المادة

عام الحزن

175 | 25-11-2016
عناصر الخطبة 1/ بعض أحداث العام المنصرم: مآسي المسلمين، رحيل العلماء، كوارث الطبيعة 2/ دروسٌ وعِبَرٌ مستفادةٌ من تلك الأحداث 3/ دعوةٌ لمحاسبة النفس وتجديد العزم لتدارُك ما فات
ومن هذا خسوف القمر الذي مضى، والذي جعله عالم الكفر متعة سياحية، وتبعهم في ذلك الجهلة وضعاف الإيمان، والحق أنه تخويف من الله لعباده للتوبة والرجوع، ومثله -أيضا- تأخّر نزول المطر، والاستسقاء المتكرر؛ بل والفيضانات في الهند والتي أدت إلى غرق قرى ومدن بكاملها، وأيضا الأعاصير والفيضانات العارمة في بلاد الحضارة والتقدم ماديا أمريكا، والتي لم تستطع أن تواجهها، أو تعمل حيالها شيئا.. كل ..


الحمد لله ما تعاقبت الليالي والأيام، والحمد لله عدد الشهور والأيام، ولا إله إلا الله الذي لا تتصور عظمته الأوهام، والله أكبر ذو الجلال والإكرام، والعزة التي لا ترام، مدهر الدهر، مدبر الأمور، ومقدر اليوم، والليلة، والسنة، والنهار.


وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومَن سار على نهجه من الأخيار.


أما بعد:


أيها الناس: ها هي الشمس تشرق وتغرب كل يوم، وها هو الهلال يهل كل شهر ويغيب، وها هي الأعوام تتجدد عاما بعد عام، وها هو العام العشرون بعد الأربع مئة والألف قد ودعنا، وكم فجعنا وأجعنا، وآلمنا وأحزننا، ولم لا نتألم ونحزن، وهي ليست مصيبة بل مصائب، وليست حدثا بل أحداث:


ولو أنَّ سهماً واحداً لاتَّقيتُهُ *** ولكنَّهُ سهمٌ وثانٍ وثالثُ


انطوى العام، بما فيه من أحداث وأحزان، لكن تعالوا نسترجع شريط الذكريات، ولنقف وقفات، فقد انصرم العام وأصبح تاريخا يسجل ويذكّر، والأمة العاقلة هي التي تستلهم الدروس والعبر من تاريخها، ومن الخطأ أن تمر الأحداث ولا نتعلم أو نستفيد منها.


فكم تكرَّرَتْ مآسي المسلمين في كثير من البقاع ومنذ سنين، شعوب تُذبَح، وعدو حاقد، وقتْل وتهجير، وهدم وتخريب، مسلسل يتكرر، بدءا بالقضية الفلسطينية، بمآسيها المتكررة، خيانة واستسلام وخضوع.


ثم القضية الأفغانية وصراع الإخوة، وشهوة الصدارة والمناصب، واستنصار الأعداء على الأشقاء، والكيد والتحريض وخلخلة الصفوف.


مرورا بالقضية الكشميرية الشعب المنسي، وتمكين الهندوسية والوثنية بالعلو والفساد، خدمة لليهود وعباد الصليب، لزعزعة بلاد المسلمين، وقمع كل اختراع أو تفوق باسم الإسلام، كما في باكستان، ثم القضية الصومالية، والبوسنوية، والبورمية، والفلبينية، وتميور وبقية الجزر الاندونيسية.


وفي عام الأحزان تفجرت القضية الكوسوفية والألبانية، ثم نسيت بجرح آخر، حيث تجددت الآلام في بلاد الشيشان وداغستان.


إخوة الإيمان: لقد كلت الأبصار، وسئمت الآذان، مما يقرأ ويسمع من مُصَابِ الإسلام، فدماء المسلمين أرخص الدماء، وبلادهم مشاعة عند أعدائهم للنهب والطرد، مسلمون يُقتَلون، ومسلمون يشرَّدون، وآخرون يضطهدون، فإنا لله وإنا راجعون!.


أما ماذا يعد لنا هذا العام الجديد؟ فسؤال يتجدد ويعود، فإقليم تركستان الشرقية في الصين على فوهة بركان، فثلاثون مليون مسلم رهن الاعتقالات والقتل ومصادرة كل حق لهم هي ما يجري هناك الآن، وغيرها وغيرها من بقاع المسلمين، والتي نسأل الله أن يعزها بالإسلام والتوحيد.


والدرس الذي يجب أن نتذكره جيدا من هذه الأحداث أن المراد بكل هذا هو الإسلام، والعدو هو العدو مهما تلبس وتسمى وتلون، ولكن المصيبة أن نألف ونعتاد الأحداث والجروح، وكم أسعدنا وأفرحنا تفاعل الناس مع أحداث الشيشان، وقد رأينا عجبا من بذل المال، ومن الدعاء والسؤال، وهذه دلالة على الخير في النفوس.


ولكن ما لا نريده ولا نرضاه هو الحماس والتعاطف لأيام، ثم سرعان ما يزول وينطفئ، فإن من علامات الهم الصادق للدين دوام هذا الهم، واستمرار العمل للمسلمين، نسأل الله أن يجعلنا جميعا من جنده المخلصين، ومن العاملين الصادقين.


ومن أحداث العام العشرين: تلك الرزايا التي رزئ بها العالم الإسلامي، مصيبة عظيمة، وحادث جلل، تحزن له القلوب، وتتألم منه النفوس: رحيل جهابذة من العلماء، ما بين عالم نحرير، ومفسِّر بحر، وأديب مؤرخ، ومُفْتٍ فقيه، كفقيد العصر ابن باز، وفقيد السنة الألباني، وابن غصون، ومصطفى الزرقا، وعطية سالم، وعلي الطنطاوي، ومنَّاع القطان، ومحمد المنصور، وأبو الحسن الندوي، وشيخ سامراء أيوب الخطيب، وغيرهم ؛ رحمة الله تعالى عليهم أجمعين؛ فحق للعين أن تدمع، وللقلب أن يحزن:


حزنَّا، كيف لم نَحْزَنْ *** وشريان القلوبِ دمُ ؟
ولكنا برغم الحزْ *** ن لَمْ يشطح بنا الكلم
نعبِّرُ عن مواجعنا *** وبالإسلام نلتزم
ولولا أنَّ أنفسَنا *** بربِّ الكونِ تعتصم
لماجَتْ بالأسى وغدتْ *** أمام الحزن تعتصم
إذا كان الأسى لَهَبَاً *** فقل لي: كيف أبتسم؟
وقل لي: كيف يحملُني *** إلى آفاقه الحلُم ؟
إذا كانت مواجعُنا *** كمثل النار تضطرم
فقل لي كيف أطفئها *** وموج الحزن يلتطِمُ؟
أعامَ الحزن، قد كثُرَتْ *** علينا هذه الثُّلَمُ
كأنك قد وعدت المو *** ت وعدا ليس ينفصم
فأنت تفي بوعدك، وهـــ *** ــو يمضي مسرعا بهمُ
ألست ترى ركاب المو *** ت بالأحباب تنصرم؟
ألست ترى حصون العلـ *** ـمِ رأيَ العينِ تنهدم؟
نودع هاهنا علَماً *** ويرحل مِن هنا علَم
جهابذةُ العلوم مضَوا *** فدمع العين ينسجم
مضَوا، وجميع من وردوا *** مناهلَ علمِهِم وجموا.


وكيف لا نوجم ولا نحزن لانقطاع الخير، وذهاب العلم، أليس موت العلماء مصابا للأمة جمعاء؟ كيف وهم مصابيح الدجى، وعلامات الهدى؟ وكالشمس للدنيا، وكالعافية للبدن.


قال أيوب السختياني -رحمه الله-: إني أخبر بموت الرجل من أهل السنة فكأني أفقد بعض أعضائي. وشهد بذلك حماد بن زيد فقال: كان أيوب يبلغه موت الفتى من أصحاب الحديث فيرى ذلك عليه.


وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا؛ فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا".


وعن أبي أمامة -رضي الله عنه-، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "خذوا العلم قبل أن يذهب". قالوا: وكيف يذهب العلم -يا نبي الله- وفينا كتاب الله؟ قال: فغضب لا يغضبه الله، ثم قال: "ثكلتكم أُمَّهاتكم! أوَلم تكن التوراة والإنجيل في بني إسرائيل فلم يغنيا عنهم شيئا؟ إنَّ ذهاب العلم أن يذهب حمَلَته، إن ذهاب العلم أن يذهب حملته".


إذا؛ فذهاب العلماء معناه: هلاك الناس، فعن هلال بن خباب قال: سألت سعيد بن جبير، قلت: يا أبا عبد الله: ما علامة هلاك الناس؟ قال: إذا ذهب علماؤهم. وقال ابن عباس -رضي الله عنه-: "لا يزال عالم يموت، وأثر للحق يدرس، حتى يكثر أهل الجهل، ويذهب أهل العلم، فيعملون بالجهل، ويدينون بغير الحق، ويضلون عن سواء السبيل".


ولهذا كان موت العالم يُعَدُّ خسارةً فادحةً، ونقصا كبيرا، وثلمة في الإسلام لا تُسَدُّ، قال الحسن البصري: موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اطَّرَدَ الليلُ والنهار.


فمَن تأمَّلَ مثلا في حياة الألباني -رحمه الله- علم كم حفظ الله بالشيخ سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث بيَّن كثيراً من صحيحها عن سقيمها، وحمل لواءها، فحفظها وذبَّ عنها، وهو مجدد علم الحديث والإسناد في هذا العصر، له أكثر من مائة كتاب بين تأليف وتحقيق واختصار وتخريج، وقلَّ باحثٌ أو طالبُ علم اليوم إلا وله نظر في مصنفاته، والإفادة منها.


وقد كان -رحمه الله- شديد الاتباع للكتاب والسنة، على فهم سلف هذه الأمة، معروف بكثرة عبادته وزهده وورعه، كان شديدا على أهل البدع والشرك، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، جمع بين العلم والعمل.


ومما جاء في وصيته -رحمه الله- قوله: فوصيتي لكل مسلم على وجه الأرض، وبخاصة إخواننا الذين يشاركوننا في الانتماء إلى الدعوة المباركة، دعوة الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح: أوصيهم ونفسي بتقوى الله -تبارك وتعالى- أولا، ثم بالاستزادة من العلم النافع، كما قال الله -تعالى-:(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة:282]...


وعلينا أن نترفق في دعوة المخالفين لها، وأن نكون مع قوله -تبارك وتعالى- دائما وأبدا: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل:125]، وأول مَن يستحق أن نستعمل معه هذه الحكمة هو من كان أشدّ خصومة لنا في مبدئنا وفي عقيدتنا.


وأوصى -رحمه الله- أن يعجل بدفنه، وأن لا يخبر من أقاربه وإخوانه إلا بقدر ما يحصل بهم واجب تجهيزه، واختار لدفنه أقرب مقبرة له، على أن تكون قديمة يغلب الظن أنها سوف لا تنبش.


وقال: وعلى مَن كان في البلد الذي أموت فيه أن لا يخبروا مَن كان خارجها من أولادي، فضلا عن غيرهم، إلا بعد تشييعي؛ حتى لا تتغلب العواطف، وتعمل عملها؛ فيكون ذلك سببا لـتأخير جنازتي، سائلا المولى أن ألقاه وقد غفر لي ذنوبي ما قدمت منها وما أخرت.


وأوصي بمكتبتي -كلها سواء ما كان منها مطبوعا، أو مصورا، أو مخطوطا بخطي، أو بخط غيري- لمكتبة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة؛ لأن لي فيها ذكريات حسنة، في الدعوة للكتاب والسنة، وعلى منهج السلف الصالح يوم كنت مدرسا فيها... إلخ وصيته رحمه الله.


أناصرُ سنةِ الهادي *** سقاك الهاطِلُ العممُ
بكتك الشام ويح الشامِ *** أخفت بدرَها الظلَم
وخيَّم فوق أردنها *** سحاب غيثهُ الألم
بكت ألبانيا لعبت *** بها أحقاد من ظلموا
وعشَّشَ في مرابعها *** بغاث الطير والرخم
بكاك المسجد القدسيُّ *** والمدني، والحرم
بكتك سلاسل الكتب الـَّ *** ـتي كالدر، تنتظم
فسلسلة الأحاديث الَّـ *** ـتـي صحت لمن فهموا
وتحقيق الأسانيد الــْ ***ـتي ثبتت لمن علموا
علومٌ كلُّها شرَفٌ *** تعز بعزها القِيَم


فرحم الله الشيخ الألباني، ورحم الله علماءنا الذين رحلوا، وأسكنهم فسيح جناته، اللهم اشكر حسناتهم، واغفر سيئاتهم، اللهم ارفعهم في عليين، وعد عليهم بفضل رحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم اخلف على الأمة الإسلامية خيرا منهم، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرنا في مصيبتنا،واخلف خيرا منهم.


اللهم ثبت الأحياء من علمائنا، واجمع كلمتهم، وبارك فيهم وبعلمهم، وارزقهم العفو العافية، واحفظهم بحفظك، أنت خير حافظا وأنت أرحم الراحمين.


والدرس الذي يجب أن نتذكره جيدا من هذه المصائب أنه لا يكفي الحزن وذرف الدموع، ولكن؛ من يسد هذه الثغور؟ ومَن يرفع اللواء بعد رحيل العلماء؟ ومن يرفع لواء العلم ونشره، والدعوة وتبليغها؟ أين أنتم يا شباب؟ أين طلاب كليات الشريعة وأصول الدين؟ أين طلاب العلم المخلصين؟ أين أنتم من طلب العلم لله خالصا؟ أين أنتم مِن حمل همّ الدعوة وتبليغها؟.


أما العلماء الذين رحلوا فنشهد الله أنهم أدوا الأمانة وبلغوا، هكذا نحسبهم، ولا نزكي على الله أحدا، وها هي مصنفاتهم ومسموعاتهم مطبوعة منسوخة، واعتصموا بالكتاب والسنة، واحملوا الأمانة، ولا يشغلنكم الترف بالدنيا وشهواتها.


جدِّدوا العزم، وتسابقوا على الخيرات، وحاولوا الصعود للقمة، ولكن درجة درجة، وخطوة خطوة، وإياكم والقفز! ففيه سقَطات، ولكن بالصبر والمجاهدة، والتوكُّل واليقين، وحينما تصِلون ستعلمون كم هو نقي هواء القمم، لا يكدره المرجفون، ولا المترفون، ولا الضعفاء، ولا المنافقون، فلا يمكن أن يتنفسه إلا ذوو الهمم أمثالكم؛ جعلنا الله وإياكم من الناصحين المخلصين، والعاملين المصلحين.


أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:


الحمد لله مُعِزِّ مَن أطاعه، ومُذل مَن عصاه، أحمده سبحانه وأشكره، مَن توكل عليه كفاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إله غيره ولا رب سواه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أكرمه الله بالرسالة، واصطفاه، صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.


أما بعد:


عباد الله: ها هي الأرض تعج بالمعاصي والذنوب، وتجأر إلى الله من ذلك، وقد غاب عن القلوب الرقيب، فكانت المصائب والويلات التي تجرع المسلم مرارتها.


ومن ويلات العام العشرين تلك الزلازل التي أصابت تركيا فدمرت أكثر من مائة ألف بيت، ونحو عشرين ألف قتيل، وأكثر من سبعة وعشرين ألف جريح، وآلافا آخرين مفقودين، وأكثر من ست مائة ألف مشردين، نسأل الله أن يلطف بالمسلمين هناك وفي كل مكان.


وتبقى هذه الزلازل عقوبات على ما يرتكبه العباد من الكفر والمعاصي، وفيها عبر وعظات لأولي الألباب، لعل الناس يتوبون إلى ربهم، ويستغفرون من ذنوبهم، ويكثرون من العبادة والخوف والخشية والإنابة والإقلاع عن معاصيه والتضرع إليه والندم، كما قال بعض السلف لما زلزلت الأرض: "إن ربكم يستعتبكم؛ لئن عادت لا أساكنكم فيها".


ويكثر هذا في آخر الزمان؛ كما في الحديث الذي رواه الإمام البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج، وهو القتل القتل، حتى يكثر فيكم المال فيفيض".


ومن هذا خسوف القمر الذي مضى، والذي جعله عالم الكفر متعة سياحية، وتبعهم في ذلك الجهلة وضعاف الإيمان، والحق أنه تخويف من الله لعباده للتوبة والرجوع، ومثله -أيضا- تأخّر نزول المطر، والاستسقاء المتكرر؛ بل والفيضانات في الهند والتي أدت إلى غرق قرى ومدن بكاملها، وأيضا الأعاصير والفيضانات العارمة في بلاد الحضارة والتقدم ماديا أمريكا، والتي لم تستطع أن تواجهها، أو تعمل حيالها شيئا، كل هذه أحداث وقعت في عامنا الذي انصرم.


وفي مثل هذه الأحداث دروس وعبر، لكل من تأمل ونظر؛ من أهمها:
أن توحيد الله هو الغاية العظمى، والهدف الأسمى، والذي من أجله خلق الله الخلق؛ (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون) [الذاريات:56] ويغفر الله للعبد كل شيء إلا أن يشرك في توحيده؛ (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا) [النساء:116].


وأثر الشرك عظيم ووخيم؛ (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان:13]، وفي تلك البلاد وغيرها كفر وشرك ووثنية، وحرب على الإسلامن وهكذا حال كل من أشرك وحارب دين الله، إنها الحقيقة التي أخبر بها القرآن: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام:82]، فالأمن والأمان بمحاربة الشرك والبدع والخرافات، وبتحقيق توحيد الله وطاعته والعبودية له.


إن عقاب الله إذا نزل عم الجميع الصالح والطالح، ولكن على الصالحين النصح والتذكير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج:40].


ومن الأحداث -أيضا- نهاية الألفية الميلادية الثانية، ودخول الألفية الثالثة، والألفية عقيدة من أكبر عقائد أهل الكتاب، فقد جاء في الإنجيل في سفر يوحنا قوله: [مبارك ومقدس من له نصيب في القيامة الأولى، هؤلاء ليس للموت الثاني سلطان عليهم، بل سيكونون كهنة لله والمسيح، وسيملكون معه ألف سنة، ثم متى تمت الألف سنة، يحل الشيطان من سجنه].


إذا؛ فهي ليست ذكرى ميلاد فقط، وليست خصوصية زمان فحسب، بل هي بوابة عبور إلى مرحلة جديدة، لعصر جديد تعتقد اليهود وطوائف من النصارى أن الأرض كلها ستخضع فيه لدين المسيح، وسيكون ذلك على رأس ألفية جديدة.


فالألفية الثالثة هي بزعمهم مملكة المسيح، حيث يحكم المسيح من القدس لألف سنة، ومن تأمل سياسة اليهود والنصارى هذه الأيام، وكأن الأرض ملك لهم، علم أنهم ينطلقون من منطلقات عقدية، وما زيارة (بابا النصارى) قبل أيام لفلسطين أرض الميعاد إلا دليل على هذا.


وينهزم أمام هذه التهويلات الجهلة بالعقيدة الإسلامية وما جاء في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- عن اليهود والنصارى، من بطلان عقائدهم وأناجيلهم المحرفة، وتوراتهم المبدلة، وها هم قد صُدموا بعدم ظهور المسيح في الألفية الثانية، كما صدموا من قبل في الألفية الأولى!.


لقد قلنا من قبل: إن ما يعتقده اليهود والنصارى في عام ألفين وأنه عام اضطرابات، أو نهاية العالم، أو أن لله خصائص خاصة، كلها اعتقادات باطلة، وتخرصات وظنون، بنيت على التوراة والإنجيل المحرفة، وأثبتت الأيام هذا، ولكنهم لا ييأسون، فلنعتبر من جلدهم وعملهم الدؤوب، من أجل عقائد محرفة.


فنحن المسلمين أهل القرآن لدينا العقيدة الصحيحة، مصدر عزنا، وأمننا، حتى في أوقات الفتن والمحن، لكن على كل مسلم أن يسأل نفسه، عن مدى علمه بعقيدته، وتمسكه بأصولها، وماذا قدمنا له؟ وماذا عملنا من أجلها؟ وهل نحن نربي أبناءنا وأجيالنا عليها؟ كل هذه أسئلة تحتاج لإجابات.


فهل لديك -أيها المسلم- في بداية عام هجري جديد ما تجيب به على نفسك؟ فإنك ستسأل، فأعد للسؤال جوابا.


عباد الله: هذه أبرز الأحداث في العام المنصرم، ولكم فيها دروس ودورس، ولكم في تقلب الأيام والشهورِ عِبَر، وأيُّ عبر! وطويت صحيفة عام كامل في حياتنا، فليت شعري ماذا أودعنا في العام الماضي، وبماذا نستقبل العام الجديد؟.


لقد كان إبراهيم النخعي يبكي إلى امرأته يوم الخميس وتبكي إليه ويقول: اليوم تعرض أعمالنا على الله -عز وجل-. وكان الضحاك يبكي آخر النهار ويقول: لا أدري ما رفع مِن عملي. الله أكبر! يبكون من عرض أعمال اليوم والأسبوع ؟ أفلا يبكون من عرض أعمال عام كامل؟!.


اعلموا أن الله -وحده- أعلم بالسرائر، لكن: "ليس الإيمان بالتمني والتحلي، ولكنه ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال" ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" فلنأخذ بحقيقة الإيمان؛ فالإيمان الصحيح متى استقر في القلب ظهرت آثاره في السلوك والتصرفات.


معاشر الإخوة والأخوات! هذه همسات للجميع، لنتب إلى الله، ولنتدارك ما فات، ولنعض على وسائل الثبات حتى الممات، أما الغافلون اللاهون، فهم في نهاية العام أو بدايته غافلون، في غيهم سادرون، قلوب مريضة عز شفاؤها، وعيون تكحلت بالحرام فقل بكاؤها، وجوارح غرقت في الشهوات فحق عزاؤها، في تعاسة وشقاء، وهموم وبلاء.


فمن ينظر في أحوال الغافلين يجد فئاما من الناس تعيش ألوانا من التعب والشقاء، تفقد الراحة والسعادة، وإن كانت منغمسة فيما تتمناه من الشهوات واللذات.


كثيرٌ إن عددتَ رجالُ قومي *** ولكنْ هل سينفعُنا الغُثَاءُ
رجالٌ تائهون فلا تَسَلْنِي **** لماذا استَرْجَلَتْ فينا النساء
عجبت لمن بأيديهم شموعٌ *** فما قدحوا الزنادَ ولا استضاءوا


فيا من ظلموا أنفسهم بفعل المعاصي والمحرمات! أقلعوا عنها قبل حلول الأجل والفوات، افتتحوا العام بالتوبة والاستغفار، حاسبوا أنفسكم؛ فإن من أهمل المحاسبة دامت حسرته وساء مصيره، وما كان شقاء الأشقياء إلا لأنهم كانوا لا يرجون حسابا، وقعوا ضحايا خداع أنفسهم وأحابيل شياطينهم، وافتهم المنايا وهم في غمرة ساهون.


وأبشر -يا عبد الله- فإن من أصلح ما بقي، غفر له ما مضى، واعلم أن الموت يأتي بغتة، وأن الصالحات هي رؤوس الأموال، والربح جنات عدن، والخسارة نار تلظى، لا يصلاها إلا الأشقى، وأنت حسيب نفسك، نسأل الله أن يصلح قلوبنا، وأن يعيننا على أنفسنا.


وفي بداية العام الهجري أؤكد أن التقويم الإسلامي هو التقويم الهجري، وهو بالأشهر القمرية، وهذا أمر مرتبط في جميع شعائر الإسلام؛ كالصوم، والحج، وحول الزكاة، وعدد النساء وغيرها، قال الله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) [البقرة:189].

وإن اعتداد بعض المسلمين الآن بالتاريخ النصراني خطأ واضح يدل على عدم التميز والاعتزاز بالدين الإسلامي وشرعه، فيجب إنكار ذلك على كل من ينتسب للإسلام من دول أو مؤسسات أو أفراد؛ وتبيين أن ذلك له أثر خطير على توقيت شعائر الإسلام، وأنه ينافي صدق الانتساب لهذا الدين.


اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم! نسألك أن تغفر لنا ذنوبنا في عامنا الذي مضى، واجعله خير شاهد لنا برحمتك يا أرحم الراحمين، وبارك لنا في عامنا الجديد، واجعله خيرا ونصرا لنا وللمسلمين في كل مكان.

جديد المواد

تصميم وتطويركنون