المادة

السفر للخارج

112 | 23-11-2016
عناصر الخطبة 1/ السفر المحمود 2/ أخطار الأسفار للخارج في الصيفيات 3/ دور أولياء الأمور في بلاء السفر للخارج 4/ حكم السفر لبلاد الكفار 5/ توجيهات لمن أبى إلا السفر للخارج 6/ تنشيط السياحة الداخلية

يقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: فنصيحتي لكل مسلم: الحذر من السفر إلى بلاد الكفر، وإلى كُلِّ بلادٍ فيها الحرية الظاهرة، والفساد الظاهر، وعدم إنكار المنكر، وأن يبقى في بلاده التي فيها السلامة، وفيها قلة المنكرات؛ فإنه خيرٌ له وأسلم، وأحفظ لدينه.

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، أرسله الله -تعالى- بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.


إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.


أما بعد:


فيا أيها المسلمون: لا أحد يشك بمنافع السفر وفوائده، وحاجة الناس إليه:
تغرَّبْ عن الأوطان في طلَب العلا *** وسافِرْ ففي الأسفار خمسُ فوائدِ
تفرجُ هَمٍّ، واكتساب معيشةٍ *** وعلمٌ، وآدابٌ، وصحبةُ ماجدِ


والسفر محمود حتى ولو كان لمجرد الفسحة، وطرد الملل والسآمة، والتأمل في عجائب المخلوقات، والتدبر لعجيب صنع الله وعظيم قدرته؛ فكل هذا مما يزيد العبد معرفة بربه، ويزيده يقينا بقدرة الله، وأنه لا رب غيره، ولا معبود بحق سواه، فيمتلئ قلبه خوفا وخشية من الله.


ولكن؛ في هذه الأيام هناك من يحزمون حقائبهم، ويعدون تذاكرهم استعدادا لقضاء الإجازة خارج البلاد، يصدق فيهم قول الحق -عز وجل-: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) [يوسف:105]، فلا يتدبرون ولا يتأملون، ولكنهم على أماكن اللهو يتزاحمون، وعلى البارات والمراقص يتهافتون.


وكم رأينا من الشباب -بل حتى من الكبار وللأسف- بالمطارات من تأبط بيمينه المومسات، وأمسك بشماله زجاجة المسكرات، باع الحياء والرجولة، والدين والأخلاق، من أجل شهوة عابرة جعلته كالمجنون لا يستحي ولو من أعين الناس!.


وأذكر أنني كنت على متن إحدى الرحلات، وكان قريبا مني ثلاثة من الشباب، وكنت أراهم يتنقلون بين الخادمات العائدات إلى بلادهن، فتارة يغمز أحدهم هذه وتارة يضاحك هذه، فنصحوا، فقالوا وبهذا اللفظ: ورانا ورانا! حتى في الطائرة!.


وصلينا صلوات: المغرب، والعشاء، والفجر بالطائرة، ورفضوا الصلاة! فقلت: سبحان الله! إنكم بين الأرض والسماء! فكيف أمنتم مكر الله؟ ألا تخافون من الله فهو معكم ويراكم في كل مكان؟! كيف بلغت بكم المجاهرة بالمعاصي إلى هذا الحد؟! ما حالكم لو اهتزت الطائرة مجرد هزة؟ فكيف ونحن نسمع كل فترة عن سقوط الطائرات؟! ألا تخافون من النهاية المؤلمة؟ إن الموت ملاقيكم في الطائرة وفي غيرها؟ فاتقوا الله فقد ظلمتم أنفسكم؛ " إن الله ليملي الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته"، (إن الله عزيز ذو انتقام) [إبراهيم:47]:
لقد أسمعت لو ناديت حيَّاً *** ولكن لا حياةَ لِمَن تُنَادِي


سبحان الله! (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [يوسف:107]. ولكن صدق الله: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين:14].


وكم هي القصص المأساوية، والنهايات المؤلمة، والتي نسمعها ونقرؤها عن عوائل خرجت فرجعت بالفضائح، وعن شباب خرجوا فرجعوا بأمراض جنسية لا نهاية لها، وعن شباب ماتوا خارج هذه البلاد! فهذا مات بسكتة قلبية بينما كان يراقص إحدى الفتيات في أحد المراقص! وهذا وجد ميتا في سيارته مع عشيقته، وذاك في غرفته في الفندق، وهكذا يذهب الشاب بنفسه، ويأتي محمولا بتابوت، والموت حق كتب على الجميع؛ لكن العبرة بالخاتمة، فشتان بين من مات في أحضان العاهرات، وفي المراقص والبارات، وبين من مات مسافرا في طاعة الله! شتان بين من ثقلت آلاف الأميال والخطى موازين سيئات، بين من رجحت بحسناته! إنها خطى تكتب وتعد، وهي لك أو عليك.


كتب أحد الشباب عن موقف أثر فيه كثيرا، وهو عودة أحد زملائه من السفر خارج المملكة للسياحة الخارجية "السيئة" -كذا قال- قال: وعند عودته إلى المطار توفي في الطائرة قبل هبوطها. لا إله إلا الله! ما أسرع قدوم تلك اللحظات! (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجمعة:8].


عن عبد الرحمن بن مهدي قال: "مات سفيان الثوري عندي، فلما اشتد به جعل يبكي، فقال له رجل: يا أبا عبد الله! أراك كثير الذنوب؟ فرفع شيئا من الأرض فقال: والله لَذنوبي أهون عندي من ذا! إني أخاف أن أسلب الإيمان قبل أن أموت". وهذا من أعظم الفقه أن يخاف الرجل أن تخدعه ذنوبه عند الموت فتحول بينه وبين الخاتمة الحسنة.


عباد الله: إننا نعاني في كل إجازة صيفية من مشكلة السفر للخارج، وهي تستفحل سنة بعد أخرى، وتجر وراءها من الأخطار الكثير، والتي لا تعود على الفرد فقط، بل على الفرد والمجتمع والدولة.


لها أخطار سياسية تتمثل بشبكات الموساد والتجسس، والمناهج المضللة، والأفكار الهدامة، وغسيل العقول.


وأخطار اقتصادية، توضحها تلك الأرقام المخيفة من الأموال المسلمة المهاجرة، هل تصدقون أن أكثر من ثلاثة ملايين شخص يغادرون المملكة للسياحة سنويا؟! وستعجبون كثيرا إذا قلت لكم إن أكثر من ثلاثين مليار ريال سعودي هو ما ينفقه المواطن السعودي خارج المملكة على السياحة! ويوجد في المملكة أكثر من ألفي مكتب سياحي.


أما الخطر الإعلامي في هذه المشكلة فيكفي أن تسجل تصرفات بعض المسافرين من هذه البقعة المباركة، ولك أن تسمع عن سمعتهم في تلك البلاد، فيعمد أعداء الإسلام للطعن بهذا الدين عن طريق مشهد يرسمه بقلمه المسموم، أو عن طريق صورة لمسلم وهو يحتسي الخمر، أو يراقص مومسة زانية، ثم تنشر وتشتهر.


أما الخطر الصحي فحدث ولا حرج، فكم من شاب عاد من هناك وهو يحمل معه فيروسات الأمراض؛ الإيدز، أو الهربس أو السيلان وغيرها من الأمراض الجنسية الخطيرة، وكم من شاب وقع في الإدمان على المخدرات والخمور، فقد أثبتت الدراسات أن نسبة كبيرة من الشباب بدؤوا تعاطي المخدرات أول مرة خارج البلاد، باسم السياحة الموهومة، حيث الحانات والمراقص والملاهي الليلية.


أيها الشاب: انتبه للخطر! فكم من سفر قاد لسقر، وكانت البداية هي النهاية. يا شباب! اسمعوا لهذا الشاب الذي أغراه وأغواه جلساء السوء، يقول: " تزوجت في سن مبكرة، وأكرمني الله بزوجة صالحة وأبناء منها والحمد لله؛ إلا أنني لم أشكر النعمة التي أنعمها الله علي، وفي يوم جلست أنا وعدد من الأصدقاء نتحدث عن السفر ومميزاته، ولم تنته السهرة إلا وقد عقدنا العزم على السفر وحدنا، وبعد يومين اشتريت التذاكر، وأخبرت زوجتي أن لدي مهمة في مدينة أخرى وسافرت، وفي اليوم التالي لوصولي ذهبنا إلى أحد النوادي الليلية على سبيل المشاهدة، وهناك بدأت تجربة الخمور، وانفرطت السبحة، حيث بدأت بالخمور، ثم المخدرات، ثم الضياع".


باريس تعرفني ولندن لم تزلْ *** ترنو إلى جيبي وحُسْنِ هباتي
وعيون مانيلَّا تراقب مَقْدَمِي *** ولَكَمْ غرستُ بأرضها شهواتي
كم حانة ذوبت فيها همتي *** وعقدت فيها خير مؤتمراتي
وشربتُ فيها الكأس حتى خِلْتني *** أدمي فؤاد الكأس بالرشفات
وجعلت فيها الليلَ يكره نفسه *** من سوء ما أجنيه في سهراتي
وجمعت للتَّذْكار ألفي صورة *** أفنيت في تصويرها عدساتي
ودعوت أصحابي أذيب قلوبهم *** بمغامرات اللهو في رحلاتي
لا تسألوا عني ولا تتعجبوا *** مني ولا تبكوا على سقطاتي
أنا فارسٌ يغزو ميادين الهوى *** فسلوا بقاع اللهو عن غزواتي
ولكم عثرت على الطريق ولم أجد *** مَن... يقيلني عثراتي
أنا لست وحدي في طريق متاهتي *** أبناؤكم في الغرب بالعشَرات
أبناؤكم في الغرب مصدر رزقِه *** يتصدقون عليه بالنفقات
سلمتموهم للعدو غنيمةً *** فلْتغسلوا الأدران بالعبَرات
سِرُّ الهزيمة أننا من جهلنا *** نرمي إلى الأعداء بالفلَذات


وأما الخطر الأمني: فأي متعة يجدها المسافر في أجواء مخيفة، وأمن مضطرب! حيث الجريمة المنظمة، والعصابات المدربة، فمن أجل دولار تقتل نفس، ومن أجل شهوة ونزوة تقتل أنفس، فقد رأيت بعيني في بعض شوارع(نيويورك) لوحات كتب عليها: احذر! فالبوليس غير مسؤول عنك هنا! هذا في بلاد هي رمز التقدم والحضارة كما يدعون!.


وأما الخطر الأعظم فهو ضياع الدين، وتمييع العقيدة كالولاء والبراء والتشبه بالكافرين، والإعجاب بهم، وربما التنصير الذي يستقبل المسافر بتوزيع مطبوعاته في المطارات، وربما فساد الأخلاق، ومعصية الله، والوقوع بالكبائر، تبذير الأموال، زنا وخمور، وكحول، وسفور، واختلاط، واستمراء للعري والتفسخ.


هذا شاب يقول عبر الهاتف وبصوت مليء بالحسرة والألم: أكلمك من إحدى الدول الغربية، وقد ابتعثت للدراسة منذ أشهر فقط، ولكني خسرت كل شيء. ثم بكي بكاء حارا وقال بصوت متقطع: جئت إلى هنا وخسرت ديني وأخلاق وعاداتي، ولقد فعلت كل ما يخطر لك، ذهبت إلى المراقص، وشربت الخمر، وزنيت..


ثم زاد نشيجه وبكاؤه، حتى خفت عليه، فقلت له محاولا تهدئته: أبشر فلن يخيب الله هذه الدمعات والآهات، ويا ليتني ما قلتها! فما أن سمعا حتى زاد بكاؤه، وأجهش بصوت عال، انخلع قلبي خوفا عليه، هدأ ثم قال: أقسم بالله! إنني لا أنام الليل، من الهم والأرق، والحسرة والندم.. فانقطع الاتصال، فأعاده مرة أخرى وهو يقول: أرجوك أرجوك أن تدلني على شيء يذهب عني هذا الكابوس الجاثم على قلبي! ثم انخرط في البكاء بمرارة.


بمن ألوذ وبمن أشكو له حالي؟*** سواكَ يا رب في حِلِّي وترحالي
تقضي بأمرك يا ربي وأقبله *** فأنت أعلم يا رحمن بالحال
أوغلت في درب أحلامي وكم تعبت *** رجل وكم شكت الأحلام إيغالي


وهكذا فالأخطار والأضرار للسفر إلى الخارج كثيرة، وقد يكون من الصعب إدراكها الآن لدى البعض من الناس، ولكن:
ستُبدِي لك الأيام ما كنت جاهلاً *** ويأتيك بالأخبارِ مَن لم تُزَوِّدِ


وإذا كنا جادين بعلاج هذه المشكلة فإننا نعتب على بعض الصحف والمجلات التي تدعو أبناء الوطن إلى السياحة خارج الوطن، ونعتب -أيضا- على مؤسسات السفر والسياحة والتي تقوم بتوزيع نشرات دعائية تتضمن دعوة شباب المسلمين لقضاء العطلة الصيفية في ربوع أوربا وأمريكا وغيرها من تلك البلاد، مع التنزيلات والتسهيلات لهم، كل ذلك من أجل الكسب المادي، حتى ولو كان حراما، فيا عجبا لهؤلاء! أين حبهم لوطنهم ولأبناء وطنهم؟!.


والعجب لا ينتهي من أولئك الآباء الذين استرعاهم الله -تعالى- على الذرية؛ فخانوها وفرطوا بها، وغدا الحساب بين يدي الله.


لقد أصدرت الجهات المختصة قرارا نافذا بمنع سفر المراهقين إلى الخارج، فماذا نقول للأب الذي هرول إلى تلك الجهات المختصة يطلب الاستثناء لولده من هذا القرار؟ أو ماذا نقول للأب الذي لا يعلم مكان ولده أفي شرق أم في غرب؟! بل مذا نقول لبعض ا لآباء الذين يسافرون –وللأسف!- بأسرهم وبناتهم لبلاد انتشر فيها التبرج والسفور، والخلاعة والمجون؟ ولا أدري كيف سيُبقي الحجاب على بناته وهن ينظرن إلى السافرات في كل جهة؟! بل كيف سيحفظ المراهقين من الشباب معه؟.


أي جناية يرتكبها أرباب الأسر حين يسافرون بمراهقيم والشهوة تتأجج في صدورهم إلى بلاد كل شيء فيها يدعو إلى الرذيلة؟ وما ظنكم -أيها الإخوة- بفتاة ضعيفة مسكينة وجدت نفسها فجأة في مجتمع إباحيٍّ تُرتكب الفاحشة فيه على قارعة الطريق؟ ماذا يجول في خاطرها ويتحرك في نفسها وهي ترى نظيرتها الأوربية والأمريكية قد حسرت عن فخذيها وذراعيها وصدرها وتأبطت ذراع شباب عربيد يجوبان الشوارع على أنغام الموسيقى الصاخبة؟!.


وربما كان سبب هذا السفر كله الزوجة المدللة التي تلح على زوجها أن يسافر بهم إلى هناك! فدلال الزوجات حلال عند البعض حتى وإن تعارض مع شرع الله! قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: مَن أحب شيئا من دون الله كما يحب الله -تعالى- فقد أشرك. فاتقوا الله أيها لآباء! إنما هي أمانات ستسألون عنها.


وقد ابتلي بالسفر للخارج بعض المنتسبين إلى الصحوة المباركة، فقد لا يكون غريبا أن ترى شابا ملتزما في الصالات الخارجية لأحد المطارات ومعه الزوجة المدللة التي ربما تكون ذات صولة وجولة مع الالتزام والصلاح، وإلى أين؟ إلى ديار الكفر والإباحية، وديار الفتنة والشهوة، وإني لأعجب ممن تزوج حديثا، يريد مِن الله التوفيق والجمع بينه وبين زوجه بخير، وهو يفتتح حياته الزوجية بالسفر لبلاد الكفر والإباحية! التي تكون مدعاة لمعصية الله -تعالى-، إن لم تكن هي بذاتها معصية! وقد أجاز العلماء لولي المرأة أن يشترط عند عقد النكاح ألا يسافر بها للخارج.


أقول لمن أصيب من المسافرين للخارج بالذهول والانبهار بالحياة الغربية، حياة الترف والرفاهية والانفتاح، أقول لهم، وأذكرهم بقول الله -تعالى-: (وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) [التوبة:55].


أيها المسافر: لا يغرك إمهال الله لهم، فالله -تعالى- يقول: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) [آل عمران:178].


أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:


الحمد لله على ما أولى، والشكر له على ما أسدى، حمدا كثيرا طيبا مباركا كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبد ورسوله الصفي المصطفى، والخليل المجتبى، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسار على نهجهم واقتفى.


أما بعد: فيا أيها المسافر! لقد ذكرت لك الأدلة العقلية على خطورة السفر إلى الخارج، وهي ظاهرة بينة لمريد الحق، ولو لم يكن هذا كله لكفانا حكم شرعنا؛ فالمسألة استجابة وطاعة لله، ويكفي من الأدلة قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين"، وهو -كما ترى أخي المسلم- كلام جاد لا يقبل التأويل، ووعيد أكيد لا يقبل الميوعة، يحسم النبي -صلى الله عليه وسلم- من خلاله هذه القضية الساخنة، وإن أبى ذلك عشاق السفر والسياحة!.


وأشد من ذلك قوله -عليه الصلاة والسلام-: "مَن جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله"، ومعنى هذا الحديث: من اجتمع مع المشرك في بلده أو سكن معه في بيته من غير ضرورة ولا حاجة فهو مثله في الشرك، فرحماك يا الله!.


ويباح السفر؛ بل وربما كان واجبا على فئة من الناس؛ كالدعاة إلى الله لنشر العقيدة الصحيحة في كل مكان، وهذا واجب على العلماء والدعاة وطلبة العلم؛ ولكن يجب أن لا تتخذ الدعوة ذريعة وبابا للسفر فيسافر كل من هب ودب من أجل الدعوة، ولذلك فلا بد من شروط تتوافر بمن يذهب إلى هناك، من إخلاص النية لله، وقوة الإيمان، والعلم الشرعي الذي يكون حصنا لحفظه بعد حفظ الله له، والابتعاد عن مواطن الشبهات والريب، والصحبة الصالحة المعينة على استغلال الوقت وحفظ النفس والدين، والإدراك وسعة الأفق، والعلم بواقع المدعوين هناك، وفقه الخلاف.


يقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: فنصيحتي لكل مسلم: الحذر من السفر إلى بلاد الكفر، وإلى كل بلاد فيها الحرية الظاهرة، والفساد الظاهر، وعدم إنكار المنكر، وأن يبقى في بلاده التي فيها السلامة، وفيها قلة المنكرات؛ فإنه خيرٌ له وأسلم، وأحفظ لدينه.


سئل شيخنا ابن العثيمين -رحمه الله- السؤال التالي: ما حكم السفر إلى بلاد الكفار؟ وحكم السفر للسياحة؟ فقال: السفر إلى بلاد الكفر لا يجوز إلا بثلاث شروط:
الأول: أن يكون عند الإنسان علم يدفع به الشبهات.
الثاني: أن يكون عنه دين يمنعه من الشهوات.
الثالث: أن يكون محتاجا إلى ذلك، فإن لم تتم هذه الشروط فإنه لا يجوز السفر إلى بلاد الكفار؛ لما في ذلك من الفتنة أو خوف الفتنة، وفيه إضاعة المال، لأن الإنسان ينفق أموالا كثيرة في هذه الأسفار... اهـ.


أيها المسافر: هذا هو الحكم الشرعي للسفر لبلاد الكفار، فهل أنت ممن قال:(سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) [البقرة:285] فتركت ذلك من أجل الله، ومَن ترك شيئا لله عوضه خيرا منه، أم أنك ممن قال:(سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا)[البقرة:93] وممن يبحث لنفسه الحيل والمعاذير؟ فالله يعلم السر وأخفى.


فإن غلبتك نفسك الضعيفة وأبيت إلا السفر، فاسمع مني هذه التوجيهات:
تمسَّك بعقيدتك الصحيحة، واحذر أهل الأهواء والزيغ، وليكن كتاب الله لك جليسا، فهو خير جليس، وأعظم أنيس في دار الغربة.


وتذكر أنك إنسان ذو دين لا يتغير بتغير الأرض، وعقيدة لا تتبدل بتبدل المواقع، فأنت مسلم ملتزم بوحي السماء ، ونور النبوة، ولست في حاجة أن تقلد غيرك.


أخي، لا تستحي من إظهار شعائر دينك والتمسك بمظهرك الإسلامي؛ فحافظ على الصلاة أينما كنت، ولا يجوز لك تأخيرها عن وقتها بحجة السفر، فالمسلم متميز بشخصيته وعبادته، وسلوكه، وأخلاقه، لا يجامل على حساب دينه.


إياك أن تتساهل مع عائلتك بالحجاب أو باللباس الساتر! فإن هذا مما يعتز به المسلم، وكم من امرأة أجنبية أسلمت والسبب إعجابها بلباس تلك المرأة المسلمة، وإياك أن تترك أهلك وأولادك وبناتك وحدهم هنا أو هناك، فالنفس وحدها أضعف.


أيها المسافر: كن صورة مشرفة لدينك ووطنك في معاملتك مع الناس، وفي ابتعادك عن مواطن الشبهة والريبة، وفي ترفعك عن دنايا الأقوال والأفعال، وفي ابتعادك عن مواطن الرذيلة وبؤر الفساد ومذابح الفضيلة والعفة.


إياك أن تغتر ببريق المدنية الزائف! وانظر ما حباك الله به من نعمة الإيمان، واستغن به عما في أيدي القوم من الذل والهوان، وتذكر أنك في أماكن تكثر فيها الملذات والشهوات، وتنمو فيها الرذيلة، وتحاول الأيدي العابثة أن تتسلل إلى عقلك بالشبهات، وإلى نفسك بالشهوات، فاحذر ذلك كله، واحذر زيارة الحدائق والمنتديات التي فيها صخب ومسابقات توهن الإيمان في القلب، ولا فائدة منها.


وأخيرا؛ تذكَّر دينك وأمتك ورسالتك في الحياة، فلماذا لا تحمل همَّ الدعوة؟ فتحمل معك بعض المطويات والكتيبات والأشرطة بلغة القوم، فتهدي هذا وتعطي ذاك، لعل الله أن ينفع بها؛ فتكون كفارات لك، فلا تحرم نفسك الخير حتى وإن كنت مقصرا خطَّاء. واعلم أنه ما سمي السفر سفرا إلا لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، فأي شيء سيسفر عنه سفرك؟!.


أيها المسافرون: في مصايفنا وأماكن الترفيه في بلادنا الغُنْيَةُ عن السفر للبلاد الكافرة، نسأل الله أن يحفظها، ويحفظ أجواءها الإيمانية، فإن أعظم ما نتمتع به في مصايفنا هو نعمة الأمن والإيمان، بعيدا عن أجواء المعصية والمنكرات والفسق والمجون، حيث الترفيه المباح، والمتعة الاجتماعية المحافظة، والأجواء المناخية الجميلة، وربما طرح لعلاج مشكلة السفر للخارج والمحافظة على صحة شبابنا من الأمراض الجنسية ومن المخدرات والخمور: تنشيط السياحة في بلادنا، والعناية بمصايفنا، وتكثيف البرامج الترفيهية للمرح والفرح.


وهذا شيء جميل، فالإسلام لا يمنع الفرح والمرح، ففي ديننا فسحة والحمد لله، فالله -تعالى- يقول: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [الأعراف:32].


ولكن؛ على أن يبقى هذا التنشيط بحدود الفرح المشروع، والمتعة الحلال والتي هي من أعظم أسباب السعادة وانشراح الصدر، فبعد هذه الآية مباشرة قال الله -تعالى-: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [الأعراف:33].


إننا نفخر ببلادنا في العالم أجمع بعقيدتها السمحة، وضوابطها الاجتماعية، وأجوائها المحافظة، حتى أصبح يغبطنا الكثيرون على هذه النعمة، بل أصبحت بلاد الحرمين مضرب المثل في الجمع بين الدين والدنيا، وبين التقدم والحضارة، والمحافظة على القيم والأخلاق، فلا نريد أن نخسر هذه الميزات التي نفخر بها لمجرد أن نعالج مشكلة السفر للخارج فنبيح الغناء أو الاختلاط مثلا، أو أن نجلب أهل اللهو والطرب، وكل عاقل يعلم أن هذه الأمور وغيرها كانت البدايات للانحلال والفساد في بلاد مجاورة تعاني الأمرّين، فلماذا نبدأ من حيث انتهى الآخرون؟!.


معاشر الإخوة: إن بلادنا ليست كغيرها من البلدان، فهي مهبط الوحي، ومنبع العقيدة الصافية، وأيضا فإن اختلاف الخصائص الاجتماعية والثقافية والعمرانية والتركيبة السكانية؛ عوامل هامة لها تأثيرها على نهج السياحة وبرامجها وأساليبها في مملكتنا الحبيبة، بل إننا نملك من الإمكانات والمواهب لتنشيط السياحة واستغلال الفراغ وقضاء الأوقات بالنافع المفيد والمتعة والمرح والفرح المشروع، ما تعالج به هذه المشكلة إذا تعاون الجميع، وتضافرت الجهود، وصدقت النوايا، وأخلصنا العمل لله.


فمجالات الترفيه المشروع واسعة ومتعددة، ومعالم بلادنا التاريخية والأثرية والشرعية -بل والثقافية- متميزة، ثم إن هناك ثلة من الناس الذين يسافرون للخارج لا يرضيها إلا المتعة الحرام والحرية غير المحدودة، فهؤلاء لا يعجبهم العجب، ولو تحولت بلادنا كلها جنات وأنهارا!.


إخوة الإيمان: هذه كلمات وشذرات حول السفر للخارج، والكلام فيه يطول، وحسبي ما ذكرت حبا وحرصا لكل مسلم.


اللهم وفقنا إلى ما فيه صلاحنا وسعادتنا ونجاحنا في الدنيا والآخرة، اللهم احفظ علينا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، واحفظنا من مُضِلَّات الفتن، ما ظهر منها وما بطن.

جديد المواد

تصميم وتطويركنون