المادة

إلى الدائن والمدين

141 | 22-11-2016
عناصر الخطبة 1/أهمية القناعة والرضا 2/خطر الطمع والجشع 3/تقوى الله في المعاملات والاكتساب 4/بعض مظاهر أخذ أموال الناس بغير حق 5/خطر أخذ أموال الغير بغير حق والتوبة منها 6/خطر الدين 7/خطر جحد الدين والمماطلة في رده 8/هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في قضاء الدين 9/بعض القصص الرائعة في قضاء الدين 10/بعض آداب الدين
إن استدان ديناً جحده! وإن استقرض قرضاً تظاهر أنه نسيه! فسبحان ربي كيف يهنأ بالطعام والشراب والمنام، مَنْ ذمته مشغولة؟! ألم يسمع قول الله -تعالى-: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ) [البقرة: 188]؟! ألم يسمع قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: " كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه"[رواه مسلم]. فيأكل مال العباد، وينام قرير العين، ما كأنه فعل شيئا ثم يريد البركة، ويريد أن يسترزق!. اتقوا الله -عباد الله-: وأدوا ما في ذممكم من مال، ولو كان أقل من ريال، فإن الميزان يحصى مثاقيل الذر. وليس ثمت دينارا ولا درهما، إنما...

الخطبة الأولى:

الحمد لله ذي الآلاء، رزق الطير في السماء، والسمك في الماء، ورزق الحية في العراء، والدود في الصخرة الصماء، تكفل بالأرزاق، وكتب الآجال، فسبحان ذي العزة والجلال، مصرف الشؤون والأحوال، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على محمد، وعلى آل محمد، وعلى صحب محمد، ما اتصلت عين بنظر، وأذنٌ بخبر، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المحشر.

أما بعد:

عباد الله: إن من أعظم الصفات الشخصية للمسلم، إن من أعظم القيم والأخلاق: القناعة والرضا، بما قسمه الله للعبد من الرزق والعطاء، وفي زمن الماديات، والتكالب على الكماليات، يأبى أناس إلا أن يتكلفون ما لا يطيقون، وينافسون على ما لا يقدرون، يقترضون ويستدينون، ويسألون ويلحون، وربما يماطلون ويتلونون، المهم أن يكونوا كغيرهم مترفين، منعمين، على الولائم ينفقون، وبالكرم يتظاهرون، حتى تتراكم الديون، وعن الوفاء يعجزون، وإذا نصح ناصح قالوا: الأهل يريدون؟ والأولاد كغيرهم يلبسون ويتجملون؟

سبحان الله! أيكون كل هذا على حساب حقوق العباد، وكثرة المطل والعناد.

أحقاً -يا عباد الله-: أننا نعيش في زمن صعب؟ أم أننا أًصبنا بالجشع والطمع، حتى صوّر لنا الشيطان الفقر بين أعيننا؟!

يقول الحق -عز وجل-: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 268].

سبحان الله لم لا يرضى هؤلاء بالستر والكفاف؟ أولا يعلمون أن الغنى غنى النفس؟ وأن الحياة الطيبة إنما هي بالقناعة والرضا؟

ألم يسمع هؤلاء لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ، جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ"؛ كما في سنن ابن ماجة.

أسأل نفسي وأسألكم إخوة الإيمان: همّنا إلى أين؟ من منا همّه للآخرة؟ وهل حقا همّنا إلى الدنيا؟

إن كان الهمّ للدنيا فقد أخبرنا الحبيب -صلى الله عليه وسلم- بحقيقة لا مناص عنها: "مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ".

فرفقا -يا عبد الله-: بنفسك، ابذل الأسباب، واطرق الأبواب، مع القناعة والرضا، وسيرزقك رب الأرباب، وسيبارك لك بفعل الأسباب.

لقد أصاب نفوساً الفقر والهوان، والجشع والطمع لما تعلقت بالدنيا، ونظرت لما في أيدي الناس، وضعف عندها التوكل على الله، فوكلها الله للناس ذلة ومهانة، قال أبو ذر -رضي الله عنه-: "إن في القرآن آية لو أخذها الناس لكفتهم، ثم تلا: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)الطلاق: 2-3]..

بل لقد أخبر الله -عز وجل-، فقال: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[الأعراف:96].

تتلى عليهم الآيات، ويذكرون بالأحاديث الحسان والصحاح، وربما لا يعملون ولا يلتفتون لها!.

إنها تقوى الله -يا عباد الله-، إنها الخوف والتوكل على الله -عز وجل-، حقوق العباد!.

وفي البيع والشراء، والمعاملات والخصومات، مبنية على التقوى والخوف من الله -عز وجل-، ليست التقوى خفقة قلبٍ، ودمعة عينٍ، وقشعريرة جسد، ليست التقوى صفة لا يتصف بها إلا الكبار من الصالحين، التقوى صفة لعامة المسلمين في كل أمر من شؤون حياتهم، في بيعهم وشرائهم، في حقوق العباد، وفي المعاملات والخصومات، يجب أن تكون التقوى حاضرة قوية في نفس العبد، يستحضر رقابة الله، وعلم الله، إن الله سميع عليم، قال بعض السلف: "لو قمت في العبادة قيام السارية ما نفعك، حتى تنظر ما يدخل بطنك".

أسمعت أخي: لن تنفعك مظاهر الصلاح والاستقامة فقط، إن لم تتق الله في كسبك؛ فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ"[رواه مسلم].

وعن أبي سَلَمَةَ بن عبد الرحمن، قال: "كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ خُصُومَةٌ فِي أَرْضٍ، وَأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهَا، فَقَالَتْ: يَا أَبَا سَلَمَةَ اجْتَنِبِ الْأَرْضَ! فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الْأَرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ" يعني: يوم القيامة[رواه البخاري ومسلم].

معاشر الإخوة والأخوات: إن بعض الناس يتقالَّ الذي في ذمته، ثم لا يؤديه، ويماطل فيه، ولا يستسمح صاحبه، وهذا خطأ عظيم؛ فعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كَانَ عَلَى ثَقَلِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: كَرْكَرَةُ، فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: "هُوَ فِي النَّارِ" فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَوَجَدُوا عَبَاءةً قَدْ غَلَّهَا"[رواه البخاري].

المحسوبيات والهدايا للعمال، والعزائم والذبائح للمسئولين، هدايا العمال غلول؛ كما يقول عليه الصلاة والسلام، يقول أبو هريرة: "خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إِلَى خَيْبَرَ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلَا وَرِقًا، غَنِمْنَا الْمَتَاعَ وَالطَّعَامَ وَالثِّيَابَ، ثُمَّ انْطَلَقْنَا إِلَى الْوَادِي وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَبْدٌ لَهُ وَهَبَهُ لَهُ رَجُلٌ، فَلَمَّا نَزَلْنَا الْوَادِي قَامَ عَبْدُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَحُلُّ رَحْلَهُ، فَرُمِيَ بِسَهْمٍ، فَكَانَ فِيهِ حَتْفُهُ، فَقُلْنَا: هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "كَلَّا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّمْلَةَ لَتَلْتَهِبُ عَلَيْهِ نَارًا، أَخَذَهَا مِنَ الْغَنَائِمِ يَوْمَ خَيْبَرَ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ" لم يجعلها ليقتسمها مع المسلمين، غلها، أخفاها. قَالَ: فَفَزِعَ النَّاسُ، فَجَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ، أَوْ شِرَاكَيْنِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَبْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ" [رواه البخاري ومسلم].

عن زيد بن خالد -رضي الله عنه-: أن رجلاً من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- توفي يوم خيبر، فذكروا لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال: "صلوا على صاحبكم، غل في سبيل الله، ففتشنا متاعه فوجدنا خرزاً من خرز يهود لا يساوي درهمين" [رواه أحمد].

يا الله -يا عباد الله-: قيد شبر، وعود أراك، وشملة، وشراكٍ، وخرزة وعباءة، تفعل بهؤلاء الأفاعيل، وتحرمهم الجنة، وتُدخلهم النار، إنه الكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، إنه الميزان الذي يزن مثاقيل الذر -يا عباد الله؟!-: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه)[الزلزلة: 7- 8].

أين هذه المعاني؟ أين هذه النصوص؟ ممن عظم بطنه، ونبت لحمه، بمال غيره أكله بالباطل؟

إن استدان ديناً جحده! وإن استقرض قرضاً تظاهر أنه نسيه! فسبحان ربي كيف يهنأ بالطعام والشراب والمنام، مَنْ ذمته مشغولة؟!

ألم يسمع قول الله -تعالى-: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ) [البقرة: 188]؟!

ألم يسمع قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: " كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه"[رواه مسلم].

فيأكل مال العباد، وينام قرير العين، ما كأنه فعل شيئا، ثم يريد البركة، ويريد أن يسترزق!.

اتقوا الله -عباد الله-: وأدوا ما في ذممكم من مال، ولو كان أقل من ريال، فإن الميزان يحصى مثاقيل الذر.

وليس ثمت دينارا ولا درهما، إنما هي الحسنات والسيئات، وحقوق الآدميين لا تسقط بالتوبة فقط، بل لا بد من ردها إلى أهلها، وأنت مسؤول عن صغيرها وكبيرها، وقليلها وكثيرها: "ولا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه".

"فمن كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه، أو من شيء فليتحلله منه اليوم، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه"[رواه البخاري].

الخطبة الثانية:

إخوة الإيمان: إن الدين أمره عظيم، وخطره جسيم، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يغفر الله للشهيد كل ذنب إلا الدين"[رواه مسلم].

فإذا كان الدين لا يغفره الله لمن قتل في سبيله! فكيف بمن هو دون ذلك؟!,

وفي حديث أبي قتادة أن رجلاً قال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نعم وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر إلا الدين"[رواه مسلم].

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ قَالَ: "كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ وَضَعَ رَاحَتَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا نُزِّلَ مِنَ التَّشْدِيدِ؟ فَسَكَتْنَا وَفَزِعْنَا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ، سَأَلْتُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا التَّشْدِيدُ الَّذِي نُزِّلَ؟ فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ رَجُلًا قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، مَا دَخَلَ الْجَنَّةَ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ"[رواه النسائي وأحمد].

وقد امتنع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الصلاة على من مات وعليه دين؛ كما روى سلمة بن الأكوع قال: "كنا جلوساً عند النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أتي بجنازة، فقالوا: يا رسول الله صلّ عليها، قال: "هل ترك شيئاً؟" قالوا: لا، قال: "فهل عليه دين؟" قالوا: "ثلاثة دنانير" قال: "صلوا على صاحبكم" قال أبو قتادة: "صلّ عليه يا رسول الله وعليّ دينه، فصلى عليه"[رواه البخاري].

وفي رواية الحاكم في حديث جابر: "فجعل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إذا لقي أبا قتادة يقول: ما صنعت الديناران؟ حتى كان آخر ذلك أن قال: قد قضيتهما يا رسول الله، قال: "الآن حين برّدت عليه جلده".

قال ابن حجر: وفي هذا الحديث إشعار لصعوبة أمر الدين، وأنه لا ينبغي تحمله إلا من ضرورة.

وفي المسند أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن صاحبكم محبوس عن الجنة بدينه".

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه".

ومن الأحاديث الدالة على خطورة الدين وشدته: ما رواه أبو داود عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن أعظم الذنوب عند الله أن يلقاه بها عبد بعد الكبائر التي نها الله عنها: أن يموت رجل وعليه دين، لا يدع له قضاء".

عباد الله: أحاديث عظيمة، دالةٌ وقاطعة بعظم ذنب من مات وعليه دين، أليست هذه الأحاديث كفيلة بردع كل قلب يشم رائحة الإيمان، أن يتجنب الدين قدر الإمكان؛ لأنها حقوق الناس يتحملها في ذمته، ولا يدري هل يستطيع قضاءها أم لا؟

ورحم الله الإمام أحمد بن حنبل، فقد كان في الأسفار يسقي للناس، ويحمل الأحمال، ويؤجر نفسه حتى لا يحتاج إلى الدين، وسُرقت ثيابه بمكة فاختبأ في غار، فوجده بعض أصحابه بعد ثلاثة أيام، فأراد أن يرمي له بثوب يستر به عورته، فقال أحمد: لا آخذ منك شيئاً هبة ولا ديناً، ولكن أكتب لك أحاديث بأجرة، فرضي صاحبه بذلك، وهذا مثل عظيم في ترك الدين مع إمكان الاستغناء عنه.

فإذا اضطر أن يأخذ المسلم مال أخيه، فليحذر أن يماطل أو لا يؤدي الذي عليه، فقد ورد الوعيد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله".

بل كيف يجحد مسلم سلف أخيه، أو يماطله فيه، والمقرض فعل ذلك إحساناً وقربة: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) [الرحمن:60].

وإنما جزاء السلف: "الحمد والأداء"؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- [رواه النسائي].

وقال صلى الله عليه وسلم: "خيار الناس أحسنهم قضاءً" [متفق عليه].

بل كان صلى الله عليه وسلم يقضي الدائن بأكثر مما استدان منه، ويضاعف له الوفاء، ويدعو له؛ كما قال جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: "كان لي على النبي -صلى الله عليه وسلم- دين، فقضاني وزادني".

وقال عبد الله بن أبي ربيعة: "استقرض مني النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين ألفاً، فجاءه مال، فدفعه إلي، وقال: "بارك الله -تعالى- في أهلك ومالك"[رواه النسائي].

فهذا هو هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قضاء الدين، ولنا فيه أسوة حسنة، فمن استقرض منكم قرضاً فليؤده، ولا يماطل صاحبه، فإن مطل الغني ظلم، يُحل عرضه وعقوبته، ومن استقرض قرضاً يريد أداءه، فإن الله عون له؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه".

وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من حمل من أمتي ديناً ثم جهد في قضائه ثم مات قبل أن يقضيه فأنا وليه"[رواه أحمد].

وفي حديثها الآخر: "ما من عبد كانت له نيه في أداء دينه إلا كان له من الله عون" [رواه أحمد].

بل لقد قص النبي -صلى الله عليه وسلم- علينا موقفاً عجباً في الوفاء، والصدق؛ فأخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ فَقَالَ: ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ؟ فَقَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، قَالَ: فَأْتِنِي بِالْكَفِيلِ؟ قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا، قَالَ: صَدَقْتَ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ، وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَأَلَنِي كَفِيلَا، فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا، فَرَضِيَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا، فَقُلْتُ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، فَرَضِيَ بِكَ، وَأَنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ، وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا، فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ فَأَتَى بِالْأَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ، قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ؟ قَالَ: أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الْخَشَبَةِ، فَانْصَرِفْ بِالْأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا".

ما أعظمها من قصة جمعت بين الإحسان، وحسن الأداء، والأمانة، والرضا بالله شهيداً وكفيلاً.

واعلموا: أن من آداب الدين إذا عجز أحدكم عن أداء ما عليه في حينه: أن يستسمح صاحبه، فإنه أطيب لخاطره، وأهدأ لباله، ولا يبيت أحدكم وفي ذمته دين قليل كان أو كثيراً، إلا كتبه في وصيته؛ لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما حق امرئ مسلم، له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" [متفق عليه].

ولا يذل أحدكم نفسه يستدين ثم يستدين، حتى يعجز عن الأداء، بل يصبر ويتعفف، ويلح على الله بالدعاء، فهو خير مسؤول، وليستعذ بالله من الدين؛ كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ بالله من الدين وغلبته.

ولا تنتظر ممن أقرضك ماله أن يأتيك فيسألك حقه، فلربما منعه الحياء، أو وكل أمرك إلى الله -تعالى-.

نامت عيونك والمظلوم منتبه *** يدعو عليك وعين الله لم تنم

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

جديد المواد

تصميم وتطويركنون