المادة

الشيشان شموخ وأحزان

154 | 23-11-2016
عناصر الخطبة 1/ صورٌ لمآسي المسلمين في الشيشان 2/ تجاهل الإعلام العربي للجهاد الشيشاني 3/ أحداث الشيشان: بشائر وآلام 4/ أحداث الشيشان: دروس وعبر 5/ وسائل لنصرة إخواننا الشيشانيين
أتراكم مللْتُم الحديث عن مصائب المسلمين في كُلِّ مكان؟! إنْ كنتم تعبتم من السماع؛ فقد تعبوا هم من التشريد والضياع! وإن تكرر عليكم السماع؛ فقد تكرَّر عليهم الصراع، شاركوهم ولو بالأنين، شاركوهم ولو بالهمّ للمسلمين، شاركوهم ولو بدعوة ترفع لرب العالمين، أوَتظنون أنَّكم لن تسألوا عن هذه الدماء التي تسيل؟ أو تظنون أنكم لن تُسألوا عن أعراض تنتهك؟ وعن طفل صغير يُتِّم؟ كيف وقد استنصروكم في الدين؟!..

الحمد لله علا وقهر، وعز واقتدر، لا محيد عنه ولا مفر، ذي العرش المجيد، والبطش الشديد، والأمر العتيد، الملك ملكه، والخلق خلقه، والأمر أمره، يحكم ما يشاء، ويفعل ما يريد، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأسأله من فضله المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهو على كل شيء شهيد، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، العزة والمجد والمنعة لمن أطاعة واتبعه، والذلة والصغار، والشنار والدمار، لمن عصاه وخالف أمره.


أما بعد:


إخوة الإيمان: كنا سنواصل الحديث عن الجنس والشهوة، ولكن هل يطيب الحديث عن الشهوات، وإخوان لنا الآن في داغستان والشيشان تقصفهم الطائرات، وترجمهم الراجمات؟! شيوخ وأطفال أبرياء، وعجائز ونساء قتلى وجرحي ودماء، وأنفس تسفك في الصباح وفي المساء.


فيا سبحان الله! شعوب حديثها الجهاد والرشاشات، والقتل والتشريد والمجاعات، وأخرى حديثها في الجنس والشهوات، والغناء والطرب واللذات! كم بين همة وهمة! وكم بين عزم وعزم! أين صريع الشهوات، من صريع الغزوات؟ لا إله إلا الله! أين صاحب الرايات من صاحب المعاكسات؟!.


الله أكبر! عزم لا يلين، وآخر مهين، شتان بين من بيده تمرات ينظر إليها وهو في ساحة المعركة، ويقول: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه، إنها لحياة طويلة؛ وبين من يبحث عن الفريسة والخليلة، ومن يعبد القطيفة والخميلة! لقد تعلقنا بالدنيا حتى ظن البعض منا أنه لا يموت، وغفلنا أن الكبيرة والصغيرة لا تفوت، وأننا سنقف بين يدي ذل العزة والجبروت.


إخوة الإيمان: أتراكم مللتم الحديث عن مصائب المسلمين في كل مكان؟! إن كنتم تعبتم من السماع، فقد تعبوا هم من التشريد والضياع، وإن تكرر عليكم السماع، فقد تكرر عليهم الصراع، شاركوهم ولو بالأنين، شاركوهم ولو بالهمّ للمسلمين، شاركوهم ولو بدعوة ترفع لرب العالمين، أوَتظنون أنكم لن تسألوا عن هذه الدماء التي تسيل؟ أو تظنون أنكم لن تسألوا عن أعراض تنتهك؟ وعن طفل صغير يُتِّم؟ كيف وقد استنصروكم في الدين؟ والله -تعالى- يقول: (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الأنفال:72].


وها هو شعب بأكمله يهاجم ويحاضر ويؤسر، فلا يسمح له حتى ولو بالهجرة، يلخص الرئيس الشيشاني المأساة بكلمات فيقول: عدوان روسي يهدف إلى إبادة شعب بأكمله، إنهم يقتلون النساء والأطفال والشيوخ الذين يحاولون مغادرة ميدان الحرب. اهـ.


وفي كوسوفا كانت الخطة تهجير الشعب لكسب الأرض، أما في الشيشان فأقوى وأقسى، تغلق الحدود، ولأول مرة في الحروب الدولية تضرب صفوف المهاجرين من الشيوخ والنساء والأطفال، وتلاحق بالطائرات، والرشاشات، والمدفعية، بدون رحمة أو إنسانية، وتحت مرأى ومسمع المؤسسات الدولية، الهيئات الإنسانية، والقوانين النظامية!.


أصبح الشعب الشيشاني محاصرا بين نيران الروس من أمامهم، والطائرات التي تصب عليه القنابل صبا من فوقهم، وسحب الدخان الأسود المنبعث من المنشآت النفطية التي تحترق في جوهم، وظروف الشتاء، وانقطاع الكهرباء والماء، والخبز والغذاء، كل هذا حتى تكون عبرة لبقية الجمهوريات الروسية التي تفكر مجرد تفكير بالاستقلال، أو الحكم بالإسلام.


غرور وتكبر، وهمجية روسية تصب العذاب على الشعب الأعزل صبا، وبكل أنواع الأسلحة المحرمة دوليا، وبمباركة -بل ودعم- من أمريكا راعية الديموقراطية والسلام، ونشر حقوق الإنسان، لقد هزلت حتى بان هزالها! إي والله! لقد أخبرنا القرآن؛ ولكن من يوقظ النيام؟ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) [الأنفال:73].


فآهٍ ثم آه! مَن يحمل همَّ إخواننا في الله؟ وآه ثم آه! مَن لليتامى والثكالى؟ لقد استنجد الرئيس الشيشاني بالعالم الإسلامي؛ ولكن لا مجيب، حتى لم يجد بدا من أن يستنجد ببابا الفاتيكان، وبالعالم النصراني، لحماية شعبه من الإبادة الوحشية الروسية!.


حتى متى هذا السكوت؟ حتى متى الصمت المميت؟
ما ذلك الإعراض والصمت الغريب؟
عن كل آهات الثكالى واليتامى والحيارى والنحيب
حتى متى هذا الصدود؟
وإلى متى هذا الركود؟
وإلى متى عَنا تشيح وجوهكم يا مسلمون؟
أوليس في الشيشان إخوان لكم يستنصرون؟
يستصرخون؟
فهل بدا شيء جديد؟
أوليس فيكم من رشيد؟


بلى أيها المسلمون، في داغستان والشيشان، فينا رشيد! فوالله إن الكثير من أفراد المسلمين قلوبهم معكم، فكم من شاب يتمنى أن لو كان في ساحتكم! وكم من فتاة تتأوه من أجل دمعتكم، وإقالة عثرتكم! وكم من عجوز في هجعة الليل تناجي ربها من أجل نصرتكم! وكم من طفل صغير قدم حصَّالة العمر إجابة لصرختكم! أوَما سمعتم قول تلك المرأة العجوز: يا ليتني كنت معهم؟! أوَما علمتم عن صرخة تلك الفتاة: هل يجب الجهاد على النساء؟.


أومَا قرأتم رسالة ذلك الطفل الصغير، فقد وصلتني وفيها مائتان وأربعون ريالا، ومما قال: يا شيخ لقد سمعت الشريط عن أحوال المسلمين، وكنت قد جمعت في حصالتي مالا لأشتري جهاز كمبيوتر، لكني أتبرع به لإخواني المسلمين، أنا ريان، أدرس في الصف الرابع الابتدائي، وأحفظ من القرآن أربعة أجزاء، أرجو أن تدعو لي، أخي محمد قد تبرع من حصالته أيضا. انتهت رسالته.


أوَما اطلعتم على ما كتبه ذلك الأب القدير؟ فتحت رسالته، وإذا هي تحمل مبلغ سبعة آلاف ريال، وكتب: كنت أجمعه ريالا ريالا لأشتري غرفة نوم لبنياتي، ولما سمعت حال أخواتي المسلمات، وما هن فيه من التشريد، علمت أن أخواتي المسلمات أحق بالمبلغ من بنياتي، أسأل الله أن يكون خالصا لوجهه.


هذه صور لحال أفراد المسلمين ممن يحمل الهمَّ لإخوة الدين، فلسان حالهم يقول: أبشروا يا إخواننا في القوقاز، أموالنا نبذلها رخيصة في سبيل الله من أجلكم، وقلوبنا معكم، ونفوسنا تتفطر لكم، وعيوننا تتقرح لمأساتكم، ها هي الألسن تلهج لكم بالدعوات، وترتفع الأيدي في الظلمات، ويردد القنوت في الصلوات، إن نفوس الكثير من المسلمين تزخر بالآهات والزفرات وهي ترى الفظائع والأهوال، وما يجري لإخوانهم في بلاد القوقاز.


عباد الله: هل شاهدتم الطائرات الروسية الحربية، وهي تسرح وتمرح في الأجواء الشيشانية، وتمشي الهوينى حتى إذا كانت على بعد أمتار من هدفها ألقت حمولتها بكل وحشية وهمجية؟ بل لقد اصطفت عشر راجمات للصواريخ على مشارف قرية(كارماخي) في داغستان ثم أخذت تستعرض قوتها بنسف بيوت القرية بيتا بيتا على مَن فيه من أهله، بعد أن ذهبت محاولات الأهالي بالخروج من القرية أدراج الرياح، بل إن من يخرج من بيته هربا فإن القناصة له بالمرصاد، حتى إذا تحولت القرية لأنهار من الدماء تسيل، ولأكوام من الجثث والأشلاء، وجبال من الحجارة والأخشاب، ودخان النيران ينبعث من أرجائها.


دخل جنود الروس الجبناء، فإن وجدوا أحياء، كانوا مثار السخرية والاستهزاء، وتقطعيه إلى أجزاء، وهم يضحكون؛ بل إنهم يصلبون بعض الجثث على جوانب الدبابات والراجمات، ويسيرون بهم وسط المدن والقرى؛ لإرهاب الناس وتخويفهم!.


كفر يريد لأمَّتي ألَّا ترى *** نورا وأَلَّا يُرفَع التسبيحُ
كفرا وأمتنا يخدر عقلها *** وهمٌ، وفكْرٌ ساقطٌ و"ضريح"
ناديتُها والليل كهفٌ موحش *** والفجر من عقب الهلال يلوح
يا مسلمون! وضج في قلبي الأسى*** ولسان أحزان الفؤاد فصيح
يا مسلمون! وساءلَتْني طفلة *** مَن أنت؟ ما هذا الدم المسفوح؟
يا مسلمون! ورجّع الأقصى الصدى *** وبكى وأبكى، فالجنون قروح
أدعو ولكن من سيسمع صرختي *** منكم وصوتي واهِنٌ مبحوح؟
ماذا أقول لكم؟ ووجه سعادتي *** في ظل صمتكم الرهيب يشيح
يا مسلمون! وظَل يزعجني صدى *** صوتي، ويُتعب كفِّيَ التلويح
ناموا، فقد نمنا طويلا مثلما ***... ويكفيها هنا التلميح


سقطت قذيفة على مدرسة للأطفال، وأصابت فصل الصف الثاني الابتدائي فحولت الفصل إلى نهر من الدماء، فخمسة وعشرون طفلا كلهم تمزقت أجسادهم أشلاء، لقد صورت كاميرات الفيديو جثث الأطفال، فلا تكاد ترى جثة كاملة، فهذا قد فقد رجله، وهذا ذراعه، وآخر انفصل الرأس عن الجسد، ورابع لم يبق فيه عضو، فقد تطايرت في كل مكان، آه لو رأيتم كيف تجمع بقايا اللحم المتناثر في الأكياس، كما يجمع بقايا اللحم من ذبائح البهائم؟!.


وسقطت قذيفة أخرى على حافلة للمدنيين المهاجرين كانت تحاول الهروب من(جروزني) إلى(ناورسكايا) فتناثرت الأجساد في المكان، فلا تسمع إلا الصراخ والعويل، ولا ترى سوى مشاهد الاحتضار والموت، فقتلت عشرين مدنيا، ومن بين المصابين رضيع عمره أشهر فقط، أصابته شظية في الجهة اليسرى من طرف بطنه لتندلق أمعاؤه، وشظية أخرى تبتر قدمه اليسرى، يصرخ ويبكي، وتنظر في عينيه الرعب والفزع.


ولو نطق لقال:
إنا نصيح ولا مجيب
إنا نئن ولا طبيب
حتى استغاث البعض من كمد بعُبَّاد الصليب
فأين.. أين المسلمون؟
أين الذين لربهم يتعبدون؟
أين الذين بدينهم يستمسكون؟
أين الألى في الله هم يتناصرون
ما بالكم لا تسمعون؟
ما بالكم لا تنظرون؟
فأين.. أين المسلمون؟
بل أين بعض المسلمين؟
بل أين أهل العلم منهم من بقايا الصالحين؟
لذتم بأسوار السكوت
لم تمنحوا إخوانكم حتى كليمات القنوت
ما بالكم لا تسمعون؟
وتنظرون!
كم من عجوز عاجز لم يرحموه
كم من رضيع يتَّمُوه
إن لم يكونوا مزقوه
كم من صغير من بقايا حقدهم قد عوقوه
كم مسجد قد هدموه
ومصحف قد حرقوه!


ولا أظن أحدا سمع بمأساة السوق فلم يتحرك قلبه، أو تدمع عينه، فقد قصفت الطائرات الروسية سوقا في وسط العاصمة يعج بالمدنيين، أدى إلى مصرع ما لا يقل عن ثلاثمائة مدني شيشاني تناثرت أشلاؤهم في كل مكان بالسوق، الذي تحول إلى برك من الدماء، وعلى الرغم من هول المأساة وفظاعتها، فإن أحدا لم يحرك ساكنا، وإننا نتساءل: أين أجهزة الإعلام العالمية، والتي تدعي الحياد والاستقلالية؟ ولكن لماذا نلوم الغرب؟ ونطالبه بنصرة قضايانا، وأجهزة الإعلام العربية منشغلة في نقل وبث الاحتفالات في المهرجانات الغنائية والسينمائية؟ أما قضية شعب تحاصره الطائرات والدبابات والرشاشات من كل جهة لإبادته، وقضية أكثر من ثلاثمائة ألف مهاجر يعيشون الرعب والجوع، والقتل والتشريد، في ظروف صعبة، مع حلول فصل الشتاء، وسقوط الأمطار الغزيرة، والبرد القارس بلا كساء، ولا غطاء ولا غذاء، فهي قضية ليست ذا بال للإعلام، وإن كان فعلى هامش الأخبار.


أعلن الرئيس الشيشاني السابق(زليم خان) أنه لم يبق قرية إلا وتم قصفها، وفي كل قصف يقتلون من عشرين إلى أربعين شيشانيا، فمثلا في قرية(ستنجر) عندما قصفوها قطعوا يد وقدم طفل عمره لا يتجاوز تسعة شهور فقط، وامرأة أخرى بحثنا عن أشلائها فلم نعثر إلا على بعض منها، وبعد ثلاثة أيام وجد الناس بعض القطع من جسمها، والعالم كله ينظر إلى المجازر التي يرتكبها الروس في الشيشان دون تحرك!.


وكتب شاهد عيان طبيب محتسب فقال: لقد مضى على وصولي إلى الشيشان قرابة شهر، وقد رأيت في هذا الشهر ما لم أره في حياتي؛ قصص، ومشاهدات، ووقائع وأحداث... فهيهات أن يهنأ المرء بنوم في الشيشان! فكيف يهنأ وفي كل ليل ونهار تقصف الطائرات، أو تنزل الصورايخ على رءوس الناس، حتى في هذه الدقائق التي أكتب فيها هذه السطور يهتز بجانبي زجاج النوافذ بسبب قصف الطيران الروسي للمدينة في(روس مارتان).


ثم ذكر زيارته لمستشفى المدينة وما شاهده من أحوال الجرحى والقتلى والمصابين: فهذا أصابته شظية في رقبته فقتل على الفور، وطفل صغير لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره أصيب في رجليه، وطفل آخر في غرفة العمليات المعطلة بسبب انقطاع الكهرباء، وقد تخضب وجهه بالدم وهو يعاني من ضيق في التنفس، وصل عدد الجرحى في المستشفى فقط اليوم ثمانية عشر جريحا منهم أربع نسوة، وتوفى منهم اثنان.


ثم قال: وفي هذه الأثناء سمعنا صوتا قويا هائلا فاختبأنا في ملجأ المستشفى، وقد استمر القصف قرابة ساعتين، كنا نرى وميض الانفجارات من خلال النوافذ لقربها منا! وبعد نصف ساعة من القذف وصل الجريح الأول، وكانت فتاة في الخامسة عشرة من عمرها، وياله من منظر مروع! فقد شج وجهها من نهاية الحاجب الأيسر إلى حنكها، كما جرحت جرحين في رقبتها، وكانت أصابع يديها كالمقطوعة، وقد استخرجنا من رقبتها شظية بحجم الإصبع، وعندما كنا نخبط جرحها كانت أمها ترتمي عند قدمي ابنتها، وتقبلها، وتبكي بكاء مرا، وتقول كلاما باللغة الشيشانية لا أفهمه، لأن المترجم لم يستطع أن يبقى معي في غرفة الإسعاف من هول المنظر، كنت -وأنا في الملجأ- أتأمل الوجوه الخائفة، خطر في نفسي كيف نهنأ بنوم، ونتنعم في الرخاء ورغد العيش، وإخواننا في ذعر من الصواريخ والقنابل والشظايا المتطايرة من كل مكان، إنا لله وإنا إليه راجعون!.


أيها الأحباب في الشيشان صبْرا *** إنَّ من ينصر حقا يستميتُ
إن يكن للروس آلاتُ قتالٍ *** فلنا في هجعة الليل القنوت


وأما واقع المستشفيات هناك فلا طعام ولا دواء، بل حتى ولا أطباء؛ وأما الجرحى فبالإضافة لآلامهم وجراحاتهم، فهم يقاسون البرد الشديد، وعدم وجود وسائل التدفئة؛ وأما غرف الإسعاف فحدث ولا حرج عن المآسي المرعبة، والمناظر المروعة، التي تقشعر منها الأبدان، وتتفطر لها القلوب والأجفان.


عباد الله: هبوا لنجدة إخوانكم، فحالهم وظروفهم لا يعلم بها إلا الله، خاصة هذه الأيام، فقد بدأ البرد يشتد، والثلج يتساقط على الشيشان، مما يزيد من معاناة اللاجئين الذين لا يجدون مأوى يأوون إليه، ولا يجدون قيمة الحطب أو الطعام، وهكذا المسلمون في الشيشان وداغستان بين سياط الجوع والحرب والبرد، فهل يتذكر المسلم حال إخوانه، وهو يهنأ بالدفء واللحاف، والطعام والشراب، نسأل الله -عز وجل- أن يغيثهم من عنده، وأن يرفع عنهم، وأن يذيق أعداءهم لباس الجوع والخوف.


أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:


الحمد لله، وعد بالتمكين لعباده المؤمنين، فقال في محكم التنزيل: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) [النور:55].


وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وناصر المظلومين، وأشهد أن نبينا محمدا إمام المتقين، جاهد الكافرين، وأذل الله به المنافقين، وأتم به الدين.


أما بعد: معاشر المسلمين، فإنا على ثقة بنصر الله، مهما طال الطريق وكثرت العقبات؛ (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات:171-173].


وإني على يقين، ثقةً بالله، أنه متى أخلص الشيشانيون دفاعهم من أجل إعلاء كلمة الله، وتحكيم شرعه، ونبذوا الخلاف والأهواء، وأخذوا بالأسباب، وكان المسلمون عونا لهم بعد الله، لَينصرنّهم الله، ويعلي شأنهم، ولو عن قلة: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة:249].


وهل نسينا ماذا فعلوا بالروس في حربهم الماضية قبل ثلاث سنوات؟ يوم هزم ستة آلاف منهم مائة ألف جندي روسي مدججين بأحدث أسلحة العالم!.


لكنه النصر القريب
بإذن علام الغيوب
مهما تواترت الخطوب
والنصر آتٍ فوق أشلاء الكماة المخلصين
والنصر آت خلف إمداد الكرام الباذلين
والنصر آت بالدعاء وبالبيان
آتٍ بإذن الله لو كره الجبان
والنصر آت والصباح قد استبان
وغياهب الظلم المقنن كالظلام له أوان
والنصر يؤتيه الإله الصادقين.. وذا ضمان


وفي أحداث الشيشان بشائر وآلام؛ ومن البشائر التي أزفها إليكم معاشر المؤمنين:
أولا: إن الصحوة الإسلامية أصبحت ظاهرة ملحوظة إلى حد كبير في دول شمال القوقاز كلها، وليس في الشيشان فقط، فالمدارس الإسلامية تتزايد، والمساجد تمتلئ، والشعوب بدأت تتجه نحو فهم الإسلام، والسعي لتطبيقه، ولا شك أن ذلك يصيب روسيا -بل حتى الغرب- بالرعب.


ثانيا: خلال الأيام السابقة كبدت المقاومة الشيشانية القوات الروسية خسائر فادحة، فقد دمر لهم أكثر من(155) آلية، وقتل أكثر من ألفي(2000) قتيل، وأسقطت(12) طائرة(جيت)، وأسقطت(7) طائرات عمودية؛ ويقول الشيشانيون: إن القتال لم يبدأ حتى الآن، فليس هنالك مواجهة حاسمة، فهم لا يوجهون برا، وإنما جوا، وسنتركهم حتى تدخل القوات الروسية في العمق أكثر وأكثر، وعندها ستكون الشيشان مقبرة للروس.


ثالثا: الخوف والرعب الشديد المنتشر بين صفوف القوات الروسية، حتى إنهم يتحدثون بينهم بأن هؤلاء المجاهدين لا يخشون الموت، ولا يهابون القذائف والصواريخ، أنهم قد زرعوا الأرض بالألغام والتشريطات، وأنهم لم يتركوا حجرا ولا شبرا إلا لغموه، وقد سلم بعض الجنود الروس أنفسهم للمجاهدين وكانوا في حالة من الرعب والخوف والجوع، وصدق صلى الله عليه وسلم: "نُصرت بالرعب مسيرة شهر". فا للهم اقذف الرعب في قلوبهم.


رابعا: أعلنت الصحافة الروسية عن تفشي مرض جديد بين القوات الروسية مما أصابهم بالذعر في المناطق التي استولوا عليا وزادت في تدني معنوياتهم المنهارة: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر:31].


خامسا: الخلاف الواسع والكبير بين القيادات السياسية والعسكرية الروسية، نسأل الله أن يفرق شملهم، ويمزق صفهم، وأن يخالف بين قلوبهم.


هذه -وغيرها- بشائر تلوح بالأفق؛ أما النصوص من القرآن والسنة فقد بشرت بهذا، وأما الأحداث اليوم في كل مكان، فإنها تتجه لهذا، وإن غطت غيوم الضباب بريقه، وعلت سحب الشهوات على الحقيقة، فقد وعد الله بنصرة هذا الدين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد:7]، وقال تعالى: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم:47].


أيها المسلمون: وفي مثل هذه الأحداث عبر ودروس:
أولا: إلى متى والأحداث تطحن في أمتنا، ونحن غارقون في الترف والموضات، وأنواع الفضائيات، غافلون عن المكر الدولي لأمة الإسلام باسم الإرهاب والتطرف، ألا يتعظ المثقفون من بني أمتي، المنخدعون ببريق الديمقراطية، والعدالة الغربية؟ ألا يتعظ الغافلون من بني أمتي الغارقون في بحر الشهوات والطرب واللذات؟ ألا يتعظ المترفون، والعصاة المذنبون، بأن مثل هذه الأحداث نذر وتذكير بأن الله يمهل ولا يهمل؟ ألا يتعظ الصالحون من بني أمتي المضيعون للأوقات؟ ألا تربى فيهم الأحداث العزم والجد وتربية الذات؟ فلم لا تربى النفوس، على الشجاعة، والجد، بدل إغراقها في الترف وحب الراحة والخمول والكسل؟ والنفس إن لم تشغلها بالطاعة، والجد والاجتهاد، اشتغلت بالمعصية، والضياع والفساد.


ثانيا: زعم الروس إنهم يقاتلون المسلمين في داغستان والشيشان بحجة الإرهاب، وتهديد الأمن الروسي! فيا عجبا! ماذا يسمى ترويع الآمنين، وقتل شعب أعزل بأكمله بأطفاله ونسائه وشيوخه، وحصدهم بالقنابل والرشاشات، وإحراق الأخضر واليابس؟! وهل يطلق على الدفاع عن النفس والوطن والعرض إرهاب؟!.


زعموا – وقد سفكوا الدماء
ومثلوا بالأبرياء
أن قد أتوا كي يسحقوا الإرهاب ينبوع العداء
رعبا من الإسلام.. إرهابا دعوه
وبحجة الإرهاب أيسر ما ادعوه
قتلوا وجاسوا في الديار مخربين
حصدوا المئين
وشردوا الآلاف قسرا لاجئين
ورفاقهم حملوا الغذاء لهؤلاء
بذلوا الدواء
نصبوا الخيام عن العراء
بسطوا الفراش مع الغطاء
لأنهم أهل المودة راحمون!
بالغذاء يُنَصَّرون
ومع الدواء ينصرون
وهكذا يا مسلمون
إخوانكم ما بين قتلى بالصليب، وآخرون يعمدون!
فإلى الإله المشتكى..إنا إليه راجعون!
وبحجة الإرهاب يقطع عنهم المدد الشحيح
ويحاصر الإعلام كيلا يكشف الوجه القبيح
ويجرم المتعاطفون
بله الرجال المخلصون
وبخدعة الإرهاب أرهب كل إنسان عقول
كي لا يقول
مقالة تهدي العقول
فمشاهد التدجين تجري من فصول في فصول
وبخدعة الإرهاب ما شاءوا أتوه
قد يعجز الإرهاب في قاموسه ما أنجزوه!
لكنهم لا يسألون
لأنهم لا يسألون


عباد الله! إن الجهاد في الإسلام فريضة ربانية، ولكنها ضد أعداء الله وأعداء المسلمين، المحاربين لهم والظالمين لهم بشروطه وقواعده الشرعية المرعية كما قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) [الأنفال:60]، وقال تعالى: (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ) [الحشر:13].


لكن لا يجوز في الإسلام أبدا قتل غير المحاربين من النساء والأطفال الشيوخ، وترويع الآمنين، أو تفجير المباني، أو نهب الممتلكات؛ بل ليسمع العالم كله حقيقة دين الإسلام وعدله وسماحته حتى في حالة الحرب، فاسمع وصية أبي بكر لقائد جيشه يزيد بن أبي سفيان: وإني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة، ولا صبيا، ولا كبيرا هرما، ولا تقطعن شجرا مثمرا، ولا تخربن عامرا، ولا تعقرن شاة ولا بعيرا إلا لمأكلة، ولا تحرقن نخلا، ولا تفرقنه، ولا تغلل، ولا تجبن...


ثالثا: لا ننسى سلاحنا العظيم، الدعاء، والتضرع والإلحاح على الله، فإنه تعالى يحب الملحين، نريد الدعاء الذي تحرك به القلب قبل أن يلهج به اللسان، دعاء القلب الذي يعتصره الألم، ويحرقه الهم للمسلمين، مَن مِنا لما سمع بمصاب الشيشان وداغستان رفع يديه إلى السماء، وتوجه إلى الله بالدعاء؟... إن للدعاء آثارا عجيبة، يكفي منها أن نشعر أن الله معنا... يقول تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام:42-43]...


رابعا: لعلكم تتساءلونك ما الذي يوقف المذابح الجماعية ضد المسلمين، لقد قلتها مرارا، وأقولها اليوم: إن في الاعتصام بالكتاب والسنة حلا جذريا لمشاكل الأمة، وقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- داء هذه الأمة وسبب ضعفها، وأوضح الدواء وسبب قوتها، بيانا شافيا في قوله: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم". فتأملوا هذا الحديث وأمثاله؛ ففيه الإجابة الشافية الكافية لضعفنا وهواننا.


خامسا: وكما أن الله -تعالى- أوجب الجهاد بالنفس فقد أوجب الجهاد بالمال... ولهذا ذكر الله -تعالى- الجهاد بالمال في آخر آية الإعداد: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) [الأنفال:60]، فقال: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ)[الأنفال:60].


وعن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن لم يغز، أو يجهز غازيا، أو يخلف غازيا في أهله بخير، أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة"، وعن زيد بن خالد -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيا في سبيل الله بخير فقد غزا".


قال شيخ الإسلام: " ومن عجز عن الجهاد ببدنه وقدر على الجهاد بماله وجب عليه الجهاد بماله"، وهو نص أحمد في رواية أبي الحكم، وهو الذي قطع به القاضي في أحكام القرآن في سورة براءة عند قوله:(انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا) [التوبة:41]...


وكالعادة في مهبط الوحى ومنبع الرسالة؛ استجاب الكثير لصرخات إخوانهم على مستوى الأفراد والمؤسسات والهيئات الإغاثية، نسأل الله أن يبارك في جهود الجميع.

جديد المواد

تصميم وتطويركنون