المادة

الكسب الطيب

171 | 23-11-2016
عناصر الخطبة 1/ طلب الرزق الحلال عبادة 2/ فضائل أكل الحلال 3/ تقوى الله سر النجاح في عالم الاستثمار 4/ أهمية نشر الأمثلة المضيئة في المجتمع 5/ ذكر بعض مواقف صالحي زماننا في تحري الحلال 6/ السلف الصالح مضرب الأمثال في الورع وترك الشبهات 7/ المعينات على البعد عن الحرام.

ليس العبادة فقط أن تدخل المسجد وتصلي، وتخشع وتبكي، وتصوم وتزكي، فالعبادة أعم وأشمل، ومن أهمها: أن تطيب مطعمك، وملبسك ومشربك، وأثاثك ومركبك، تتحرى الكسب الطيب وتأكل الحلال، وتتحرز من الحرام وخبيث الأموال، فإذا أراد الله بالعبد خيراً وفّقه للحلال، فأثمر البركة في الأموال، والبركة في العيال، والبركة في الشئون والأحوال، .. إنها إذاً تقوى الله، سر الأسرار، في عالم الاستثمار، فأين الأبرار من التجار، ومن عباد الله الأخيار، فإن في مجتمعنا نفوساً صالحة تراقب الله وتخشاه، صوراً مضيئة...

الخطبة الأولى:

الحمد الله ذي الآلاء، وكلما تنفسنا الهواء، سبحان من رزق الطير في السماء، والسمك في الماء، سبحان من رزق الحية في العراء، والدود في الصخرة الصماء، سبحان من تكفل بالأرزاق، وكتب الآجال، سبحان ذي العزة والجلال، مصرف الشئون والأحوال، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره.

وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبدُه ورسوله، نبي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آل محمد وعلى صحب محمد، ما اتصلت عين بنظر، وأذنٌ بخبر، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المحشر.

أما بعد: أيها المسلم: ليس العبادة فقط أن تدخل المسجد وتصلي، وتخشع وتبكي، وتصوم وتزكي، فالعبادة أعم وأشمل، ومن أهمها: أن تطيب مطعمك، وملبسك ومشربك، وأثاثك ومركبك، تتحرى الكسب الطيب وتأكل الحلال، وتتحرز من الحرام وخبيث الأموال، فإذا أراد الله بالعبد خيراً وفّقه للحلال، فأثمر البركة في الأموال، والبركة في العيال، والبركة في الشئون والأحوال، إنها نعمة من الله الكريم المتعال.

فإذا أراد الله أن يبارك للعبد في ماله، هيّأ له الأسباب، وفتح في وجهه الأبواب، (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف: 96]، وقال أبو ذر مرفوعاً: إن في القرآن آية لو أخذتها الناس لكفتهم: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2- 3].

إنها إذاً تقوى الله، سر الأسرار، في عالم الاستثمار، فأين الأبرار من التجار، ومن عباد الله الأخيار، فإن في مجتمعنا نفوساً صالحة تراقب الله وتخشاه، صوراً مضيئة، ومواقف مشرفة، لأهل الخير والعطاء، والصدق والوفاء، فمن العدل أن نقول للمحسن أحسنت، كما نقول للمسيء أسأت، ومن الإنصاف أن لا يُبخس حقُ الصالحين الصادقين.

وإن أردنا الصلاح لمجتمعنا فمن واجبنا جميعاً أن نتلمس الخير في نفوس الناس فينشر ويشهر، فهو بريق الأمل ونسمة الصباح الذي نرجوه، فلماذا ننسى خير الخيرين، وتضحية المخلصين، لماذا نغفل عن جهد العاملين، وورع العابدين، لما لا نذكر صلاح المؤمنات، وصبر الصابرات، لِمَ لا نتحدث عن عطاء المتصدقات، وعفاف الحافظات، لِمَ لا نتحدث عنهم وقد ذكرهم الله فقال: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 35].

إنها علامة من علامات التقدم والرقي أن نذكر الفضل لأهل الفضل، وأن نشيد بإحسان المحسنين.

أما بالنسبة لأكل الحلال، وتجنب الحرام، فهناك فئة من الناس والحمد الله، تتقي الوقوع في الشبهات والحرام، ويتضح ذلك من كثرة أسئلتهم قبل الوقوع والإقدام، بل والندم متى عُرف الخطأ، والسؤال بكيفية السلامة والنجاة منه، والمواقف في هذا الباب كثيرة؛ فإن لصالحي زماننا سِيرًا ومواقف، ومنها على سبيل المثال: موظف يسأل فيقول: أعمل في مصلحة حكومية ولظروف خاصة تغيبت عن العمل لمدة عشرة أيام، وفي نهاية الشهر عندما ذهبت إلى أمين الصندوق فوجئت بأن راتبي لم ينقص منه شيء، فذهبت إلى رئيسي المباشر وقلت له: إني استلمت راتبي كاملاً، فلم يرد عليَّ بشيء فماذا أفعل؟ فلا أريد أن آكل شيئاً حراماً. (فتاوى ابن عثيمين 2/698).

ورجل فقير ذو عيال، تراكمت عليه الديون، واشتدت به الحاجة، يبحث عن عمل أو وظيفة ليجد بها قوت يومه وعياله، فانسدت في وجهه الأبواب، وتقطعت به السبل فلم يجد سوى العمل في مؤسسة ربوية كحارس أو سائق، فسأل فلما علم بحرمتها ردها رغم حاجته وفقره.

وصاحب محلات عديدة لم تؤجر لسنوات؛ لشرطه أن لا يباع فيها شيء من المحرمات.

وآخر رفض فوائدَ ربوية بلغت مئات الألوف، لعلمه أن الله يمحق الربا. فرحم الله هذه النفوس، ضمائر سمت، وهمم علت، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.

لولا لطائف صنع الله ما نبتت *** تلك المكارم في عظم ولا عصب

إنها صور للمؤمنين الصادقين في إيمانهم، وفي توكلهم على الله، في زمن كثر فيه الغش والخداع، والتهاون والتحايل في الأحكام والمعاملات.

إنها قلوب ذاقت حلاوة الإيمان وسعادة الدنيا بأكل الحلال، في زمن أصبحت القلوب كالحجارة أو أشد قسوة من أكلها الحرام والشبهات.

إنها نفوس طيبة لا تأكل إلا طيباً، فأغناها الله بالقناعة والرضا، وبارك لها في القليل، في زمن أصاب الناس فيه الجشع والطمع. شعارهم فيه: هل من مزيد.

إنها نفوس كالنحلة إن أكلتَ أكلت طيبًا، وأن أطعمت أطعمتَ طيبًا، وإن سقطت على شيء لم تكسره ولم تخدشه، قلوب استغنت بالله يوم أن استغنى الناس بالدنيا، وفرحت بالله يوم فرح الناس بالدنيا، وأنسوا بالله يوم أن أنس الناس بأموالهم وكبرائهم، فنالوا بذلك غاية العز والرفعة، والسعادة والراحة.

إنها نفوس تخاف الله، وهي على يقين أن الله يمهل ولا يهمل، وأنه يملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته. نفوس تربت على خشية الله ومراقبته، وعلى الورع وترك الشبهات، إنها أبصار تقرأ في سيرة الحبيب -صلى الله عليه وسلم- أنه جزع ليلة فلم ينم. فقيل له ما الذي أسهرك يا رسول الله؟ فقال: "إني انقلبت إلى بيتي فوجدت تمرة ساقطة فأكلتها فذكرت أن في بيتنا تمرًا من تمر الصدقة، فلا أدري أهي من تمر أهلي أم من تمر الصدقة، ذلك الذي أسهرني؟!" سبحان الله تمرة تقض مضجع الحبيب -صلى الله عليه وسلم-، فأين من يعبّ من الحرام في الليل والنهار؟!

ويرى -صلى الله عليه وسلم- الحسين بن علي وهو صبي صغير يتناول تمرة واحدة من تمر كثير في بيت المال، فينهره النبي -صلى الله عليه وسلم- قائلاً له: "ألقها يا حسين، فإنا أهل البيت لا تحل لنا الصدقة".

وهي نفوس تقرأ في سيرة الصديق -رضي الله عنه- أنه كَانَ له غُلَامٌ يُخْرِجُ لَهُ الْخَرَاجَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ: أَتَدْرِي مَا هَذَا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ إِلَّا أَنِّي خَدَعْتُهُ فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ، فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ؛ فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ.(البخاري 3554).

وفي رواية أنه قال: "اللهم إني أعتذر إليك مما حملت العروق وخالط الأمعاء". فقالوا له: يرحمك الله يا أبا بكر، أتفعل كل هذا من أجل لقمة؟ فقال: "والله لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها، فقد سمعت رسول الله-صلى الله عليه وسلم- يقول: "كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به"، ولقد خشيت أن ينبت شيء من جسدي من هذه اللقمة الحرام فأصير به إلى النار.

وهي نفوس تقرأ في سيرة الفاروق، وقد شرب لبنًا فأعجبه، فقال للذي سقاه: من أين لك هذا؟ قال: مررت بإبل الصدقة وهي على ماء، فأخذت من ألبانها، فأدخل عمر يده فاستقاء.

وتقرأ في سيرة عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- أنه رأى ابنه يأخذ تفاحة من تفاح يقسمه بين المسلمين فانتزعها منه، فبكى الولد وذهب إلى أمه، فلما عاتبت زوجها على ذلك قال: "والله لقد انتزعتها وكأني أنتزعها من قلبي، ولكني كرهت أن أضيع نفسي عند الله -عز وجل- بتفاحة من فيء المسلمين".

واشتهى عمر بن عبد العزيز يوماً أن يأكل تفاحاً، فأهدى إليه بعض الناس جانباً منه فرفضه عمر، فقيل له: لِمَ ترفض والنبي –صلى الله عليه وسلم- كان يقبل الهدية، ولا يقبل الصدقة؟ فأجاب عمر: "إن الهدية كانت لرسول الله هدية، وهي اليوم لنا رشوة!".

بل لقد كان المسك يُحمَل إلى عمر بن عبد العزيز في مال المسلمين ليقسمه بينهم، فإذا وضعوه بين يديه سدّ أنفه حتى لا يشم المسك، فإذا قالوا له: "إن هذا ريح فقط، أجابهم: وهل يُنتفع من المسلك إلا بريحه"!!

وتقرأ في سيرة الصالحات أن صالحة توصي زوجها وتقول: "يا هذا اتق الله في رزقنا فإننا نصبر على الجوع، ولا نصبر على النار".

وهكذا تربت هذه النفوس في زماننا، فهي ترى هذه الكوكبة المؤمنة بدينها، المراقبة لربها، الخائفة من يوم حسابها، يتألق تاريخها كل عصر وجيل بهذه النماذج العالية الرائعة التي هي مضرب الأمثال في الورع وترك الشبهات، حتى أصبح بعض أهل هذا الزمان يستغربون مجرد ذكرها وروايتها. لكن من أدمن النظر في سير هؤلاء، جعل بينه وبين الحرام سداً منيعاً. نسأل الله أن يحفظنا من الحرام، وأن يبارك لنا في الحلال.

وخير سبيل للبعد عن الحرام ترك المشتبه، وسلوك مسالك الورع عند التردد، ففي الحديث: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به البأس" (رواه ابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن غريب).

و"من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام" (متفق عليه).

ولقد قال الحسن البصري -رحمه الله-: "ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال؛ مخافة الحرام".

وقال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "تمام التقوى أن يتقي العبد ربه، حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراماً، حجاباً بينه وبين الحرام".

واعلموا -رحمكم الله- أن المشتبهات يحصل للقلوب عندها القلق والاضطراب الموجب للشك، والوَرِعُ هو الوقّاف عند المشتبِهات يدع ما يريبه إلى ما لا يريبه. فاتقوا الله، رحمكم الله، وأطيبوا مطاعمكم ومشاربكم، واتقوا الله في أنفسكم وأهليكم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

جديد المواد

تصميم وتطويركنون