المادة

الكسوف بين الأسباب المادية والشرعية

185 | 23-11-2016
عناصر الخطبة 1/ تفكُّرٌ في بعض مخلوقات الله 2/ ضلال الإعلام باتباع الغرب في تحليل الظواهر الطبيعية 3/ وجوب الجمع بين الأسباب الشرعية والحسية 3/ الهدي النبوي العملي وقت الخسوف والكسوف 4/ بيان الشرك في التفسيرات المادية الخالصة للظواهر 5/ تحسُّرٌ على القلوب الغافلة عن مخلوقات الله
هكذا المسلم في هذه الأحوال، توبةٌ واستغفار، ومحاسبة وانكسار؛ أمَّا الجُهَّال والكفار، فقد حارت الأفكار في قدرة الله، واضطربت الأفهام في عظمته، وذهلت الأذهان في حكمته، فظَنَّ الكافرون، وتبعهم الجاهلون، وسودوا الصفحات، وملؤوا الفضائيات بأن كسوف الشمس من صنع الطبيعة وعجائبها، وذهبوا لتعليل الأحداث بمعلولات طبيعيَّةٍ بحتة دون النظر إلى موجدها وخالقها، وتعلقها بمشيئته وقدرته ..

الحمد لله المبدئ المعيد، ذي العرش المجيد، الملك ملكه، والخلق خلقه، يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأسأله من فضله المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهو على كل شيء شهيد، وأشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه من العبيد.


أما بعد:


عباد الله: خلق الله لكم عقولا لتعقلوا، وأبصارا لتبصروا، وآذانا لتسمعوا أموركم بالنظر والتفكر، والتأمل والتدبر، سبحان الله العظيم! تأملوا في الأرض والسموات، وتفكروا في البحار والمحيطات، وانظروا للجبال الراسيات، آه لو تأمل البشر -فقط- في الشمس والقمر! آيات وعبر، فالنور والظلام والليل والنهار، من أعظم الآثار، البحار والأشجار، والأمطار والأزهار، وكلها آثار، فانظروا للشمس كيف أبدع سناها، وسيَّرَها إلى منتهاها، وبلغها مداها، (وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا) [الشمس:2-4].


فسبحان الله العظيم! كلما ترعرع ورد وأزهر، وكلما لمع بارق وأمطر، وكلما تنفس صبح وأسفر، سبحان الله العظيم الواحد القهار، والملك الجبار، مكور الليل على النهار! لا إله إلا الله في علاه، لا نعبد إلا إياه، ولا ندعو سواه، آمنا به مدبرا للكون، في السراء والضراء، وفي الشدة والرخاء، ملاذنا عند الخطب الجلل، وملجؤنا في الأزمات والعلل، العبودية له شرف، الذل له عز، الافتقار إليه غنى، (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف:54].


أرغم بحجته أنوف الضُّلَّال، أهل الزيغ والضلال، فسبحان ذي الجلال! يوم قال: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [يس:38].


لا إله إلا الله والله أكبر! كواكب وأجرام، من صخور ورمال، تطير في الهواء، بين الأرض والسماء: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) [النمل:88]. (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) [نوح:13]؟ (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الذاريات:21]؟.


أيها السامعون رفقاً بنَثْري *** إن نثري مشاعرٌ منظومهْ
إنه أنَّةٌ من الصدر حرَّى *** وأسىً من حشاشةٍ مكلومه
إنه فطرةٌ إلى المجد ترنو *** وإلى العلم والحجا منظومه


عباد الله: ولدنا على فطرة التوحيد، ونشأنا وترعرعنا عليها، ونسأل الله أن يختم لنا ولكم عليها، فمنذ أن رأت عيوننا الشمس وكلنا يعلم أن نورها وشعاعها نعمة وآية من آيات الله، وبفطرتنا وسلامة عقيدتنا نعلم أن حجب نورها ومنع إشعاعها إنما هو نقمة وغضب ممن يأتي بالشمس من مشرقها ويردها إلى مغربها.


وفجأة؛ وبكل ألم وحسرة وحرقة! نجد أن حجْب نور الشمس أصبح تسلية وترفيها! وسياحة وتجارة! ويا ليتها فرنت بالتفكر بقدرة الله، وعظمته، فضلا عن خوفه وخشيته! بل تنسب للطبيعة وصنعها وعجائبها، هذا ما قرأناه وسمعناه من بعض وسائل الإعلام! فهل هو إجهاض لفطرتنا؟ أم تمييع لعقيدتنا؟!.


ليس هذا اعتراضا منا على النتائج العلمية، والتحليلات الفلكية، ولكنه اعتراض على الأخذ بالأسباب المادية -فقط- دون الأخذ بالأسباب الشرعية، مع أنها هي الأصل في هذه الأحداث الكونية، ولا تنافٍ بينهما، فالأسباب الطبيعية يقدرها الله حتى تكون المسببات، وتكون الحكمة من ذلك هو تخويف العباد، فالزلازل لها أسباب، والصواعق لها أسباب، والبراكين لها أسباب، والعواصف لها أسباب؛ لكن يقدر الله هذه الأسباب من أجل استقامة الناس على دين الله، كما قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم:41].


ولكن تضيق قلوب كثير من الناس عن الجمع بين السبب الحسي والسبب الشرعي، وأكثر الناس أصحاب ظواهر لا يعتبرون إلا بالشيء الظاهر؛ ولهذا تجد الكسوف والخسوف لما علم الناس أسبابهما الحسية ضعف أمرهما في قلوب الناس حتى صار كأنه أمر عادي؛ بل صار أمرا للتسلية والسياحة، وبل واستنكر خوف وهلع الناس منه!.


فهذه صحيفة سيارة تقول، وبالخط العريض: العالم العربي يستقبله -أي الكسوف- بشيء من الهلع، غياب كامل لأي استغلال سياحي! ثم تنقل استغراب أحد الأساتذة الجامعيين من قلق بعض الناس من ظاهرة كسوف الشمس، مبينا أن العلم الحديث استطاع التنبؤ بهذه الظاهرة قبل حدوثها، مؤكدا أن لا أساب منطقية لهذا الخوف.


بل بالغت بعض الصحف فنقلت عن أحد المنجمين الأوروبيين قوله: إن يوم الأربعاء سيكون نهاية العالم، وسينزل في هذا اليوم رعب من السماء، ونيران تأكل الأخضر واليابس! وذكرت صحيفة الرياض أن رجلا قتل زوجته وانتحر خوفا من نهاية العالم.


وقد أشارت إحدى الصحف أن رؤية الكسوف نعمة واستمتاع فقالت: وأبرز المدن العالمية التي تنعمت بكسوف شبه كلي وغياب جزئي للسحب هي مدينة(شتوت قارت) الألمانية تليها (برلين) وكذلك استمتعت (باريس) بمنظر جميل للكسوف رغم أنه كان جزئيا هناك.


والمشهد الأخَّاذ فعلا كان من حظ السليمانية والموصل في العراق، والأجمل منه كان في إيران! ثم ذكرت الصحيفة أنه صاحَبَ الكسوف في بعض مدن قبرص ولبنان هزات أرضية، وأمطار وبرد ذو حجم كبير ألحقت أضرارا بعشرات المنازل ومصرع امرأة وإصابة أخرى...


ثم قالت: إن مصادر في جامعة (شيفيلد) في بريطانيا نفت علاقة هذه الظواهر بالكسوف، وأكدت أن الأمر مجرد مصادفة ليس إلا...


دعوه حرَّا ويا للناس مِن زمنٍ *** قال المخفون وزنا نحن أحرارُ
حرية ظلموها واسمها لغةً *** فوضى وسيان شاؤوا الحق أم جاروا
لأنها بدعة التقليد نافقة *** قالوا؛ فقلنا، وسرنا حيثما ساروا!


إن كان هذا من أقوال الكافرين فـ (ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) [النجم:30]. وليس بعد الكفر ذنب! ولكن العتب والعجب أن تسود صحف المسلمين بمثل هذا الغثاء! إل متى سيظل الإعلام يفقد الهوية الإسلامية؟ أين وسائل الإعلام عن ذكر الأسباب الشرعية لوقوع الكسوف، والحكمة منه، وتخويف الناس من المعاصي والذنوب؟ ألم يقل الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، يخوف الله بهما عباده، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس، فإذا رأيتم منها شيئا فصلوا، وادعوا الله، حتى يكشف ما بكم".


لم لم ينصح الناس -وبالخط العريض- بالفزع إلى الله وإلى الصلاة، وكثرة التوبة والاستغفار، والصدقة، والدعاء؟ لماذا لم يذكر الناس بصفة صلاة الكسوف وكيفيتها؟... لماذا لم يحدث الناس عن أثر الصلاة في انجلاء الكسوف وزواله؟ وغيرها من أحكام وآداب كان المسلمون بأمسّ الحاجة إليها للتذكير بها، بدل التحليلات والتحذيرات، وربطها بالماديات، فإن وجب التحذير من مخاطر الكسوف الصحية من باب النصح لعامة الناس، فإن النصح لهم من أخطار الذنوب والمعاصي أشد وجوبا، والتي بسببها ومن أجلها قضى الله بالكسوف والخسوف، والزلازل والبراكين، والفيضانات والأزمات.


أما أن تكون الأخبار مجرد ترجمة حرفية، تصاوير حرفية للصحافة الغربية، في ظواهر كونية، وعجائب طبيعية، وأخطار صحية، وإثارات سياحية، فإن هذا -وربي-! هو الذل والتبعية، سبحان الله! حتى في مسائلنا العقدية، وأحكامنا الشرعية! فماذا بقي لديننا وعقيدتنا؟ فاللباس (موديل)، وقص الشعر (موضة) والغناء فن، والحجاب تقاليد، تمييع للدين، وزعزعة لمسلمات العقيدة.


فاتقوا الله أيها الإعلاميون، فالكلمة أمانة ودين، فـــ "إن العبد يتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها، يهوى بها في النار، أبعد ما بين المشرق والمغرب".


وإني أفكر وأتساءل: ماذا ستقول وسائل الإعلام إذا ظهر المسيح الدجال ومعه من البراهين ما يسلب الأذهان ويطير بالعقول والأبصار؟ ماذا ستقول عندما يخرج المسيح الدجال فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت؟... ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك؛ فتتبعه كنوزها كيعاسب النحل، ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا، فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين زمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجههه، يضحك؟! وفي رواية: "الدجال أعور العين اليسرى، جفال الشعر، معه جنة ونار، فناره جنة وجنته نار".


كل هذه الفتن والمرعبات إنها بمفاهيم أهل السياحة الآن تجديد وإثارة، وأنس وانبساط، فكيف إذا صاحب هذا تزويق ودندنة من وسائل الإعلام؟ كيف سيكون حال الناس والإقبال على المسيح الدجال؟ ومن أراد الإجابة فلينظر لإقبال الناس الآن على الإعلانات التجارية وتأثرهم بها، وهي مجرد حركات وتمثيل، فكيف بالحقائق التي تهيل؟!.


إخوة الإيمان: إن سألتم عن العلاج فهو الاعتصام بالكتاب والسنة، إنه الاعتصام بالإيمان، الاعتصام بالعلم الشرعي بالعقيدة الصحيحة؛ "تركتُ فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنة نبيه".


إذاً؛ فالكسوف آية من آيات الله، يخوف الله به عباده، ويختبرهم، فالله -تعالى -يقول: (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) [الإسراء:59]، ولما كسفت الشمس قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي، فأطال القيام جدا، وقد تجلت الشمس، فخطب الناس، فحمد الله, وأثنى عليه، ثم قال: "إن الشمس والقمر من آيات الله، وإنهما لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فكبروا، وادعوا الله، وصلوا، وتصدقوا، يا أمة محمد! ما من أحد أغْيَرُ من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد! والله لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا، ألا هل بلغت".


نعم لقد بلغت يا رسول الله، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وها نحن نبلغ ببلاغك، ونذكر الغافلين بأن الله يغار، وغيرته أن تنتهك محارمه!.


ونظرة سريعة لأحوال المسلمين اليوم تنبئك بل تكفيك عن كثرة المقال وبيان الحال، فكيف هي البطون الحبلى بأكل أموال الناس بالباطل، والحيل والغش والخداع، ناهيك عن الحرب لله ورسوله في الربا من معاملات ومساهمات؟ أصبحنا نسمع عن الزنا وانتهاك الأعراض، وأولاد الحرام، وحالات قتل الأجنة، وكم نقرأ ونسمع، لم ينادَى بالاختلاط والتبرج والسفور، والسفر لبلاد العهر والفجور، بوضح النهار وبدون حياء؟ وكم وكم... من صور الفساد، واللجاجة والعناد، التي ظهرت بين العباد، (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[لقمان:41].


فقد تعددت أيديهم حتى على الفضاء، فها هي بلاد المسلمين تتعرض كل ليلة للقصف الجنسي من بلاد الغرب الكافر، والذي يعيش جنونا جنسيا محموما، فاستجاب لهم ضعاف الإيمان من الذين لا همّ لهم سوى سعار الشهوة، وشبق الجنس، وانفلات البصر، والنظر المحرم، فيا عجبا ممن حبسوا أنفسهم وأولادهم في البيوت وطلبوا النظارات الواقية من أشعة الشمس خشية العمى! والعمى عمى القلب، خافوا على أبصارهم من الأشعة، أفلا يخافون -أيضا- عليها من لهب النار؟ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون) [التحريم:6].


أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:


الحمد لله معز من أطاعه، ومذل من عصاه، أحمده سبحانه وأشكره، من توكل عليه كفاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إله غيره ولا رب سواه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أكرمه الله بالرسالة واصطفاه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.


عباد الله: إن الحكمة من الكسوف: تخويف لنا من الله، فهل خفنا؟ وهل اتعظنا؟ وهل اقشعرت الجلود والأبدان، ودمعت العيون والأجفان؟ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل يبكي في سجوده وينفخ ويقول: "رب لم تعدني هذا وأنا أستغفرك، لم تعدني هذا وأنا فيهم" إلى أن قال: "فإذا انكسفت إحداهما فاسعوا على ذكر الله -عز وجل-".


وهل فزعنا إلى الصلاة، فقمنا طويلا وركعنا وسجدنا؟ قالت عائشة: "كسفت الشمس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقام قياما شديدا يقوم بالناس... حتى إن رجالا يومئذ يغشى عليهم، حتى إن سجال الماء لتصب عليهم مما قام بهم... فلم ينصرف حتى تجلت الشمس...".


ذِكر ودعاء وصدقة وعتق، واستغفار، وتوبة، هكذا كان وهكذا هو حال المسلمين الصادقين في مثل هذه الآيات.


فلنتدبر ولنتعظ بما يحصل، فإنما هي ذنوبنا؛ (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير) [الشورى:30]. ويقول -تعالى-:(مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) [النساء:89]. ويقول -تعالى-: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) [آل عمران:165].


هكذا المسلم في هذه الأحوال، توبةٌ واستغفار، ومحاسبة وانكسار؛ أمَّا الجُهَّال والكفار، فقد حارت الأفكار في قدرة الله، واضطربت الأفهام في عظمته، وذهلت الأذهان في حكمته، فظَنَّ الكافرون، وتبعهم الجاهلون، وسودوا الصفحات، وملؤوا الفضائيات بأن كسوف الشمس من صنع الطبيعة وعجائبها، وذهبوا لتعليل الأحداث بمعلولات طبيعية بحتة دون النظر إلى موجدها وخالقها، وتعلقها بمشيئته وقدرته، فتعلقت قلوب الكثير من الناس -إلا من رحم الله -بهذه التعليلات المادية الجافة، (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا) [الكهف:5].


ورحم الله الإمام المجدد بن عبد الوهاب يوم أن ذكر في كتابه (القواعد الأربع) فقال: القاعدة الرابعة: أن مشركي زماننا أغلظ شركا من الأولين؛ لأن الأولين يشركون في الرخاء، ويخلصون في الشدة، ومشركو زماننا فشركهم دائم في الرخاء والشدة. اهـ.


وقد حكى القرآن هذا عنهم فقال: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) [العنكبوت:65]؛ أما مشركو زماننا فيركبون البحر والفضاء، ويشركون في الشدة والرخاء، فهم يقولون عن الزلازل إنها بسبب تخلخل القشرة الأرضية وتصدعها بسبب التراكمات الرسوبية، والله -جل وعلا –يقول: (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُون) [النحل:45].


فهم مكروا السيئات فكانت عقوبتهم أن زلزل الله الأرض من تحتهم، وعن الفيضانات والسيول الجارفة، يقولون: هو بسبب تكثف الهواء الساخن مع جبهة هوائية باردة، والله -عز وجل -يقول عن قوم سبأ لما أنعم عليهم بالنعم العظيمة فكفروا بها: (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ) [سبأ:16-17]،


وقوم عاد رأوا السحاب فقالوا: (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) [الأحقاف:24-25].


ويقول الماديون أيضا: إن تحطم الطائرات وغرق السفن والعبارات إنما بسبب خلل فني، وينسون الخلل الشرعي، والله -تعالى- يقول: (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا * أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا) [الإسراء:68-69].


أيها الماديون! شمس تسطع، ونور يلمع، ونجوم تلوح، وشذا يفوح، وسماء ذات أبراج، وبحر ذو أمواج، جبال ووديان وسفوح وغدران، وصحار وجنان، وأثر يدل على المسير، وبعرة تدل على البعير، أليس في ذلك دليل على اللطيف الخبير؟.


مَن علَّم النملة أنْ *** تشيد جُحرا في التراب؟
مَن علم النحلة أن *** تنسج بيتاً من لُعاب؟
من علم العصفور أن *** ينظم عُشَّاً في الهضاب؟
ذاك هو الله الذي *** أبدع في الخلق العجاب؟


فيا حسرة على العيون إذا لم تدمع من خشيته! وعلى القلوب إذا لم توجل من عظمته!.


عباد الله: ولا اعتراض على إمكانية اكتشاف حدوث هذه الآيات قبل وقوعها، فإن هذا من العلم الذي فتح الله به على عباده، وأطلعهم عليه بقدرته ومشيئته، ولا يعني ادعاء علم الغيب، إذ لو كان غيبا ما علمه أحد، ولو اجتمعت الإنس والجن، كقيام الساعة، والموت، وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله، (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء:85].


ولكن؛ أن نسمع في اليوم مئات التقارير للأحوال الجوية، والتحليلات الإخبارية، والإثارات الصحفية، والأرقام الفلكية، ثم ينسب ذلك كله للظواهر الكونية، والمسببات الطبيعية، وينسى أن الله -عز وجل- هو المسبب لها، أخشى -والله- أن يقع هؤلاء في الشرك بالربوبية، والتي اعترف بها أهل الجاهلية!.


فالشرك قد يقع في توحيد الربوبية، فعن زيد بن خالد الجهني أنه قال: صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليلة، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما مَن قال: مُطِرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي وكافر بالكواكب، وأما من قال: بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب".


تأمَّلْ في نبات الأرض وانظر *** إلى آثار ما صنع المليكُ
عيونٌ من لجين شاخصات *** بأحداقٍ هي الذهب السبيك
على كثب الزبرجد شاهدات **** بأن الله ليس له شريك


لمن تلهج الألسنة إذا لم تلهج بذكره؟ لمن تخفق القلوب إذا لم تخفق بشكره؟ لمن تعنو الوجوه إذا ما عنت لوجهه؟ لمن تسجد الرؤوس إذا لم تسجد له؟! توحيده أعظم سبب، ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب، مالنا من دونه من ولي ولا شفيع، وليس لنا سواه حافظ ولا نصير.


اللهم أبرد لاعج القلب بثلج اليقين، وأطفئْ جمر الحرقة بماء الإيمان، يا رب اهد حيارى البصائر إلى نورك، وضُلَّال المناهج إلى صراطك المستقيم، والزائفين عن السبيل إلى هداك.


اللهم أذهب عنا الحزن، وأزل عنا الهم، واطرد من نفوسنا القلق؛ اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك، والركون إلا إليك، أنت ولينا، نعم المولى ونعم النصير!.


اللهم حقق الآمال، وأصلح الأعمال، وحسِّن الأحوال، وسدد الأقوال.


اللهم اجمع شمل الأمة، واكشف الغمة، وانصر الدين وأتمه.


اللهم أصلح القلوب، واغفر الذنوب، واستر العيوب، واقبل توبة من يتوب.

جديد المواد

تصميم وتطويركنون