المادة

كلمات في التربية

197 | 25-11-2016
عناصر الخطبة 1/ بداية عام دراسي جديد 2/ لغة الأرقام وصُنّاع الحضارة 3/ من هم العلماء الربانيون؟ 4/ أهمية دور المعلمين في التربية والتعليم 5/ أهم الوسائل والقواعد التربوية في تكوين التلميذ وإعداده 6/ دور الأسرة في دعم المعلم

صدمات حضارية، ومحطات فضائية، وثقافات أجنبية، وبرامج غثائية، وانصراف كثير من الآباء والأمهات عن التربية بالكلية، فكيف سيكون المستقبل؟! فالأمل بعد الله معقود بكم معاشر المعلمين والمعلمات. إن عظماء العالم وكبار الساسة وصُنّاع القرارات الخطيرة كل هؤلاء بالتأكيد قد مروا عليك أنت أيها المدرس أولاً، وإن بصماتك بالتأكيد قد ..

الحمد لله الذي جعل الظلمات والنور، وفضَّل العلم على الجهل، فقال: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر: 9]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، القائل: "مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ"، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.


أما بعد:


عباد الله: فاتقوا الله حقيقة التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أجسادنا على النار لا تقوى، وأكثروا من ذكر الموت والبِلَى، وقرب المصير إلى الله -جل وعلا-.


عباد الله: غدًا يبدأ العام الدراسي الجديد في ظروف ومتغيرات متلاحقة تتطلب من الجميع الاستعداد والتجديد، فهل تعلمون -يا معاشر المعلمين والمعلمات- أن نسبة كبيرة من أبناء وبنات هذه البلاد تحت أيديكم وفي رعايتكم؛ حيث إن لغة الأرقام تقول: إن 65% من السكان تتراوح بين خمس عشرة وعشرين سنة، وهذا يعني أنكم تمتلكون زمام المبادرة للإمساك بدفة التربية والتعليم وحضارة البلد وتقدُّمه، ويعني أيضًا أن غالبية السكان من فئة الشباب الذين بأيديهم صناعة الحضارة.


ولا تخفى حاجة الشباب في ظل هذه المتغيرات إلى المربي الحاذق المخلص، وليس كل معلم مربيًا، وإذا كانوا يقولون: "إن وراء كل أمة عظيمة تربية عظيمة"، فالمربون إذًا هم صُنّاع الحياة، وجموع الشباب اليوم متعطشون للمربين وليس إلى مجرد معلمين، فهل تدرك هذا أخي المعلم؟! وهل تُعد نفسك لأن تكون مربيًا؟! فالله تعالى يقول: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) [آل عمران: 79]، قال ابن عباس: "الرباني هو المعلّم، يربي الناس بالعلم، ويربيهم به كما يربي الطفلَ أبوه". وقال مجاهد: "هو الذي جمع إلى العلم والفقه البصرَ بالسياسة والتدبير"، وفي البخاري: الرباني: "الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره". وقال المبرد: "الرباني الذي يربي العلم، ويرب الناس به، أي: يعلمهم ويصلحهم".


وعلى هذا القول فالرباني: من رب يرب ربًا أي يربيه، فهو منسوب إلى التربية، يربي علمه؛ ليكمل ويتم بقيامه عليه وتعاهده إياه، كما يربي صاحب المال ماله، ويربي الناسَ به كما يربي الأطفالَ أولياؤُهم. ولا يُوصَف المعلم بكونه ربانيًا حتى يكون عاملاً بعلمه معلمًا له. (الضوء المنير من تفسير ابن القيم).


يقول ابن سعدي: "أي يأمرهم بأن يكونوا ربانيين، أي علماء حكماء حلماء معلمين للناس، ومربيهم بصغار العلم قبل كباره، عاملين بذلك، فهم يأمرون بالعلم والعمل والتعليم التي هي مدار السعادة، وبفوات شيء منها يحصل النقص والخلل، والباء في قوله: (بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ) باء السببية، أي بسبب تعليمكم لغيركم المتضمن لعلمكم ودرسكم لكتاب الله وسنة نبيه، التي بدرسها يرسخ العلم ويبقى، تكونون ربانيين". (تفسير ابن السعدي ص136).


إذًا فالعلم شيء، والتربية بالعلم شيء آخر لا يستطيعه كل أحد. وإن أردنا الصراحة والمكاشفة فهل لنا أن نتساءل بل ويسأل المعلمون والمعلمات أنفسهم وبعضهم: لماذا الشباب يكره المدارس؟! ولماذا لا يحبون العلم؟! وهل المدرسة تلبّي احتياجاتهم العلمية والنفسية، وهل يجدون فيها إجابات شافية لاستفساراتهم؟! وهل المعلم يبذل جهده لتلمُّس جروحهم ومشاكلهم؟! بل هل الكثير من المعلمين والمعلمات مهيؤون للتعليم فضلاً عن التربية؟! أسئلة واستفسارات كثيرة تحتاج لمناقشات ومراجعات صادقة لنستثمر شباب أمتنا بحق، بل لنحفظ مستقبلنا وحياتنا.


أيها المعلمون والمعلمات، بل ويا أيها الآباء والأمهات: إن التربية من أفضل الأعمال وأقرب القُربات عند الله، فهي دعوة وتعليم ونصح وإرشاد، وعمل وقدوة، ونفع للفرد والمجتمع، وكيف لا تكون من أعظم الأعمال وأجلّها وهي مهمة الأنبياء والرسل، وقد قال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) [الجمعة: 2]. قال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: (وَيُزَكِّيهِمْ) يطهرهم من رذائل الأخلاق ودنس النفوس.


ومشاكل الشباب اليوم كثيرة تنوء بحملها الجبال، وأعدادهم كبيرة، وهم هدف لسهام الشهوات والشبهات كل لحظة! فالأعداء يدركون أن سر قوة أي أمة إنما هم شبابها؟! فمن للشباب إذًا؟! إن لم تكونوا أنتم -معاشر المعلمين والمعلمات- فمن؟! خاصة في ظل هذه المستجدات؟! صدمات حضارية، ومحطات فضائية، وثقافات أجنبية، وبرامج غثائية، وانصراف كثير من الآباء والأمهات عن التربية بالكلية، فكيف سيكون المستقبل؟! فالأمل بعد الله معقود بكم معاشر المعلمين والمعلمات، وللنهوض بهذه الرسالة العظيمة وهذه المهمة الجسيمة، لا يكفي من أحدكم اليوم درس يلقيه أداءً للواجب، وإنهاءً للمقرر في المهمة التعليمية؟! ولا يظن أنه برّأ الذمة، وأدى المهمة، ولقد أحسن العقلاء تسمية الوزارة بوزارة التربية والتعليم، فبدؤوا بالتربية باسمها أولاً؛ تأكيدًا وتنبيهًا وتذكيرًا بأهمية التربية، فلا بد من القيام بالتعليم والتربية، فهما توأمان لا ينفصلان، بل ليس للتعليم ثمرة اليوم بدون تربية، فهما متلازمان.


فيا أيها المعلمون والمعلمات: إن وظيفة التعليم أسمى وأعلى من أن تكون وظيفة رسمية أو مصدرًا لكسب الرزق فقط، إنها إعداد للأجيال وبناء الأمة، فهل تعلم -أخي المدرس- أن العالم الداعية الذي يحمل همّ دينه أو ذلك القاضي الذي يحكم في دماء الناس وأعراضهم وأموالهم، أو ذلك الجندي الذي يقف في الميدان حاميًا لعرين الأمة وحارسًا لثغورها، هل تعلم أن كل هؤلاء وغيرهم كثير إنما كانت بداياتهم من بين يديك أنت، وكل هؤلاء قد عبروا بوابة المدارس.


إن عظماء العالم وكبار الساسة وصُنّاع القرارات الخطيرة كل هؤلاء بالتأكيد قد مروا عليك أنت -أيها المدرس- أولاً، وإن بصماتك بالتأكيد قد أثَّرت في ناحية من نواحي تفكيرهم أو على جانب من جوانب شخصياتهم، إنه ليس بلازم أن يكون قواد الأمة ومصلحوها قد مروا على عيادات الأطباء أو على مكاتب المهندسين أو المحامين، بل إن العكس هو الصحيح، إذ لا بد أن يكون كل هؤلاء الأطباء والمهندسين والصيادلة والمحامين والمحاسبين وغيرهم، لا بد وأن يكونوا قد مروا من تحت يد مدرس؛ لأنهم من ناتج عمله وجهده وتدريبه، فهل يدرك المعلمون اليوم أنهم يشكلون شخصيات رجال المجتمع من سياسيين وعسكريين ومفكرين وعاملين في مجالات الحياة المختلفة؟!


إذًا فأنت أيها المدرس، الذي تدرس الصغير والكبير وتعد الجميع وتهيئهم ليصل بعضهم إلى ما لم تصل إليه أنت، فأنت صاحب اللبنة الأولى وحجر الأساس. فهل أدركت موقعك من المجتمع وعلمت مكانك بين الناس، بل يجب أن يكون لك دور في إصلاح نظام التعليم، فدورك لا يقف على ما تقدمه في الفصل الدراسي، فأنت أدرى من غيرك بالإيجابيات والسلبيات، فساهم في اقتراح بنّاء على إدارة المدرسة، أو تنبيه على ملحظ، أو مناقشة هادئة لقرار، ولا بأس أن تطرح فكرة بنّاءة فتكتب عنها إلى من يهمه الأمر، أو تسعى لدراسة ظاهرة من الظواهر السلبية في نظام أو مادة فتكتب عنها، المهم أن لا تكون سلبيًّا، أسأل الله لك التوفيق والإعانة، "وإذا استعنت فاستعن بالله".


واعلم أخي أن المربي الواعي يحرص دائمًا أن يستزيد علمًا في الوسائل المجدية، والقواعد التربوية المؤثرة في إعداد الشباب عقديًا، وخلقيًا، وفي تكوينه علميًا ونفسيًا واجتماعيًا، فتجده يبذل وسعه في الاطلاع ومتابعة كل جديد من الكتب والمؤلفات، ويبادر للمشاركة في كثير من الدورات والتدريبات، وهو كثير الأسئلة والاستفسارات، حريص على لقاء المربين الربانيين؛ لأنه يعلم أن التجارب وعقول الآخرين، كنز ثمين، وأن التربية فن وممارسة تحتاج إلى سنين.


ومن المعلوم المشهور عند المربين أن أهم الوسائل المجدية والقواعد التربوية المؤثرة في تكوين التلميذ وإعداده: التربية بالقدوة، والتربية بالعادة، والتربية بالموعظة، والتربية بالملاحظة، والتربية بالعقوبة؛ ومن أنجح هذه الوسائل المؤثرة: التربية بالقدوة، ذلك لأن المربي هو المثل الأعلى في نظر الشاب، والأسوة الصالحة في عين الولد، يقلده سلوكيًا، ويحاكيه خُلقيًّا من حيث يشعر ومن حيث لا يشعر، بل تنطبع في نفسه وإحساسه صورته القولية والفعلية، بل والحسية والمعنوية من حيث يدري ومن حيث لا يدري، ومن هنا كانت القدوة عاملاً كبيرًا في من عوامل التربية صلاحًا أو فسادًا.


فاسأل نفسك -أيها المعلم- ما هو تأثيرك؟! وكيف أنت في أعين طلابك؟! كيف أنت يا ترى في أعين طلابك؟! ماذا يرون من أخلاقك؟! ماذا يرون من حرصك وأمانتك؟! ماذا يرون من انضباطك وإتقانك لعملك، فأنت تعطي هذه المعاني أكثر من أن تعطي من المقررات ما ذُكر في ذلك المقرر أو ما درسته لهم منه.


فإن كان المربي صادقًا، أمينًا، خلوقًا، كريمًا، شجاعًا، عفيفًا. نشأ المرَبَّى على تلك الصفات الجميلة، والعكس بالعكس، فالتلميذ ذكرًا كان أم أنثى، مهما كان استعداده للخير عظيمًا، ومهما كانت فطرته نقية سليمة، فإنه لا يستجيب لمبادئ الخير، وأصول التربية الفاضلة ما لم ير في المربي الأخلاقَ، والقيمَ، والمثل الأعلى:


ابـدأ بنفسك فانهها عن غيها *** فإذا انتهت عنه فأنت حكيمٌ
فهناك يُقبل ما وعظت ويُقتدى *** بالعـلم منك وينفع التعليم


والشباب اليوم "قوي الإدراك للمعايب والكمالات، فإذا زينتم له الصدق فكونوا صادقين، وإذا حسنتم له الصبر فكونوا من الصابرين، واعلموا أن كل نقش تنقشونه في نفوس تلامذتكم من غير أن يكون منقوشًا في نفوسكم فهو زائل. ألا إن رأس مال التلميذ هو ما يأخذه عنكم من الأخلاق الصالحة بالقدوة، وأما ما يأخذه عنكم بالتلقين من العلم والمعرفة فهو ربح وفائدة". (الإبراهيمي).


أيها المعلم: أنت تصنع إنسانًا، بصياغة تفكيره ومشاعره، وغرس الدين والخُلق في قلبه، وتأمل حال الجالسين أمامك غدًا من الطلاب واسأل نفسك بصدق وإخلاص قبل أن تُسأل: هل أنت راضٍ عن هموم وتفكير وأخلاق تلاميذك؟! ماذا صنعت لهم؟! هل تُصدق أنك أكثر تأثيرًا عليهم من آبائهم وأمهاتهم، وأنك أقرب لقلوبهم منهم! كيف لا وأنت تجلس معهم ساعات باليوم.


أيها المعلم: ابحث وتلمس أثرك الطيب عليهم، أسأل الله أن ينفع بك وأن يجعلك مفتاحًا للخير، فلا بد أن نستشعر دور المعلم، وأن نقدر له جهده، وأن نكون عونًا له، بل أن نذلل له كل العقبات والصعوبات، وعلى الآباء والأمهات خاصة الدور الأكبر والأعظم في التربية والتوجيه، لكن كلماتي اليوم خاصة للمعلم بمناسبة العام الجديد، وإلا فكلنا يعلم أن البيت هو الدائرة الأولى من دوائر تنشئة الولد وصيانة عقله وخلقه ودينه.


فماذا يصنع المدرس؟! أو ماذا تستطيع أن تعمل إدارة المدرسة؟! بل حتى وزارة التربية والتعليم لطالب نشأ في بيت بعيد عن التربية والتوجيه، إهمال وسهر ومنكرات، قد يستطيع الأستاذ أن يقطع خطوات في تربية الطالب وتوجيهه، لكنه جهد غير مضمون الثمرة؛ لأن تأثير البيت المعاكس يظل دائمًا عُرضة لإفساد ما تحاوله المدرسة.


وإن من أكبر التناقضات التي يعيشها الطالب والتي تكون سببًا في انحرافه سلوكيًا وسقوطه دراسيًّا هو التناقض الذي يعيشه بين توجيهات مدرس صالح، ومتابعة إدارة جيدة، وبين بيت موبوء بوسائل الفساد ومساوئ الأخلاق.


فاتقوا الله يا أولياء أمور الطلبة والطالبات، وكونوا عونًا وسندًا لتربية المعلم وتوجيهاته، ولا تكونوا سببًا في انحراف أولادكم، وفشلهم في دراستهم، وربما في حياتهم كلها.


نسأل الله أن يصلح الجميع، وأن يهدي شباب المسلمين، وأن ييسر للمعلمين والمعلمات أمرهم، ويبارك لهم، ويكتب أجرهم، ويؤلف بين قلوبهم وقلوب طلابهم، اللهم اكتب لهم الحسنات وامح عنهم السيئات، اللهم أخلف عليهم عنتهم وتعبهم، اللهم أصلح لهم أولادهم بحرصهم على صلاح أولاد المسلمين، اللهم زدنا وزدهم علمًا وعملاً، وارزقنا وارزقهم الإخلاص في القول والعمل، وتقبل منا ومنهم أجمعين يا رب العالمين.


أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور ‏الرحيم.

الخطبة الثانية:


لم ترد.

جديد المواد

تصميم وتطويركنون