المادة

الوطن واليوم الوطني

162 | 23-11-2016
عناصر الخطبة 1/ محبة الأوطان فطرة إنسانية 2/ اليوم الوطني للمملكة 3/ تمتع المملكة بالأمن والاستقرار 4/ لا تعارض بين حب الوطن والحنين إليه وبين الانتماء للإسلام والمسلمين 5/ المذموم في حب الوطن في الإسلام 6/ حب الوطن ليس بالشعارات الجوفاء 7/ من مقتضيات حب الوطن.

الوطن حبه جبلة وفطرة، وغريزة متأصلة في نفوس كل كائن حي -فضلاً عن الإنسان العاقل-، فهو لا يستريح للبقاء والعيش إلا في ربوعه، ويحنّ إليه إذا غاب عنه، فهو مسقط رأسه, ومراتع صباه، ومستقر حياته، ومحل ماله وعرضه وشرفه، وعلى أرضه يحيا، ومن خيراته ينهل، ومن مائه يرتوي، وبه يُعرف،...

الخطبة الأولى:

الحمد لله أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأسأله من فضله المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بعثه الله بشيراً ونذيراً، وهادياً إلى الله بأمره وسراجاً منيرًا.

أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فالتقوى من أسباب القبول والرفعة، (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ) [المائدة: 28].

عباد الله! الوطن حبه جبلة وفطرة، وغريزة متأصلة في نفوس كل كائن حي -فضلاً عن الإنسان العاقل-، فهو لا يستريح للبقاء والعيش إلا في ربوعه، ويحنّ إليه إذا غاب عنه، فهو مسقط رأسه, ومراتع صباه، ومستقر حياته، ومحل ماله وعرضه وشرفه، وعلى أرضه يحيا، ومن خيراته ينهل، ومن مائه يرتوي، وبه يُعرف..

بلادٌ ألفناها على كل حالة *** وقد يُؤْلَفُ الشيء الذي ليس بالحَسنْ

وتُسْتعذب الأرض التي لا هواء بها *** ولا ماؤها عذبٌ، ولكنها وَطَنْ

نعيش هذه الأيام مناسبة تاريخية واجتماعية وذكرى ستة وثمانين عامًا من الاستقرار ونعمة الأمن والإيمان والتلاحم بين الراعي والرعية، نِعم بفضل الله تترى، ومجتمع متعاون متراحم (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام:82].

فالحمد لله حمدًا كثيرًا، وطنُ أمنٍ، ووطنُ إيمان، ووطنُ خيرات حسان، فالمملكة تتبوأ مراحل جديدة من التقدم والازدهار، وتحقق المزيد من الأمن والاستقرار، فقد ارتكزت بلادنا الحبيبة منذ نشأتها على تطبيق الشريعة الإسلامية التي جعلتها تتفرد وتتميز عن غيرها من البلدان في مجال الحكم والإدارة، حتى صارت مملكة الإنسانية مضرباً للمثل على المستوى الدولي من حيث استتباب الأمن وتحقيق الاستقرار.

وما زالت تلك المسيرة واعدة بالخير الوفير والنماء والعطاء بإذن الله تعالى، وهذه الأيام يتوالى الفرح وتعم البهجة بما اشتملت عليه هذه الحقبة من نماء وعطاء وتقدم وتطور، وهو في الوقت ذاته دافع لأبناء هذه البلاد في مختلف مواقعهم، وحافز لهم لبذل المزيد من الجهد والعطاء لحضارة وريادة أكثر تقدماً وتطوراً في العلم والنماء والرخاء والاستقرار، أدام على بلادنا أمنه وإيمانه ونعمه العظيمة.

إخوة الإيمان: دين الإسلام -كعادته في كل شأنه- لم يأت بتغيير الطباع المحمودة والفطر السليمة، ولذا وافق المسلم على حبه لوطنه، بل أمره بالدفاع عنه، والاستماتة في الذب عنه، وأن يفديه بماله وروحه إذا تطلَّب الأمر ذلك، فلا تعارض بين حب الوطن والحنين إليه وبين الانتماء للإسلام والمسلمين، فالإسلام لا يغيّر انتماء معتنقيه إلى أرضهم وأوطانهم، بل حتى ولا إلى شعوبهم وقبائلهم، بل يُصحح هذه الأمور ويرشدها عندما تخرج عن مسارها، أو تُفهم مفهومًا جاهليًّا خاطئًا.

ألم يبق بلالاً حبشيًّا، وسلمان فارسيًّا، ولم يتضارب ذلك يومًا مع انتمائهما العظيم للإسلام.

أليس الإنسان يجد في قرارة نفسه وفي طبيعته أن له محبةً وولاءً وانتماءً لأسرته وعشيرته وأهل قريته ووطنه، كما يحس بانتمائه الكبير للأمة المسلمة باتساعها وتلون أعراقها ولسانها، إذاً فلا تعارض بين هذه الانتماءات، بل هي دوائر يكمل بعضها بعضًا، ويشد بعضها بعضًا.

وإنما المذموم في حب الوطن في الإسلام هو تقديس الإنسان لوطنه إلى درجة يجعله ندًّا للدين، ووثنًا يُعبد من دون الله رب العالمين، فتُسخَّر له كل المبادئ ولو عارضت الإسلام، ويعارَض بها جهلاً الثوابت والمسلمات، ويتعالى به على غيره، وينتقص غيره بسببه، ويتعصب له بالحق وبالباطل كما يفعله ويعتقده القوميون.

وأما التعلق بالوطن والحب الطبيعي له فلا يُستغرب من أحد، بل وردت أمثلة كثيرة من نصوص القرآن والسنة في ذلك، فإننا نجد أن حب الأرض قد اقترن بحب النفس في القرآن الكريم، وأن كلاًّ منهما أمر متأصل في الآخر، قال الله عز وجل: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اُقْتُلُوا أَنْفُسكُمْ أَوْ اُخْرُجُوا مِنْ دِيَاركُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيل مِنْهُمْ) [النساء:66].

كما ارتبط في موضع آخر بالدين، فقال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمْ اللَّه عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَاركُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّه يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة:8]، وقد أوجب الله على المؤمنين الدفاع عن أوطانهم، وعُدّ الموت في سبيل ذلك شهامة وشهادة، وقد قال في قصة الملأ من بني إسرائيل: (قَاَلوُا وَمَاَ لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا) [البقرة: 246].

وفي سنن الترمذي وغيره بإسناد صحيح أنه -صلى الله عليه وسلم- قال وَهُوَ وَاقِفٌ بِالْحَزْوَرَةِ فِي سُوقِ مَكَّةَ: "وَاللهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ".

قال العيني -رحمه الله-: "ابتلى الله نبيه بفراق الوطن".

وفي صحيح البخاري ومسند أحمد وغيرهما عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَنَظَرَ إِلَى جُدُرَاتِ الْمَدِينَةِ، أَوْضَعَ نَاقَتَهُ (أَيْ أَسْرَعَهَا)، وَإِنْ كَانَ عَلَى دَابَّةٍ حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّهَا» قال ابن حجر في شرح الحديث: "فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى فَضْلِ الْمَدِينَةِ، وَعَلَى مَشْرُوعِيَّةِ حُبِّ الْوَطَنِ وَالْحَنِينِ إِلَيْهِ".

ومع كل هذا يجب أن نتنبه عباد الله إلى أنه شتان بين تأصيل حب الوطن وحقوقه، وبين حب الوطن كمظاهر وشكليات، وإسراف مذموم ومنكرات، حيث اختزل البعض مفهوم يوم الوطن ومعناه لمظاهر سلبية بدل أن يُستثمر في توعية الأجيال في بنائه وإعماره، ورقيه وازدهاره.

وما أرخصَ الحبَّ للوطن إذا اختُزل بشعارات وتهنئات وألوان، وصخب وزحام ومعاكسات، وإيذاء للناس في الطرقات! ما أحوجنا أن نستثمر المناسبة بأن نزرع في القلوب الحب الحقيقي للأوطان، حب نجني ثمرته ونراه ونحسه، نترجمه على أرض الواقع، كلٌّ حسب استطاعته ووسعه، ومن مكانه وموقعه، وحسب مسؤولياته.

فمن مقتضيات حب الوطن: الدفاع عنه، والنصيحة له، والحرص على سلامة واحترام أفراده، واحترام نظمه وقوانينه، وثقافته وعقيدته، والمحافظة على مرافقه وموارد الاقتصاد فيه، والحرص على مكتسباته، والحذر من كل ما يؤدي إلى تفرق أهله وتناحرهم من عصبية وقبلية ومذهبية وحزبية ونحوها.

إننا نعيش ذكرى مناسبة توحيد بلادنا والذي كان منعطفًا هامًّا في تاريخها بعد أن عانت من ويلات التجزئة، والتناحر والحروب والتنافس بين القبائل والأمراء، فمن يقرأ تاريخ نجد والحجاز وما كان يدور فيها من حروب وفوضى واضطرابات، وفقدان نعمة الأمن والأمان، علم قيمة ما نحن فيه، فتوحيد المملكة نعمة من الله لأهل هذه البلاد ولحجاج بيت الله الحرام القادمين من كل فج عميق، وخدمة للحرمين الشريفين اللذين تهوي إليهما أفئدة المسلمين، ليحج إلى بيت الله الحرام كل عام ملايين الحجاج من المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها.

وهذا يحتاج منا إلى شكر لله على نعمة وحدة الصف، وجمع الكلمة، ونعمة الأمن والأمان، ونعمة سَعة الخير والبر والبركة، فمهم جداً في هذه المناسبة أن نُذكر الناس بهذا المعنى العظيم الذي يُحقق العبودية لله الواهب لهذه النعم، فإن كنا حقاً نحب الوطن فليكن تعبيرنا عن حبنا إيجابيًّا فنتذكر ونُذكر الناس والأجيال بعظمة شكر الله، ونتواصى بغرس حقيقة الحب للوطن ولأهله بالاحترام المتبادل بين الناس وكف الأذى والغيبة والقيل والقال، وعدم ظلمهم وغشهم أو سلب أموالهم وحقوقهم.

وعلى الجميع أن يسعى في تحويل هذه المناسبة من مجرد مظاهر ومظاهرات وأعلام إلى بناء وتصحيح وتطوير لكثير من المظاهر والمشاكل الاجتماعية والأخلاقية والإدارية والمالية التي أضرت بالوطن والمواطن من فقر وبطالة وغلاء أسعار، ورشاوى ومحسوبية، وتعطيل لمعاملات الناس، وتشويه للمرافق العامة من حدائق وطرقات ومدارس ومبان وغيرها مما يجب أن تكون مدار الاحتفاء الإيجابي بهذا اليوم الرمزي لتاريخ بلادنا.

فالحب الحقيقي للوطن من الإيمان، ومن الدين، بل هو واجب على المسلمين، لكنه الحب الوطني الصادق حين يكون الحب قدوةً ومسؤوليّة، وحين يكون الحب عملاً وجديةً، فالأرض التي نشأنا عليها منذ نعومة أظفارنا نأكل ونشرب من خيراتها، أمرنا الله أن نعمرها ونزرعها ونحرسها، ولأهلها الذين نشترك معاً في العيش على ظهرها حقوق وواجبات، فالمواطنة الصادقة حب وتلاحم وتكاتف بين الراعي والرعية، وإقامة للإيمان والعدل والإحسان واحترام الإنسان.

المواطنة الصادقة مشاركة في خدمة المجتمع وتفاعل وبناء وإنجاز، ومحافظة على مكتسبات وثروات الوطن، ودفاع عن الوطن والمواطن وحقوقه، ووقوفٌ كَيَدٍ واحدةٍ في وجه المخربين والمفسدين.

إخوة الإيمان: إننا اليوم نؤكد ما يكرره وينادي به ولاة أمرنا وفقهم الله في كل مناسبة: أن الحب الحقيقي للوطن قدوةٌ ومسؤوليّةٌ، وتفاعلٌ وجديةٌ، وليس مجردَ مناسبةٍ شكليةٍ، فلنكن حقاً عوناً لهم لبناء وطن شرفه الله بالحرمين الشريفين، وبمنبع رسالة التوحيد، ليكون وطناً إسلامياً حضارياً نظيفاً يسوده العدل والحرية وإنصاف المظلوم، فنصوص وقواعد الشريعة جاءت بالعدل والتيسير على الناس، ورفع الضرر عنهم، وتنهى عن النهب والظلم والفساد، وليس العيب في الخطأ، فكل بني آدم خطاء، لكن العيب في الإصرار والاستمرار على الخطأ.

فتعالوا إخوة الإيمان نستثمر مناسبات الاحتفاء بهذا اليوم بزرع الحب الحقيقي في نفوسنا ونفوس أبنائنا وبناتنا، وبدلاً من التذمر والتشكي والسلبية فلنستثمر الحدث بوضع منهجية متماسكة ومتكاملة لإحياء الروح الوطنية الشرعية في نفوس الأجيال، كونه يومًا تُحشد رسمياً لأجله عوامل التهيئة النفسية والاجتماعية والإعلامية والعاطفية، وأخيراً فإن أهل العربية يقولون: كل من وطن أرضًا وسكن فيها.

فهو مواطن. ولذا فمن المناسب تذكر المقيمين من الجاليات من إخواننا المشاركين لنا ببناء هذا الوطن، وساهم في نهضة البلاد، فلنحفظ لهم حقوقهم، ولنرد لهم مظالمهم، ولنحترمهم ونعاملهم بالعدل والإحسان الذي أمر الله به، خاصة ممن ولدوا عل أرضه وشاركوا بعمارته، فهم أولى بالإنصاف ورد مظالمهم، وهذا كله من صميم معاني الوطنية الشرعية التي أقرها وأمر بها الشرع الحنيف.

حفظ الله بلادنا، وأدام عليها أمنها وأمانها، وجعلها عزيزة بدينها ليوم الدين، خادمة للإسلام وللإنسانية في كل مكان وزمان.

وأخيرًا أذكر بما هو معلوم شرعاً بأنه لا يجوز لنا أن نتخذ هذا اليوم عيدًا؛ لأنه ليس لنا كمسلمين إلا العيدين الشرعيين السماويين: الفطر والأضحى، وإنما جُعل كمناسبة تاريخية مهمة في مسيرة بلادنا، وتحول كبير في تاريخها.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

جديد المواد

تصميم وتطويركنون