المادة

المحافظة على المصالح والأموال العامة

165 | 23-11-2016
عناصر الخطبة 1/ معنى المحافظة على المصالح والأموال العامة 2/ تحذير الإسلام الشديد من التلاعب بالمال العام 3/ الهدي النبوي في التعامل مع المال العام 4/ بطلان حجج المتخوضين في المال العام 5/ عمر بن عبد العزيز كأنموذج للمسؤول المتعفِّف 6/ العقوبات الدنيوية العاجلة لتعاطي الحرام 7/ مواقف لصالحي زماننا يجب أن تشكر وتذكر

واليوم سنتحدث عن فضيلة رابعة من قيم وأخلاقيات العمل، وهي فضيلة عظيمة وهامة، كثر الحديث عنها في الآونة الأخيرة، حتى أصبحت ظاهرة تهدد المال العام؛ إنها فضيلة المحافظة على المصالح والأموال العامة في المؤسسات والشركات، والمدارس والهيئات والوزارات؛ فتنفيذ العقود، والالتزام بالمواثيق، واتباع القوانين والنظم المرعية, يشكل الإطار الأساسي والضامن الرئيس للمحافظة على...

الحمد لله حمد الشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للناس أجمعين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن سلك سبيلهم إلى يوم الدين.

أما بعد: أيها المسلمون، اتقوا الله حق التقوى، واعلموا أن أقدامنا على النار لا تقوى، وتذكروا دائمًا أن حقيقة التقوى في السلوك والتطبيق، وليس مجرد التأثر والتصديق.

وقد كان لنا حديث سابق عن قيم وأخلاقيات العمل، وبدأنا بـ "الوفاء بالعقود والعهود"، ثم فضيلة "الأمانة"، ثم "الصدق".

واليوم سنتحدث عن فضيلة رابعة من قيم وأخلاقيات العمل، وهي فضيلة عظيمة وهامة، كثر الحديث عنها في الآونة الأخيرة، حتى أصبحت ظاهرة تهدد المال العام؛ إنها فضيلة المحافظة على المصالح والأموال العامة في المؤسسات والشركات، والمدارس والهيئات والوزارات؛ فتنفيذ العقود، والالتزام بالمواثيق، واتباع القوانين والنظم المرعية, يشكل الإطار الأساسي والضامن الرئيس للمحافظة على المصالح والأموال العامة.

فما المقصود بالمصالح والأموال العامة؟ إنها: كل ما تعود ملكيته أو منافعه لمجموع الناس، الذي تشرف في العادة على إدارته الحكومات وموظفوها.

ويمكن أن يقال أيضًا: إنها كل ما لا تعود ملكيته لأفراد محددين.

والمحافظة عليها تعني: رعايتها، والتصرف حيالها على وجه يستمر معه بقاؤها, ويدوم نماؤها, وذلك في إطار ما هو مقرر ومعمول به.

ولو تأملنا في نصوص الوحيين من القرآن والسنة لوجدنا حثها وتأكيدها على وجوب المحافظة على المصالح والأموال العامة والتحذير من خيانتها، ومن ذلك: قول الله -تعالى-: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [آل عمران:161].

قال جمهور المفسرين: معنى يغل: يخون. وذلك أنهم فقدوا قطيفةً يومَ بدر, فقال أحدهم: لعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذها, فأنزل الله -تعالى-: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ).

والغلول هو الخيانة في المغنم وغيره مما يُعد ملكًا عامًا.

وقال -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَهُمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".

وقد شدَّد -صلى الله عليه وسلم- في أمر المال العام تشديدًا قلّ نظيره في أي أمر من الأمور، إلى درجة تحذير الموظف من أخذ ما ليس له مهما كان صغيرًا, ولو كان إبرة! كما في قوله: "مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".

فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ، قال: "وَمَا لَكَ؟" قَالَ: سَمِعْتُكَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا! قَالَ: "وَأَنَا أَقُولُهُ الْآنَ: مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى".

ووضح -صلى الله عليه وسلم- في حديث آخر خطورة السرقة من المال العام, وبيّن أن الموت في سبيل الله لا يحول بين المؤمن وبين المساءلة والمعاقبة على شيء أخذه من ذلك المال, حيث قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا: فُلَانٌ شَهِيدٌ، فُلَانٌ شَهِيدٌ، حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ فَقَالُوا: فُلَانٌ شَهِيدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "كَلَّا! إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ -أَوْ عَبَاءَةٍ- غَلَّهَا".

وذكر -صلى الله عليه وسلم- في حديث آخر هول الفضيحة التي يتعرض لها السارق والغالّ من المال العام حين يأتي يوم القيامة وقد حمل على عاتقه ما كان قد سرقه في الدنيا.

فقد قال أبو هريرة-رضي الله عنه-: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ، ثُمَّ قَالَ: "لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي! فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي! فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ، يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي! فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ -يعني الذهب والفضة وما يقوم مقامهما من العملات الورقية-، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي! فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ" رواه الشيخان.

ويحذر-صلى الله عليه وسلم- مرة أخرى الموظف المسلم من الاستخدام الشخصي لما بين يديه من أشياء وأدوات كالسيارات, والأدوات المكتبية، ونحو ذلك مما تعود ملكيتها للأمة أو للعمل الذي يعمل فيه, ويذكّر ذلك الموظف بإيمانه بالله واليوم الآخر لعل الإيمان يحجزه عن الوقوع في ذلك, فيقول-صلى الله عليه وسلم-: "وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَرْكَبْ دَابَّةً مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى إِذَا أَعْجَفَهَا رَدَّهَا فِيهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَلْبَسْ ثَوْبًا مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى إِذَا أَخْلَقَهُ رَدَّهُ فِيهِ" وإسناده حسن.

وقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ" رواه الشيخان.

ففي هذا الحديث يحض النبي -صلى الله عليه وسلم- المسؤولين والمدراء على اختلاف مراتبهم على بذل الجهد في إسداء النصح للرعية والمرؤوسين, ويُنبههم إلى أن غشهم يترتب عليه الحرمان من دخول الجنة مع السابقين.

وحين سأل أبو ذر الرسولَ -صلى الله عليه وسلم- أن يستخدمه في عملٍ للدولة حذره من ثقل الأمانة وعدم التمكن من النهوض بالمسؤولية, فعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي ثُمَّ قَالَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا".

وذكر -صلى الله عليه وسلم- تحرزه وحرصه الشخصي من أن يأكل شيئًا حرمه الله عليه ولو كان صغيرًا لا يُؤبه له, حتى تتعلم منه أمته الابتعاد عن مواطن الشبهات والمحرمات, فيقول: "إِنِّي لَأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِي فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي فَأَرْفَعُهَا لِآكُلَهَا ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً فَأُلْقِيهَا" رواه الشيخان.

معاشر المؤمنين والمؤمنات: هكذا فليكن المسلم مع الله، يخافه ويخشاه، خاصة فيما يتعلق بالحقوق العامة؛ فهي ملك للجميع وللمجتمع وللوطن، لا يجوز بحال أن يتفرد بملكيته أو بمنفعته شخص بعينه.

ولا يجوز بحال أن يُحتج بأن هذا ملك للدولة فهو حلال للجميع أو يُحتج بتعدي الآخرين، وأن كلاً يتعدى ويأخذ، وغير ذلك من الأعذار التي يصدق فيها المثل السائر: "عذر أقبح من ذنب"، فـ (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) [المدثر:38]، وكلّ سيحاسب وحده، وكل سيُسأل عن الفتيل والقطمير.

فميزان هذا الدين يزن مثاقيل الذر كما أخبر الله فقال: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة:7-8].

وإلا؛ لَمَا حاسب عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- نفسه على رائحة الطيب؛ فقد كان المسك يُحمل إليه في مال المسلمين ليقسمه بينهم فإذا وضعوه بين يديه سد أنفه حتى لا يشم المسك، فإذا قالوا له: إن هذا ريح فقط! أجابهم: وهل يُنتفع من المسلك إلا بريحه!.

يا الله! إنه موقف يهز من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان! موقف من يعلم أنه لا محالة سيقف بين يدي الملك الديان، موقف من يفهم ويعقل ما يُردده في صلواته المفروضة كل يوم سبع عشرة مرة: (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة:4]، أي: يوم يُدان الناس فيه ويحاسبون!‍.

ولم يكن موقفا واحدا تحمس فيه عمر؛ بل هو منهج له يسلكه في كل شؤونه، فقد رأى ابنه يأخذ تفاحة من تفاح يقسمه بين المسلمين، فانتزعها منه، فبكى الولد وذهب إلى أمه، فلما عاتبت زوجها على ذلك قال: والله لقد انتزعتها وكأني أنتزعها من قلبي، ولكني كرهت أن أضيع نفسي عند الله -عز وجل- بتفاحة من فيء المسلمين!.

واشتهى عمر بن عبد العزيز يومًا أن يأكل تفاحًا، فأهدى إليه بعض الناس جانبًا منه فرفضه عمر، فقيل له: لِم ترفض والنبي -صلى الله عليه وسلم-كان يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة؟ فأجاب عمر: إن الهدية كانت لرسول الله هدية، وهي اليوم لنا رشوة!.

وكأنه -رحمه الله- يُشير إلى حالنا وواقعنا اليوم؛ فالهدايا والإكرامية والعمولة وغيرها من المسميات التي تُشترى بها الذمم وتُباع، تعددت المسميات والهدف واحد: رشوة وسكوت وحيل وخداع وتدليس، وأكل مال بالباطل، هكذا كانت استجابة وتطبيق عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- للنصوص الشرعية، فهو يُعطي درسًا عمليًّا لكي يتفطن المسؤول والموظف والعامل لحيل النفس، ويَحذر خطوات الشيطان، وإلا فالنفس ضعيفة لا يزال بها شيطانها، وشياطين الإنس ممن حولها يُهونون عليها الرشوة والسرقة والتعدي بشتى صوره، ويُسمونها بغير اسمها.

وربما يضعف الموظف أمام فقره وحاجته، وأمام ظروف الحياة المعاصرة ومتطلباتها، وكثرة حاجات ونداءات الزوجة والأولاد، ظنًّا منه أن هذا سينقذه مما هو فيه، وهنا تغيب الحقائق والقيم والأخلاقيات من بركة المال، أو الخوف من محقه وخسارته.

وكم هي صور المصائب والكوارث المتمثلة في خسارة المال ومحق بركته، أو في كثرة المشاكل الأسرية والبيتية، أو في عقوق الأبناء ونكدهم، والتي هي نتاج عاجل ودنيوي لأكل الباطل.

أما في الآخرة فيكفي تدبر قول تلك الصالحة وهي توصي زوجها فتقول: يا هذا! اتق الله في رزقنا! فإننا نصبر على الجوع، ولا نصبر على النار!.

وهكذا تتربى النفوس على التحفظ عن الحرام، خاصة في حفظ الحقوق العامة والمال العام.

وكم رأينا وسمعنا فئامًا من الناس -والحمد لله- تتقي المال العام وتتحرز منه، ويتضح ذلك من كثرة أسئلتهم قبل الوقوع والإقدام، بل والندم متى عُرف الخطأ، والسؤال بكيفية السلامة والنجاة منه.

والمواقف في هذا الباب كثيرة؛ فإن لصالحي زماننا سِيَرَاً ومواقف يجب أن تذكر وتنشر، وتعلن وتشكر، وهذا هو موضوع الخطبة القادمة بمشيئة الله -تعالى-.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

جديد المواد

تصميم وتطويركنون