قاتلت فيك حتى قُتلت، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، إنما قاتلت ليقال شجاع، خذوه فيسحب على وجهه في النار".

"وأما الثالث فرجل أتاه الله من نعمه ورزقه من المال، فيقول الله له بعد أن يقرره ويعرفه بالنعم: ماذا عملت؟ فيقول: ما تركت سبيلاً أعرف أن فيه صدقة ولا معروفًا إلا وسلكته، فيقول الله له :كذبت، وتقول الملائكة: كذبت إنما كنت تنفق وتتصدق ليقال جواد، خذوه فيسحب على وجهه إلى النار".

فهؤلاء أول من تسعر بهم النار.

النية، الصدق، الإخلاص.. قل لمن لا يخلص لا تتعب، يقال لك في الآخرة قيل: كريم، أنت شجاع، أنت عالم، أنت حنون، أنت عطوف، أنت .. قيل..؛ حصّلت أجرك في الدنيا يا مسكين! أما هنا فهو لمن أخلص لله عمله، لمن أقبل على الله بقلبه فيبلغه الله منازل الشهداء، يبلغه الله درجات الأبرار، ونية المرء أبلغ من عمله، انوِ أنت وحاول واجتهد؛ انوِ أن تكون نصيرًا لله للإسلام، انوِ أن تكون صادقًا وناصحًا، انوِ أن تكون كريمًا وسخيًا لتتصدق، فإن جاءك وتحقق لك ما نويت، فأنت على خير عظيم وإن لم يتحقق لك ما تمنيت، فلك النية التي تبلغك درجات السعداء.

أيها الإخوة: أعرابي من البادية من عمق الصحراء جاء للنبي -صلى الله عليه وسلم- قال يا رسول الله: "أبايعك على لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله" فبايعه النبي -صلى الله عليه وسلم- وخرج معه للتو من بيعته في اللحظة خرج معه إلى غزوة، ثم جاء للنبي -صلى الله عليه وسلم- من الغنائم ما جاء، فوزع له، أعطاه قَسْم له -عليه الصلاة والسلام- أعطاه حقه فجاء به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ووضعه بين يديه، قال: يا رسول الله! ما لا على هذا بايعتك؟! قال: "إذًا على ماذا بايعتني؟ قال بايعتك على أن أموت في سبيل الله على أن يأتي سهم فيدخل من هاهنا، ويخرج من هاهنا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- "إن صدقت الله يصدقك".

وما أن انتهت المعركة والنبي -صلى الله عليه وسلم- يبحث عنه حتى جاء فوجده مسجى ووجد سهمًا قد دخل من نحره وخرج من آخر رقبته. قال -صلى الله عليه وسلم- "صدق الله فصدقه الله".

إننا نريد أن نصدق مع الله، إننا نريد أن نخلص لله، إن هذه الحياة طريق طويل ابتلانا الله به، ليبلونا أينا أحسن عملا ، أي أخلصه وأصوبه، أخلصه لله وأصوبه على منهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .

هل يمكن أن نفهم هذا المعنى القلبي ونحن نتعامل كل يوم مع بعضنا البعض، أنت حينما تصدق الله، وحينما تخلص لله لا تتحرك خطوة ولا مترًا نحو عملك، إلا ويكتب في سجل صحائفك، هل تعلم أنه حتى النومة التي تنامها تريد بها وجه الله لكي تقوي جسدك لكي تستيقظ من الليل، لكي تعطي جسدك حقه المفروض، فأنت أيضًا يسجل لك هذا النوم بكل دقائقها في صحيفتك، حتى اللقمة تضعها في فم زوجتك، حتى الابتسامة تنشرها بين الناس، حتى المعروف الذي تصنعه أحيانًا إذا نويت لله -عز وجل- فهو في سجل حسناتك.

هذا هو المفهوم، هذه هي الحقيقة، نريد أن نقبل على الله بسجلات وصحائف تمتلئ -أيها الإخوة- حسنات وقربات ورفعة في الدرجات بأعمالنا البسيطة التي نباشرها يوميًّا، بأعمالنا الصالحة؛ بالإصلاح بين الناس، بالكلمة الطيبة، بالوقوف مع المظلومين، بالنصيحة، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هدية تشتريها يومًا لأبيك، لزوجتك، بالسعة التي توسعها على أولادك تنوي بها وجه الله، فتكون صادقًا مع الله وتخلص لله –عز وجل- ولا يغرنك الكلام، ولا تلتفت إلى ثناء الناس بأعمالك الأخرى التطوعية الاجتماعية، الدعوية، لا تلتفت لكلام الناس فإنها مضيعة للأجر، مضيعة للجهد، والله إنها مضيعة للتعب الذي بذلته، و"رب قائم ليس من قيامه إلا السهر، ورب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش".

النية -أيها الإخوة- وصلاح العمل، انظروا كم نباشر يوميًّا من أعمال! انظروا كم نباشر منذ أن نستيقظ حتى ننام! كم من الأعمال يمكن أن نسجلها! وأن نرصدها، وأن نحتكرها، وأن نحسبها لأنفسنا في سجل صحائفنا!!

قليل -أيها الإخوة- من الاهتمام، قليل من البصيرة تغيّر حياتنا ومفاهيمنا وتصنع شيئا مختلفًا وجديدًا.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه ومن اتبعه.

وبعد: أيها الإخوة: حينما نتحدث عن الإخلاص وعن القدرة على التجرد لله -عز وجل- فإننا لا يمكن أن نتجاوز المواقف والأحداث والقصص التي سطرها لنا صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكيف أخلصوا دينهم لله.

سأضرب مثلاً واحدًا، ولكم أن تقارنوا بين هذا المثل وبين ما يحصل اليوم في دنيا الناس وفي حياتهم.

أمين الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح، هذا الرجل العظيم، هذا الرجل الذي رباه محمد -صلى الله عليه وسلم-، أبو عبيدة أحد العشرة المبشرين بالجنة، كان مع خالد بن الوليد في فتوح الشام، وجاءه الخطاب من أمير المؤمنين من عمر يقول له باختصار شديد: أنت اليوم أمير الأمراء، أنت أمير أجناد الشام يا أبا عبيدة، أبلغ خالد بذلك وتولَّ أنت مكانه، وخالد هو خالد، هو سيف الله المسلول كان يخوض المعارك ويصفّ الصفوف، وينظّم الجيوش، صاحب العقلية العسكرية الفريدة .

لكن إرادة الله ثم اختيارات عمر -رضي الله عنه- وأرضاه أبت إلا أن يصدر هذا القرار، لما وصل الخطاب إلى أبي عبيدة إلى الأمين العظيم، وفيه أنه أمير الشام، وأمير أجنادها، وأنه أمير الأمراء، وأنه الرجل الأول على كل من هناك، وأن فتح الشام سيجل باسمه، وأن معركة اليرموك سيكون هو بطلها وعظيمها، وسيسجل كل ذلك في التاريخ، إلا أن أبا عبيدة نظر إلى مصلحة الإسلام قبل مصلحة نفسه، نظر إلى الموقف والواقع والأحداث، فأحب أن يكون عظيمًا في تفكيره، أحب أن يكون عظيمًا في تجرده، أحب أن يضرب مثلاً عظيمًا في أن يكون عمله لله.

أخَّر خطابه عنده حتى انتهت المعركة حتى فُتحت بلاد الشام، حتى انتصر المسلمون، وسُجل النصر باسم خالد، وهو يستحق ذلك، فلما بلغ الأمر خالدًا استغرب، وقال: "غفر الله لك يا أبا عبيدة، جاءك خطاب أمير المؤمنين، فلِمَ أخرته؟" قال: "إنما أنا وأنت إخوة في سبيل الله".

هذا هو التجرد لله، هذا هو الإخلاص، هذه هي النية التي ينبغي أن نتعلمها.

عباد الله: صلوا وسلموا على رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم فقال -عز من قائل-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن سار على دربه، واقتفى أثره إلى يوم الدين.

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين..

جديد المواد

تصميم وتطويركنون