المادة

الحسد

103 | 23-11-2016
عناصر الخطبة 1/ من مساوئ الحسد 2/ الفرق بين الحسد والغبطة 3/ مراحل تطورات الحسد 4/ انتشار داء الحسد 5/ أسبابه 6/ علاجه 7/ سوء حال الحاسد 8/ دفع شَرَّ الحاسد عن المحسود

ومَن تأمَّل حال الناس اليوم وجد أنَّ الحسد قد تعدَّى مداه، فكم هي النفوس التي تتنفَّس الهواءَ الملوَّث، وتشرب من المستنقعات الآسِنَة! تتشفى ممــَّن أنعم الله عليهم مِن فضله ورزقه بالحقد والحسد! فنبتت في نفسه نبتة خبيثة، أثمرت ثماراً بغيضة: كيداً وبغياً، ووشايةً وظلماً، وتصيداً ونميمة، حتى وصل الأمر إلى الاستعانة بالسحَرة والمشعوذين!..

الحمد لله رب العالمين، خرّت لعظمته جباه العابدين، فطوبى لمن عبد، واعترفت بوحدانيته قلوب العارفين، فويل لمن جحد!. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا راتق لما فتق، ولا فاتق لما رتق، ولا رازق لمن حُرم، ولا حارم لمن رُزق. وأشهد أن محمداً نبي الإسلام، وسيد الأنام، عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم أفضل الصلاة والسلام.


أما بعد:


عباد الله: حديثنا اليوم عن خصلةٍ من أعظم خصال الشَّرِّ، عن خُلُقٍ ذميمٍ، مرضٍ خطيرٍ، داءٍ عضالٍ، مُفْسِدٍ للدين، مُضِرٍّ بالبدن، منبعِ الشرورِ العظيمة، مفتاح العواقب الوخيمة، يورث الحقدَ والضغينة، يُفَكِّكُ عرى الأخوَّة، يُوغِرُ الصدور، يُشعل نارَ البغضاء، ويرفع راية العداء، بين الأقرباء والأصدقاء، ويقود المجتمع إلى الهلاك والدمار، تقع فيه النفوسُ وهي تشمئِزُّ منه، ويأسر العقولَ وهِي تستقبحُه، تتسلَّلُ إلى القلب بِذْرَتُهُ، فتكبر وتكبر، حتى تحرقَ القلبَ، وتأكلَ كُلَّ خيرٍ في النَّفْسِ.


إذا دخل بيتاً خلخل بناءه، وفرّق أبنائه، فكم من أسرة كدّر صفوها، وفرّق جمعها! استسلم له أصحاب القلوب المريضة، والنفوس الضعيفة، فأقضّ مضاجعهم، وأفسد حياتهم، فتجرعوا الغصص، وأكلهم الهمّ والغمّ، وذمهم الناس، واستحقوا الفضيحة في الآخرة.


أتدرون ما هو هذا الداء؟ إنه أول ذنب عُصي الله فيه بالأرض والسماء، نعـم! إنــه الحـسد، أول ذنب عصي الله به في السماء حين حسد إبليس آدم -عليه السلام- فلم يسجد له، وأول ذنب عصي الله به في الأرض حين حسد ابن آدم أخاه حتى قتله.


الحسد أحد أركان الكفر، فقد قيل إن أركان الكفر أربعة: الكبـــر، والحسد، والغضب، والشهوة. فالكبر يمنع الانقياد، والحسد يمنع قبول النصيحة وبذلها، والغضب يمنع العدل، والشهوة تمنع التفرغ للعبادة. الحسد الذي يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.


الحسد حالق الدين، كما قال المصطفى الأمين: "دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمُ: الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ، هِيَ الْحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَاكُمْ لَكُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ" خرّجه الترمذي.


الحسد داء الأمم، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنه سيصيب أمتي داءُ الأمم"، قالوا:وما داء الأمم؟ قال: "الأشرُ والبطرُ، والتكاثرُ والتنافسُ في الدنيا، والتباعد والتحاسدُ، حتى يكون البغي، ثم الهرجُ"، والأشر: الكبر والتفاخر والبطر، كفران النعمة والطغيان عن الحق.


الحسد الذي لم يسلم منه أحد، سواء كان في العلم بين العلماء، أو بين التجار في البيع والشراء، أو في المناصب بين أهل الجاه والسلطان، أو في التنافس والتفوق بين الأقران، أو في الحظ والجمال بين النساء.


اتقوا الله عباد الله، واحذروا أن تكونوا من أعداء نعم الله، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن لِنِعَم الله أعداء"، قيل: مَن هم يا رسول الله؟ قال: "الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله" أخرّجه الطبراني بإسناد حسن


الحسد هو كراهية وصول النعمة إلى الغير، وتمني زوالها عنه. أما إن كنت تتمنى مثلها فقط فهذه هي الغبطة ولا بأس بها، خاصة إن كانت في الخيرات؛ بل إن الله أثنى وحث على هذا فقال: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء:90]، وحث على المنافسة فقال: (خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين:26]، وقال (سابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [الحديد:21].


ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا ". وفي لفظ: "لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ فَسَمِعَهُ جَارٌ لَهُ فَقَالَ: لَيْتَنِي أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ فُلَانٌ فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُهْلِكُهُ فِي الْحَقِّ فَقَالَ رَجُلٌ: لَيْتَنِي أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ فُلَانٌ فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ".


فلنغبط الناس على مثل هذا، وفي مثل هذا فليتنافس المتنافسون؛ أما التنافس على الدنيا والترف والشهوات فلا فخر، بل هذا عند العقلاء تقليد وحمق وغباء، والمصيبة أن يحل محل التنافس: التحاسد، ويصل لحد البغي والكيد للمحسود، مر أنس بن مالك -رضي الله عنه- على ديار خربة خاوية فقال: هذه أهلكها وأهلك أهلها البغي والحسد، إن الحسد ليطفئ نور الحسنات، والبغي يصدق ذلك أو يكذبه، فإذ حسدتم فلا تبغوا.


وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ولا يجتمعان في قلب عبد الإيمان والحسد".


وتنبهوا عباد الله إلى أن الحسد أوله خطرة فإن لم تدفع وتجاهد، كانت قولاً وهمزاً وغمزاً، فإن لم تقطع أصبحت فعلاً وبغياً وظلماً، و قد لا يستطيع بعض الناس بدافع الغيرة أن يدفع ما يجد في نفسه على أخيه، لكن إياكم أن يَظهر ذلك! أو أن يصل الحسد للبغي والتعدي والكيد، قال ابن القيم في أثناء كلامه عن تفسير المعوذتين: وتأمل تقييده -سبحانه- شر الحاسد بقوله: (إِذَا حَسَدَ)؛ لأن الرجل قد يكون عنده حسد، ولكن يخفيه ولا يُرتب عليه أذى بوجه ما، لا بقلبه ولا بلسانه ولا بيده، بل يجد في قلبه شيئاً من ذلك ولا يعاجل أخاه إلا بما يحب الله، فهذا لا يكاد يخلو منه أحد إلا مَن عصمه الله. اهـ.


ومَن تأمل حال الناس اليوم وجد أن الحسد قد تعدَّى مداه، فكم هي النفوس التي تتنفَّس الهواءَ الملوَّث، وتشرب من المستنقعات الآسِنَة! تتشفى ممــَّن أنعم الله عليهم مِن فضله ورزقه بالحقد والحسد! فنبتت في نفسه نبتة خبيثة، أثمرت ثماراً بغيضة: كيداً وبغياً، ووشايةً وظلماً، وتصيداً ونميمة، حتى وصل الأمر إلى الاستعانة بالسحَرة والمشعوذين!.


فكم من نفْس تتقطع ألماً من أذى الحاسدين! وكم من بيت تهدّم بكيد الحاسدين! وكم من صحبة تفرقت بمكر الحاسدين! وكم صاحب جاه ومنصب أُشغل ببغي الحاسدين! وكم من امرأة تصطلي بنار الحاسدات!.


ولكنا نقول لكل الحاسدين: اعلموا أن الله بكل شيء عليم، وأن لليل سهاما لا تُخطىء: "ثلاث دعوات مستجابة: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده". اعلموا أن الله أخبرنا بالقرآن فقال: (إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ)، وقال: (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)، وقال: (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ)، فهل بعد هذا يُطلق العنان للقلب، فيبغض من يشاء،‍ ويكيد لمن يشاء؟.‍


ولو بغَى جبَلٌ يوماً على جبَلٍ *** لدُكَّ منهُ أعَالِيهِ وأسْفَلُهُ


فإذا كان الأمر كذلك فلنسأل أنفسنا: لماذا كل هذا البغي والحسد؟‍ وما الدافع لأذية المسلمين؟ الأسباب كثيرة، لكن حصرها الإمام الماوردي -رحمه الله- في أسباب ثلاثة، خلاصتها فيما يلي: بغض للمحسود، أو عَجْزٌ عن الوصول لما وصل إليه، أو لفضلِ نعمةٍ أو فضيلةٍ تميز بها المحسود.
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سَعْيَهُ *** فالقوم أعداءٌ له وخصومُ
كضرائر الحسناء قُلن لوجهها *** حسداً وبغياً: إنه لـدميم!


إخوة الإيمان: أليس هذا فضل الله يؤتيه من يشاء؟ (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء:54]؟ أليس هذا اعتراض على الله في قضائه وتقديره؟ فإن الحسود لا يرضى بقضاء الله عدلاً، ولا لنعمة الله من الناس أهلاً، لسان حاله يقول: ربنا لقد أسأت التدبير، وأخطأت التقدير، تعالى الله عن هذا علواً كبيراً، وكفى بذلك إثماً مبيناً!.


فهو ساخط لقسمة الله، كأنه يقول لربه -تعالى عن ذلك-: لم قسمت هكذا؟ والله -عز وجل- يقول: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [الزخرف:32].


وهكذا نجد أن نصوص القرآن والسنة تقرر أن الحسد اعتراض على الله في قضائه، واتهام له في قسمته بين عباده؛ لأن الحاسد يرى أن المحسود غير أهل لما آتاه الله، وأن غيره أولى منه، ولله الحكمة في تدبيره، فهو سبحانه يعطي ويمنع لحكمة بالغة، وكأن الحاسد ينكر ذلك.


ألا قل لمن كان لي حاسداً *** أتدري على من أسأتَ الأدبْ
أسـأت على الله في حكمه *** لأنك لم ترض لي ما وهب


وعلاج الحسد بالنسبة للحاسد يكون بالرضا بقضاء الله وقدره، ويأخذ النفس باللوم وقهرها بالندم، حتى يحب الخير لغيره كما يحب لنفسه، وليخش لقاء الله وسؤاله بين يديه، وليحرص على إنجاء نفسه من عذاب الله وقهره، وليكن دائم الذكر لله حتى يعينه على نفسه، وليتضرع إليه تعالى بإخلاص وصدق حتى يملأ بالنور قلبه، ويشرح للخير صدره، ويخرج من ظلمة الحسد إلى نور حب الخير لكل عباد الله.


وعليه أن يحكم نفسه عملياً فلا يقول ولا يفعل شيئاً يؤذي محسوده أو يضره أي ضرر، فإن لم يستطع فليهجر البيئة التي تغريه بالإيذاء، والصحبة التي تنفخ في نفسه أسباب الداء.


والعجب -أيها الإخوة- أن الحسد قاتل لصاحبه، إذ يصل إلى الحاسد خمس عقوبات قبل أن يصل إلى المحسود شيء من بغيه: غم لا ينقطع، ومصيبة لا يؤجر عليها، ومذمة لا يحمد عليها، وسخط الرب -سبحانه وتعالى-، وتغلق عليه أبواب التوفيق. فلله در الحسد! ما أعدله! بدأ بصاحبه فقتله!.


قال بكر بن عبد الله: كان رجل يغشى بعض الملوك فيقوم بحذاء الملك، فيقول: أحسن إلى المحسن بإحسانه، فإن المسيء ستكفيه إساءته، فحسده رجل على ذلك المقام والكلام، فسعى به إلى الملك، فقال: إن هذا الذي يقوم بحذائك ويقول ما يقول زعم أن الملك أبخر! فقال له الملك: وكيف يصح ذلك عندي؟ قال: تدعوه إليك، فإنه إذا دنا منك وضع يده على أنفه، لئلا يشم ريح البخر، فقال له: انصرف حتى أنظر.


فخرج من عند الملك فدعا الرجل إلى منزله، فأطعمه طعاماً فيه ثوم، فخرج الرجل من عنده، وقام بحذاء الملك على عادته، فقال: أحسن إلى المحسن بإحسانه فإن المسيء ستكفيه إساءته، فقال له الملك: ادن مني، فدنا، فوضع يده على فيه مخافة أن يشم الملك منه رائحة الثوم، فقال الملك في نفسه: ما أرى فلاناً إلا صدق!.


قال: وكان الملك لا يكتب بخطه إلا بجائزة أو صلة، فكتب له كتاباً بخطه إلى عامل من عماله: إذا أتاك حامل كتابي هذا فاذبحه واسلخه واحش جلده تبناً، وابعث به إلي، فأخذ الكتاب وخرج، فلقيه الرجل الذي سعى به فقال: ما هذا الكتاب؟ قال خطَّ الملك لي بصلة، فقال هبه لي فقال: هو لك، فأخذه ومضى به إلى العامل.


وقال العامل له: في كتابك أن أذبحك وأسلخك، قال: إن الكتاب ليس هو لي، فاللهَ اللهَ في أمري حتى تراجع الملك! فقال: ليس لكتاب الملك مراجعة، فذبحه وسلخه وحشا جلده تبناً، وبعث به، ثم عاد الرجل إلى الملك كعادته، وقال مثل قوله، فعجب الملك وقال: ما فعل الكتاب؟ فقال: لقِيَنِي فلان فاستوهبه مني فوهبتُه له، قال له الملك: إنه ذكر لي أنك تزعم أني أبخر، قال: ما قلت ذلك قال: فلم وضعت يدك على فيك؟ قال: لأنه أطعمني طعاماً فيه ثوم فكرهت أن تشمه، قال صدقت، ارجع إلى مكانك، فقد كفى المسيء إساءته.


اصبِر على كيدِ الحَسو *** دِ فــإن صـبْرَكَ قاتِلُهْ
كالنار تأكُلُ بعــضها *** إن لـم تجد ما تأكله


قال بعض البلغاء: الناس حاسد ومحسود، ولكل نعمةٍ حَسود. وقال بعض الأدباء: ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحسود، نَفَسٌ دائم، وهمٌّ لازم، وقلب هائم، لا يُرضيه إلا زوال النعمة عمن حسده، وذلك بيد الله وحده. وقال معاوية -رضي الله عنه- يوصي ابنه: يا بني، إياك والحسد! فإنه يتبين فيك قبل أن يتبين في عدوك.


ومن يتدبر كتاب الله تعالى يجد فيه مصير أهل البغي والحسد، وعاقبة المتقين من المحسودين وغيرهم، كما ذكر الله في قصة قابيل وهابيل، وفي قصة يوسف وإخوته عندما حسدوه لفضله فأظهره الله تعالى عليهم، ويجد كذلك صفات الدعاة المخلصين الصادقين في دعوتهم؛ من الذين كانت قلوبهم سليمة من الغل والحسد، كما ذكر الله حال صاحب يس الذي قال بعد أن قتله قومه: (قِيلَ ادْخُلْ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ) [يس:26-27].


وقِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ"، قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ وَلَا غِلَّ وَلَا حَسَدَ".


ألا فاتقوا لله أيها المسلمون، واجتنبوا الحسد؛ فإنه يأكل صاحبه، ولا يجلب منفعة ولا يزيل نعمة؛ بل الأمر بيد الله -عز وجل-: لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، واسألوا الله من فضله، (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) [النساء:32].


أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب.

الخطبة الثانية:


الحمد لله رب العاملين، خلق آدم من طين، وجعل نسله من سلالة من ماء مهين، ونفخ فيه من روحه وأكرمه على خلقه وأمر ملائكته بالسجود له، فحسده على ذلك إبليس اللعين؛ وأُصَلِّي وأسلم على محمد المبعوث رحمة للعالمين.


أما بعد: فأما أنت أيها المحسود فاعلم أن كل ذي نعمةٍ محسود، وربما كان هذا لخير أراده الله لك، فكم انقلبت المحنة إلى منحة.


وإذا أراد اللهُ نشرَ فضيلةٍ *** طُوِيَتْ أتاح لها لِسَانَ حَسُودِ
لولا اشتعالُ النارِ فيما جاوَرَتْ *** مَا كان يُعرَفُ طِيبُ عَرْفِ العود


وإني أدعو كل محسود ومسحور ومَعين؛ بل وكل مصاب، للاستماع لهذه الكلمات النفيسة والدرر الغالية التي جاد بها يراع ابن القيم -رحمه الله-، أنقلها لك باختصار:


دفع شر الحاسد عن المحسود بعشرة أسباب:
أحدُها: التعوذ بالله من شره، والتحصن به، واللجأ إليه.


والثاني: تقوى الله وحفظه عند أمره ونهيه، فمَن اتقى الله تولى الله حفظه ولم يكله إلى غيره، قال تعالى: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [آل عمران:120]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك".


السبب الثالث: الصبر على عدوه، وألا يقاتله، ولا يشكوه، ولا يحدث نفسه بأذاه أصلا، فما نصر أحد على حاسده وعدوه بمثل الصبر عليه، والتوكل على الله، ولا يستطيل تأخيره وبغيه، فإنه كلما بغي عليه كان بغيه جندا وقوة للمبغي عليه، وما من الذنوب ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم، وقد سبقت سنة الله أنه لو بغي جبل على جبل جعل الباغي منهما دكا.


السبب الرابع: التوكل على الله؛ فمن يتوكل على الله فهو حسبه، والتوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم، فإن الله حسبه أي: كافيه، ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه، ولا يضره إلا أذى لابد منه كالحر والبرد والجوع والعطش، وأما أن يضره بما يبلغ منه مراده فلا يكون أبدا، فلو توكل العبد على الله حق توكله وكادته السماوات والأرض ومَن فيهن لجعل الله له مخرجا من ذلك وكفاه ونصره.


السبب الخامس: فراغ القلب من الاشتغال به، والفكر فيه، أي من الحسد والحاسد، وأن يقصد أن يمحوه من باله كلما خطر له فلا يلتفت إليه ولا يخافه ولا يشغل قلبه بالفكر فيه، وهذا من أنفع الأدوية، وأقوى الأسباب المعينة على رد شره، فلا يخطره بباله، فإذا خطر بباله بادر إلى محو ذلك الخاطر والاشتغال بما هو أنفع له وأولى به، فبغي الحاسد الباغي يأكل بعضه بعضا، فإن الحسد كالنار فإن لم تجد ما تأكله أكل بعضها بعضا، وهذا باب عظيم النفع لا يلقاه إلا أصحاب النفوس الشريفة، والهمم العالية.


السبب السادس: الإقبال على الله، والإخلاص له، وجعل محبته وترضيه والإنابة إليه في محل خواطر نفسه وأمانيها تدب فيها دبيب تلك الخواطر شيئا فشيئا حتى يقهرها ويغمرها ويذهبها بالكلية، فتبقى خواطره وهواجسه وأمانيه في محاب الرب والتقرب إليه.


السبب السابع: تجريد التوبة إلى الله من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه؛ فإن الله تعالى يقول: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى:30]، وقال لخير الخلق بعد الأنبياء، وهم أصحاب نبيه: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:165].


فما سلط على العبد من يؤذيه إلا بذنب يعلمه أو لا يعلمه، وما لا يعلمه العبد من ذنوب أضعاف ما يعلمه منها، وما ينساه مما علمه وعمله أضعاف ما يذكره، فليس للعبد إذا بغي عليه وأوذي وتسلط عليه خصومه شيء أنفع له من التوبة النصوح، وعلامة سعادته أن يعكس فكره ونظره على نفسه وعيوبه وذنوبه فيشتغل بها وبإصلاحها بالتوبة منها، فلا يبقى فيه فراغ لتدبر ما نزل به؛ بل يتولى هو التوبة وإصلاح عيوبه والله يتولى نصرته وحفظه والدفع عنه ولابد، فما أسعده من عبد! وما أبركها من بركة نزلت به! وما أحسن أثرها عليه! لكن التوفيق والرشد بيد الله، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما أخذ.


السبب الثامن: الصدقة والإحسان ما أمكنه؛ فإن لذلك تأثير عجيب في دفع البلاء ودفع العين وشر الحاسد، ولو لم يكن في هذا إلا تجارب الأمم قديما وحديثا لكفى به، فما يكاد العين والحسد والأذى يتسلط على عبد متصدق، وإن أصابه شيء من ذلك كان معاملا فيه باللطف والمعونة والتأييد، وكانت له فيه العاقبة الحميدة، فالمحسن المتصدق في خفارة إحسانه وصدقته عليه من الله جُنة واقية، وحصن حصين. وبالجملة؛ فالشكر حارس النعمة من كل ما يكون سببا في زوالها.


ومن أقوى الأسباب حسد الحاسد والعائن فإنه لا يفتر ولا يني ولا يبرد قلبه حتى تزول النعمة عن المحسود، فحينئذٍ يبرد أنينه، وتطفأ ناره -لا أطفأها الله!- فما حرث العبد نعمة الله عليه بمثل شكرها، ولا عرَّضَها للزوال بمثل العمل فيها بمعاصي الله، وهو كفران النعمة، وهو باب إلى كفران المنعم، فالمحسن المتصدق يستخدم حرسا وجندا وعسكرا يقاتلون وهو نائم على فراشه، فمَن لم يكن له جند ولا عسكر وكان له عدو فإنه يوشك أن يظفر به عدوه وإن تأخرت مدة الظفَر، والله المستعان!.


السبب التاسع: وهو من أصعب الأسباب على النفس وأشقها عليها، ولا يوفق له إلا مَن عظم حظه من الله، وهو إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه، فكلما ازداد أذى وشرا وبغيا وحسداً ازددت إليه إحسانا وله نصيحة وعليه شفقة، وما أظنك تصدق بأن هذا يكون فضلا عن أن تتعاطاه! فاسمع الآن قوله -عز وجل-: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [فصلت:36].


وقال: (أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [القصص:54].


السبب العاشر: وهو الجامع لذلك كله، وعليه مدار هذه الأسباب، وهو تجريد التوحيد، والترحل بالفكر في الأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم، والعلم بأن هذه الآلات بمنزلة حركات الرياح وهي بيد محركها وفاطرها وبارئها، ولا تضر ولا تنفع إلا بإذنه، فهو الذي يحصن عبده بها، وهو الذي يصرفها عنه وحده لا أحد سواه، قال تعالى: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [يونس:107].


وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك".


فإذا جرد العبد التوحيد فقد خرج من قلبه خوف ما سواه، وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه من الله، فالتوحيد حصن الله الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين، قال بعض السلف: مَن خاف الله خافه كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه من كل شيء.


فهذه عشرة أسباب يندفع بها شر الناس الحاسد والعائن والساحر، وليس له أنفع من التوجه إلى الله وإقباله عليه وتوكله عليه وثقته به، وألا يخاف معه غيره؛ بل يكون خوفه منه وحده ولا يرجو سواه، بل يرجوه وحده فلا يعلق قلبه بغيره، ولا يستغيث بسواه، ولا يرجو إلا إياه، ومتى علق قلبه بغيره ورجاه وخافه وكل إليه، وخذل من جهته، وحرم خيره، هذه سنة الله في خَلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا.

جديد المواد

تصميم وتطويركنون