المادة

ثورات ومظاهرات.. فتن أم متغيرات؟

129 | 22-11-2016

عناصر الخطبة 1/ أهمية الاعتبار بالأحداث الجارية حولنا بسبب الفساد 2/ مأساة جدة وأسبابها 3/ الشأن العظيم للمسؤولية 4/ التعاون مع ولي الأمر لتحقيق كلمته الأبوية بمحاسبة المتهاونين.

الحمد لله علا وقهر، وعز واقتدر، لا محيد عن قضائه ولا مفرّ، الملكُ ملكه، والخلق خلقه، والأمر أمره، يحكم ما يشاء، ويفعل ما يريد، أحمدُه سبحانه، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وهو على كل شيء شهيد، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعه من العبيد.


أما بعد: أيها الناس! اتقوا الله حق تقاته، واشكروه على آلائه ونعمائه، ثم اعتبروا وتفكروا بحوادثَ وقضايا ومناسبات عدة مررنا بها هذه الأيام على مستوانا المحلي وعلى مستوى عالمنا العربي، بدءًا بثورة الشعب التونسي، واضطرابات الشعب الجزائري، ومظاهرات الشعب اليمني، ثم المصري، والنزاعات في لبنان، وأحداث جسام هنا وهناك، جعلت النفوس تحتار وتضطرم، فهل هي فتن لها ما بعدها؟ أم هي متغيرات عالم التقنية وجيل وسائل التواصل الاجتماعي من "فيس بوك" و"تويتر"، ونحوها؟! والذي لم يَعد يُرضيه سوى العيش بكرامة وإنسانية تحقق له أبسط الحقوق البشرية.


أتأمل هذه الحوادث المتسارعة! ثم أتأمل في نعمة المطر في هذه الأيام الجميلة المونقة بزخات المطر والأجواء الربيعية الخلابة! والتي طرب لها واستمتع بها أناس، لكنها في الوقت نفسه أهلكت وحزن بها آخرون، فمجرد ساعات من الأمطار جادت بها السماء كانت كافية في كشف حجم الخيانة، وضعف الأمانة، من أكثر من عام، فما الذي تمّ، وماذا عُمل؟.


ساعات كشفت الخلل المتراكم عبر السنين في البُنى التحتية، هطلت أمطار كان من المفترض أن تكون أمطار خير وبركة، تسقي الأرض، وتهدِّئُ النفس، فتكون غَيْثًا مُغِيثًا، نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ، إلا أنه؛ بسبب التقصير، وسوء التصرف في التخطيط وتنفيذ المشاريع، تحوّل غيث الخير والبركة إلى بُعاق هائج مائج، قطرات أصبحت في لحظات سيولاً جارفةً، فانقلب الخير إلى كارثة؛ فكارثة جدة المائية للمرة الثانية بعامها الثاني خيّمت بسوادها على سمائنا.


أوَّاه جدَّةُ والأسَى يَتَكَرَّرُ *** أوّاهُ! لكنْ مَن لِصَوْتِكِ يَسْمَعُ


ولقد كان تكرار الحادثة أعمق أثرًا في النفوس، وأكثر حزنًا وألَمًا، ليس فقط بما سببته من خسائر في الأرواح والمباني والسيارات والممتلكات والمرافق، فكل هذه -رغم فداحتها ومرارة ألمها على قلوبنا- فإنها تبقى في دائرة القدر المكتوب، فالحمد لله على قضاء الله وقدره،، ورضينا بالله وقضائه.


لكن الأشد ألَماً، والأعمق أثراً في نفوسنا، والعامل المشترك في مثل هذه الحوادث في كل عالمنا، هو أننا مهما التفتنا وبحثنا فلا نكاد نجد سبباً لغضب الشعوب المغلوبة على أمرها سوى الفساد الإداري، وخيانة المسؤولية، واستغلال السلطة، ذلك الوباء الذي عم وطم، وضرب أطنابه في جنبات عالمنا العربي والإسلامي، وللأسف! الغش للمجتمع وللوطن وللدولة، جشَعٌ وبَشَعٌ وطمَع، زاد من تضخمه انعدام الرقابة وضعف المتابعة، والمحسوبيات والرشاوي.


وليست المشكلة بقلة في الميزانيات المعتمدة، ولا لشح في الإمكانات والقدرات والطاقات، وإنما -وبكل مصارحة ومكاشفة- سببه الخيانة وذهاب الأمانة، والفساد الإداري، واستغلال النفوذ، والتي تحدثنا عنها مرات من على هذا المنبر، وصدق الله العظيم (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً) [الأنفال:25].


سبحان الله! في جدة فاجعة تتكرر بسبب أمطار تسقط بشكل شبه يومي على العديد من دول أقل من بلادنا في الإمكانات والقدرات، ولا ينتج عنها خسائر وأضرار مفجعة على نحو ما شوهد في محافظة جدة، وهذا مما زاد من الألم والغصة، وأثار أكثر من تساؤل لدى الكثيرين، فلو جاءت هذه الفاجعة تبعًا لكارثة غير معتادة، ونتيجة للأعاصير والفيضانات الخارجة عن نطاق الإرادة والسيطرة، لكانت معقولة مبررة، ولكن -بكل أسف-! نتجت عن أمطار دامت ساعات كانت بحاجة إلى حسن تصريفها، والتخطيط الصحيح لاستثمارها؛ لكنه البناء في مجاري السيل، وسوء التخطيط، وعدم الاحتراز، والغش والاحتيال، والقفز على الأنظمة التي تضمن السلامة والحق للجميع بعد توفيق الله وحفظه.


نعم إنها الأنانية الشخصية، والرشاوي والمحسوبية، وضعف الأمانة والمسؤولية، ظاهرة عمت وطمت، مما جعلت رجل الشارع العادي والمسكين الذي يبحث عن لقمة عيش، يخرج عن طوره وصبره، فهو يدرك أن السبب غش وخيانة، وطمع وجشع، جعلت المشاكل تتفاقم وتصل لحد الكوارث والنكبات، والعاقل من اتعظ واستفاد من الأحداث، فهذه المشاكل ليست في جدة فقط، بل في مدن عدة، وليست مشكلة أشخاص أو أفراد هنا أو هناك، بل ليس لنا جميعاً أن نتنصل عن المسؤولية، ونرمي باللائمة على أسماء أو جهات بعينها، فهذا -وإن كان مطلوباً وواجباً، بل وملحاً في مثل هذا الحدث- فإنه لا يجب أن يجعلنا نُغمض أعيننا عن مكمن المشكلة، الذي يشمل عالمنا الإسلامي والعربي، ويقع فيه الكثير منا حسب تدرج مسئولياته ودرجته.


فسرقة المال العام، والاحتيال على الأنظمة، ومخالفتها، ودفع الرشاوى، وشراء النفوس الضعيفة بالمأدبات والولائم والهدايا، وليس فقط بالدراهم والريالات، صفة ذميمة حذر منها الحبيب -صلى الله عليه وسلم- منذ أكثر من ألف وأربعمائة وثلاثين سنة، يوم قال: "لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي! فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي! فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ، يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي! فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي! فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ".


نعم لقد بلَّغ, وأحسن البلاغ؛ وهكذا وصف -صلى الله عليه وسلم- هول الفضيحة التي يتعرض لها السارق والغالّ من المال العام حين يأتي يوم القيامة وقد حمل على عاتقه ما كان قد سرقه في الدنيا، لا أقول سرق بعيراً ولا فرساً ولا شاة، بل ستتحمل الرقاب بشراً لهم كرامه تهان، ستتحمل الرقاب أنفسًا ضعيفة ضُيعت، أنفساً أزهقت، ستتحمل الرقاب ملايين مملينة تهدر وتسرق.


هكذا ذكر -صلى الله عليه وسلم- الخيانة والْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ، بل اسمعوه -صلى الله عليه وسلم- مرة أخرى يحذر الموظف والمسؤول المسلم من الاستخدام الشخصي لما بين يديه من أدوات مما تعود ملكيتها للصالح العام، أو للعمل الذي يعمل فيه، فيقول -صلى الله عليه وسلم-: "وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَرْكَبْ دَابَّةً مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى إِذَا أَعْجَفَهَا رَدَّهَا فِيهِ؛ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَلْبَسْ ثَوْبًا مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى إِذَا أَخْلَقَهُ رَدَّهُ فِيهِ". فكم من الدواب،!وكم من الثياب! وكم من الأموال! هُدِرت وسُرقت، والله المستعان.


إنها الخيانة للأمانة، أمرها عظيم، فهي ليس مجرد مال أكله فلان ونسيه، بل هي قتل وظلم، وتخريب وتشريد، كما حصل في أحداث جدة. فهل كان المهندس الذي خطط، أو المسؤول الذي وقَّع، أو المقاول الذي رشا وارتشى، هل كانوا يتوقعون أنهم سيتسببون في خراب ودمار أحياء بأكملها؟ هل كانوا يتوقعون أنهم سبب رئيس في إزهاق مئات الأنفس من الأبرياء؟ هل كانوا يظنون أنهم سيقتلون أو يُشتتون أسراً بأكملها؟ تتألم النفوس، وتدمع العيون، وتحترق القلوب، وهي تشاهد المناظر والمشاهد هنا وهناك، من أطفال ونساء صغار وكبار، وقد أُعيقوا لا يدرون ماذا يعملون، فاجأتهم السيول من كل مكان.


هل كان يظن هؤلاء أنهم سيقتلون أو يشتِّتون هذه الأنفس؟ ولذا لا عجب أن يلعن الله ورسوله الراشي والمرتشي، ولا عجب أن يصرخ -صلى الله عليه وسلم- بوجه أمثال هؤلاء فيقول: "إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ فَلَهُمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، نعم! النار! فيا ويل الخونة والرشاة والمفسدين من الله! يا ويل من خان الأمانة، واستغل المنصب والمسؤولية، وأكل مالاً بالباطل!.


واسمعوه -صلى الله عليه وسلم- مرة أخرى يحذر فيقول: "مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ، -اي أني أستقيل من عملك- نعم استقال لمجرد سماعه كلام الحبيب -صلى الله عليه وسلم-، استقال من عمله ومنصبه لمجرد سماع الكلام، فكيف بمن يرون الأنفس تزهق بسببهم؟ ويا ترى، هل سيقدمون استقالتهم؟ فقال له -صلى الله عليه وسلم-:"وَمَا لَكَ"؟ قَالَ: سَمِعْتُكَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا! قَالَ: وَأَنَا أَقُولُهُ الْآنَ: "مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى".


حتى الشهادة في سبيل الله لا تمحو خيانة وظلم هؤلاء، كما في حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا: فُلَانٌ شَهِيدٌ، فُلَانٌ شَهِيدٌ، حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ فَقَالُوا: فُلَانٌ شَهِيدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "كَلَّا! إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا، أَوْ عَبَاءَةٍ". يالله! كم من العباءات تغل، كم من البُرَد تغلّ في هذه الأيام في عالمنا العربي والإسلامي! إنها المسؤولية يا عباد الله! شأنها عظيم! وما منا أحد إلا ويحمل مسؤولية كبرت أم صغرت، فاحذروا وانتبهوا، فإن غضبت الشعوب على رؤسائها ففي كل دائرة رئيس، بل في كل بيت وأسرة، "فمَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ".


وحين سأل أبو ذر الرسولَ -صلى الله عليه وسلم- أن يستخدمه في عملٍ للدولة حذره من ثقل الأمانة، وعدم التمكن من النهوض بالمسؤولية، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي ثُمَّ قَالَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا". إي وربي! إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة! فيا لها من كلمات تهز النفوس، مهما كانت المناصب والوجاهات!.


يا الله! في طرفة عين أصبح المنصب فخاً، كان رئيساً فأصبح لاجئاً، فمن يتعظ؟! من يتفكر ويتدبر كيف تنقلب النعمة نقمة، كيف يتحول الخير إلى شر، كيف تكون الرحمة غضبًا، سبحان الله!


ما بين طَرْفَةِ عَيْنٍ وانْتِبَاهَتِهَا *** يُحَوِّلُ اللهُ مِن حالٍ إلى حالِ


نعم، يتحول الحال إلى أسوأ متى ضاعت الأمانة، وتحكمت الأهواء والأطماع في النفوس؛ ويتحول الحال إلى الأحسن متى صحا الضمير، وتحرك الإيمان، ومراقبة الله، ومتى التزمنا بالأنظمة والضوابط التي وُضعت لتسيير مصالح الجميع، وليس لأحد دون أحد، فكُلٌّ له حقوق، وكل عليه واجبات ومسؤوليات.


ولا يستقيم للأمة أمر،ٌ ولا يتَّسِق لها شأن، إلا إذا قام كُلٌّ بمسؤولياته، والتزم بأداء واجباته، بصدق وإخلاص، وتفانٍ وتضحية، ومراعاةٍ لحدود الله وأحكامه؛ فلا بد من استشعار المسؤولية وعظيم تبعاتها؛ من هنا جاءت الشريعة بكل المقومات الأساسية، والركائز الأصيلة التي تحفظ مقاصد المسؤولية، وتدْرأ عنها أسباب الانحراف، وعوامل الشر والفساد؛ مِن لعْن الرشوة والربا واستخدام المال العام وأكل أموال الناس بالباطل ونحوه، إذ إن من الأصول المقررة، والمبادئ المتفق عليها في الإسلام وجوبُ التعاون بين الراعي والرعية، وبين المسؤولين وكافة أفراد الشعب بكل أطيافه، فالقيام بالمسؤولية المناطة بالجميع بما يحقق الخير للأمة جمعاء، ويحفظ المصالِحَ للمجتمع، ويكفل الأمن والرخاء للجميع، واجب شرعي سماوي، قبل أن يكون واجباً اجتماعيا وطنياً إنسانياً.


عباد الله! مشاعر الناس ساخنة ملتهبة، وحق لهم ذلك، وأملهم في معرفة الخلل كبير، وشوقهم إلى تفعيل آلية الثواب والعقاب عارم، ولسنا نريد تقديم كبش فداء للجماهير الملتهبة، بل تقديم حلول عملية للمشكلة التي تتجاوز مجرد حدث بعينه إلى صناعة آلية جادة للتنفيذ والمتابعة والمراقبة، بل والمحاسبة، بكل شفافية، مع العناية بالجودة والإتقان.


ولعل الكلمات الأبوية التي سمعها الجميع من ولي الأمر بمناسبة كارثة جدة في العام الماضي تجد أثرها في نفس المسؤول، يوم قال -حفظه الله-: "المُتَعَيِّنُ علينا شرعًا التصدي لهذا الأمر، وتحديد المسؤولية فيه، والمسؤولين عنه، جهاتٍ وأشخاصًا، ومحاسبة كل مقصر أو متهاون، بكل حزم، دون أن تأخذنا في ذلك لومة لائم تجاه من يثبت إخلاله بالأمانة، والمسؤولية الملقاة عليه، والثقة المناطة به..."، مؤكدًا أنَّ "المواطنين والمقيمين أمانة في أعناقنا وفي ذمتنا"، ومكرراً أنه "يقول ذلك صدقًا مع الله قبل كل شيء، ثم تقريرًا للواجب الشرعي والنظامي، وتحمل تبعاته...".


فلنحفظ أمن بلادنا، ولنجعل الأحداث الخارجية والداخلية تزيد من لُحمتنا وتماسكنا لمواجهة مشاكلنا بكل شفافية لعلاجها، ولنكن عوناً لولي أمرنا لتحقيق هذه الشفافية، وبكل صدق وأمانة، كُلٌّ من خلال موقعه ووظيفته، صغُرت أم كبُرت، ولنقف بوجه كل مُخَالِفٍ ومُفْسِدٍ ومُرْتَشٍ، فلا يجوز السكوت عن الحق، فالساكت عن الحق شيطان أخرس، وغاش لربه ودينه ومجتمعه، وغاش لولي أمره الذي أعلن منهجه بكل وضوح.


أيها المؤمنون: إن إخواننا المنكوبين في أسرهم ومنازلهم وأموالهم في سيول جٌدة يعيشون ظروفاً صعبة وقاسية تحتاج لوقفة الجميع، وبكل أنواع الدعم المتواصل، المعنوي والمادي والإنساني، فقد فقدوا أهلهم وأموالهم وممتلكاتهم، فلنقف معهم، ولنخفف مصابهم، ولنسهل لهم العودة لحياتهم الطبيعية مرة أخرى؛ أرجو أن لا ننتظر أن يمدوا يدهم أو يطالبوا بحقوقهم، فكل أسرة تعيش قصة مأساة، وفي كل بيت هموم وأحزان وخسائر، فلا نريد أن نزيد آلامهم، بل لنسعى بجدٍّ لتخفيف مصابهم، فعلى الجميع -وخاصة الجهات المسؤولة عنهم- تحمُّـل المسؤولية بكل إخلاص وأمانة، وإحساس بحجم الحدث والمعاناة لأهلنا وإخواننا، فهذا حق لهم، فكيف ونحن في بلد الجود والإحسان، والذي طالما كان -ومازال- داعماً للمنكوبين في كل مكان، والأقربون أولى بالمعروف.


ثم إن علينا -معاشر المسلمين- أن نتعلم كيف نتعامل مع الأزمات دون أن نغرق في مآسيها، خاصة مع شدة تعاقبها وتلاحقها، فلو استسلمنا لها لأصابنا الاكتئاب والهم الذي قد يُوصل لإحراق النفس، إنما هو الاستعانة بالله، والإيمان بالقضاء والقدر والصبر، فلنُعمِل العقل، ولْنُفَكِّر في كيفية تخطِّي الصعاب بأمان، مع ضرورة التفكير فيما يتولّد عنها من أزمات ومصائب، فتراكمات المآسي أشد من بداياتها، فربما كانت هذه الكوارث على مستوى عالمنا العربي مؤشرًا إلى مآسٍ أخطر، ونذيرًا لنكبات أفظع، فيجب علينا التيقظ لها، وأخذ الحيطة والحذر منها!.


نسأل الله أن يدفع عنا وعن بلادنا وسائر بلاد المسلمين كل شر وبلاء، وأن يقينا من الفتن ما ظهر منها وما بطن؛ كما لا ننسى أنه ما وقع بلاء إلا بذنب، فلنراجع أنفسنا، ولننظر في أعمالنا، ولنرجع لربنا نادمين تائبين، ولنكثر من التوبة والاستغفار، وأعمال البر والمعروف، فإن صنائع المعروف تقي مصارع السوء.


اللهم اصرف عنا السوء، وأصلح أحوال المسلمين، والطف اللهم بإخواننا المنكوبين في جدة، واحفظ وحدة المسلمين في تونس ومصر واليمن ولبنان، وفي كل مكان، اللهم أصلح أحوالهم، وعظِّم أجرهم، واغفر لموتاهم، واقبلهم شهداء عندك، واشف اللهم مرضاهم، وفرج عن المهموم والمحزون، وقنا الشرور، وخوافي الأمور، برحمتك يا عزيز يا غفور، اللهم اجعلنا أمناء أوفياء مخلصين.


أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

جديد المواد

تصميم وتطويركنون